فنار عبد الغني - لبنان
الخاتم المبهر
بكل خفة كنت أحاول اختلاس النظر إلى خاتمها المُبهر الذي تزين به بنصرها العاجي. في الواقع لقد أبهجني خاتمها الأنيق الغريب الشكل وجذب انتباهي دون إرادة مني. لا أذكر أنني رأيت خاتماً بمثل هذه الروعة منذ أن تغيرت خريطة مفاهيمي للعالم القيمي التي جعلتني بدورها أمتنع عن الذهاب الى سوق الذهب نهائياً.
كان خاتمها المُبهر من الذهب الأبيض، تتوسطه لؤلؤة بيضاء برّاقة متوسطة الحجم تحيط بها حبيبات ماسية لا تقل بريقاً عنها، وتتخذ هذه الحبيبات الماسية شكل وريقات زهرية تفتحت لتوها، فتبدو قطعة اللؤلؤ المشرقة وكأنها نبتت من داخل الزهيرة الماسية.
لم أكن أعرف السيدة الأنيقة صاحبة الخاتم، لكن يبدو أنها في منتصف عقدها الخامس، ويبدو أنها إنسانة عصامية قد تفوقت في تخطيها للطبقة المتوسطة منذ زمن طويل. كانت تجلس بجواري، طاولتها ملاصقة لطاولتي، وعندما التفتُ إلى الخلف، أرى وجهها الجميل المُقاوم للتعب دون أي فواصل.
لقد دُعِيتْ مثلي لحضور ورشة العمل الخاصة بالإنماء والتطوير. إنه لقاؤنا السنوي الثالث على التوالي. لم نتحدث مطلقاً من قبل. وعلى الرغم من أن ورشة العمل قد بدأت منذ أربعة أيام، إلا أنني لم ألتق بها إلا اليوم، بعد أن بدلت وصديقتها مكان جلوسهما.
يغير البعض أماكن جلوسهم في العادة لتجنب الشعور بالملل في مثل هذه المحاضرات التي باتت لا تضيف شيئاً جديداً على معارفنا السابقة، لكني اشعر بأنها مفيدة لأنها تجمعنا بزملاء عمل من كافة المحافظات، فنتبادل الخبرات معهم ونتعرف على ثقافتهم وأنماط حياتهم ونتشارك معهم بعض الآلام والهموم والأحلام.
وعلى الرغم من الحر الذي بات لا يطاق والمكيف القديم القليل النفع والذي لا يبلغنا نفعه بسبب الزملاء القادمين من القرى الجبلية والذين يتركون باب القاعة مفتوحاً عند خروجهم إلى الرواق الطويل لتناول القهوة الساخنة، فإن صديقة السيدة صاحبة الخاتم، كانت تتحين الفرص لإطلاق الدعابات أو لتمرير بعض كلمات من طقطوقة قديمة، ويبدو أنها من عشاق صباح.
وأنا بدوري لم أكن أتمالك نفسي من الضحك عندما تتسلل إلى مسامعي بعض تعليقاتها المُضحكة، فكنت التفت إليهما مبتسمة وأنتهز الفرصة لإلقاء نظرة خاطفة على الخاتم.
أحب الأحجار الكريمة على اختلاف أنواعها وخاصة اللؤلؤ الذي ذكر في القران الكريم والعقيق الذي ذكر في حديث شريف. اللؤلؤ يشبّه بالقرآن أما العقيق فهو أول حجر شهد لله عز وجل بالوحدانية.
لقد احتفظت لسنوات عدة بخاتم من العقيق العسلي اللون، لكن للأسف الشديد فإن التعليقات المتعاقبة التي تلقيتها بسببه دفعتني لدفنه في صندوق خشبي، وخاصة تلك التعليقات التي اتهمتني بأني أنتمي لجماعة لا أحب ذكر اسمها، وغيرها من المضايقات.
سبحان الله خاتم من العقيق، ثمنه أقل من دولار، ابتعته من دكان يقع في قلب السوق الأثرية لمدينة صيدا، وكل بضاعة ذلك الدكان المخصص لبيع هدايا الحُجاج صناعة صينية، يصبح ذلك الخاتم مثار جدل وبلبلة الناس من حولي!
لقد خلعته واستبدلته بخاتم سبحة مصنوع من البلاستيك الأزرق، يحتوي على زر وشاشة صغيرة، عند الضغط على الزر، يظهر على الشاشة رقم يشير إلى عدد التسبيحات التي قمت بها ويسجلها ويحتفظ بها. وحتى هذا الخاتم لم ينج بدوره من التعليقات، لكني لم أتخل عنه.
ارتفع صوت الآذان معلناً وقت صلاة العصر. صمتت السيدتان برهة، ثم وقفت السيدة المرحة بعد أن تناولت حقيبة يدها مخرجة منها قارورة دواء، قائلة وبصوت مرتفع: "يا جماعة من يريد دواء ضغط أو وجع راس أو مكملات غذائية لتحسين المزاج؟"
ولما لم تلق جواباً من أحد، أخذت تبتلع من كل قارورة حبة دواء وكأنها في حلم.
أخرجتُ سجادة الصلاة المخصصة للسفر وغادرت الى غرفة مجاورة، وعندما أديت صلاتي، عدت الى القاعة.
كانت السيدتان لا تزالان في حالة من المرح. وفيما كنت أسحب الكرسي للجلوس وأنا اسبح مستخدمة خاتم السبحة، استوقفتني السيدة صاحبة الخاتم قائلة:
= "ما شاء الله! لقد أديتِ الصلاة. أنا لم أصل منذ أربعة أيام. أنا وصديقتي ننام عند أقرباء لنا هنا في بيروت، وعندما نعود مساءً نستكمل السهرة معهم حتى يغلبنا النعاس. غداّ عندما أعود للضيعة سوف أقضي ما فاتني من صلوات".
وابتسمت لي ابتسامة واسعة وطويلة، وسألتني بدهشة: "ما أجمل خاتمك! منذ الصباح وأنا أنظر إليه وأريد أن أسألك عنه".
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
الخاتم المبهر, حلا ياسين/ لبنان | 1 أيلول (سبتمبر) 2020 - 19:06 1
قصة رائعة و ذات عبر😍😍😍 دائنا متألقة معلمتي الفاضلة