فراس حج محمد فلسطين
المتنبي تحت ضوء الفلسفة
.
يتوجّه هذا البحث نحو "الرسالة الحاتمية فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة" لتبحث في عمل أبو علي محمد بن الحسن الحاتميّ ومنهجه وأهمية ما قام به بوصفه ناقدا في تناوله شعر المتنبي وإلقاء الضوء على علاقة شعر المتنبي ومعانيه بالفلسفة، فيما يتّصل بالمقولات الفلسفية والعقلية للفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، ويوازن الحاتميّ بينها وبين شعر المتنبي.
وتندرج رسالة الحاتميّ ضمن تلك الدراسات التي دخلت بطريقة موضوعية، وشبه منهجية في الجدل الدائر حول المتنبي للدفاع عنه والانتصار له. وهي دراسة تخصّ المعنى والأفكار دون البحث في القضايا الإبداعيّة الأخرى في شعر المتنبي كاللغة والبلاغة وأساليب التعبير الشعريّة المختلفة.
.
قيل عن المتنبي كثيرا، وقيل فيه أكثر، وتناول شعره وحياته دارسون متعددو الاتجاهات والمشارب الفكرية، منهم من كان ضده ومتعصبا عليه، ومنهم من كان معه ومتعصبا له، ومنهم من اختار الوقوف على الحياد، منصفا الشعر والشاعر من الهوى والميل. ومع كلّ ما يقال حول شعر المتنبي أو الحطّ من قدره الشخصيّ، إلا أنه استطاع أن يكون الشاعر الأبرز، عربياً، منذ عُرف شاعرا وحتى اليوم، وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والمتنبي شاعر مالئ الدنيا وشاغل الناس.
لقد تضافرت كثير من الأسباب التي جعلت المتنبي أعظم شاعر عربي، منها ما يعود إلى لغته، وأسلوبه، فهو شاعر يتّسم، على مستوى النص، بالفرادة والتميّز في اللغة وصنوف التعبير عن المعنى ورسم الصورة الشعريّة، ومنها ما يتعلق بالصنعة الشعرية المتقنة، والثقافة المتنوعة، والخبرة المختزنة فيه، كأنه يلخص الحياة وتجاربها بمجموعة من الأبيات، فلم يبدُ المتنبي مجرد شاعر يقرض الشعر الجيد، بل ذلك الخبير اللغوي والاجتماعي والسياسي الذي يشتقّ من الأحداث حِكَما عامة إنسانية، ويتسامى بها ليجعلها تلامس كل نفس بشرية وكل فكرة حية.
في هذا البحث الذي يتناول واحدا من المؤلفات عظيمة الفائدة في الإضاءة على شعر المتنبي من داخل المعنى ودوائره، سأتناول بالحديث جملة من القضايا وهي: حياة المؤلف الحاتمي وإنجازاته وعلاقته بالمتنبي، والمحتويات الأساسية للكتاب، ومناقشة منهجية المؤلف في الكتاب مستعينا بجملة من الأمثلة الواردة في الكتاب أو حسب ما يقتضيه البحث، وأناقش أخيرا أهمية الكتاب وبعض المآخذ عليه.
الحاتمي: حياته ومؤلفاته وعلاقته بالمتنبي
هو أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، عاش في العصر العباسي. مؤلف وناقد وشاعر ولغوي، ومطلع على الشعر والأدب في عصره وفي غير عصره، كما أنه مطلع على الفلسفة وأقوال الفلاسفة، وقد ساعدته ثقافته الموسوعية هذه أن تكون له مؤلفات مهمة، حملت شخصيته وعبّرت عن آرائه، والحاتمي نسب إلى أحد أجداده، توفي، رحمه الله، سنة ثمان وثمانين وثلاثمئة للهجرة.
ترجم له صاحب كتاب "وفيات الأعيان" في الترجمة رقم (649) في الجزء الرابع من الكتاب الذي حققه الدكتور إحسان عباس، ويصفه ابن خلكان باللغوي البغدادي، وهو كذلك "أحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين"، وأخذ عن مجموعة من أعلام عصره منهم: أبو عمر الزاهد وأبو القاسم التنوخي، ويقف طويلا ابن خلكان عند سبب تأليف الحاتمي لرسالة أخرى تقع في اثنتي عشرة كراسة يتتبع فيها الحاتمي سرقات المتنبي، وقد دعاه إلى ذلك كما يقول الحاتمي وينقل كلامه ابن خلكان أن المتنبي كان متكبرا، لا يرى أحدا غيره جديرا بالأدب والشعر، فأراد الحاتمي أن يبين له موقعه من إغارته على الشعراء قبله، يقول الحاتمي في ذلك: "فنهدتُ له متتبعا عواره ومقلّما أظفاره ومذيعا أسراره، وناشرا طاويه، ومنتقدا من نظمه ما تمسّح فيه". (وفيات الأعيان، 4: 362-367)
لذلك جاءت هذه الرسالة انتصارا لنفسه من تبجح المتنبي وشعوره بالعظمة، واستجابة مضمرة أيضا للوزير المهلبي الذي رفض المتنبي أن يمدحه بحجة أنه لا يمدح الوزراء مما أوغر صدره على المتنبي، فكانت رسالة الحاتمي الأولى "الموضحة" التي أبان فيها عن سرقات المتنبي، وتشهد هذه الرسالة على سعة اطلاع الحاتمي وثقابة بصره في الشعر ونقده.
على ما يبدو لم يكن هناك ما يدعو للعداوة بين الحاتمي والمتنبي، ولذلك يذكر ابن خلكان، أيضا نقلا عن الحاتمي نفسه أنهما التقيا، المتنبي والحاتمي، وأعجب الحاتمي به، وبعد أن حقق غرضه في الانتصار للوزير، أخذ يفكر جليا في رد الاعتبار للمتنبي فألف رسالته الثانية المعروفة بالحاتمية، وهي التي سأقف عندها وأحلل ما جاء فيها.
أما مؤلفاته فهي: الموضحة في مساوئ المتنبي، والحاتمية، والهلباجة في صناعة الشعر، وحلية المحاضرة في صناعة الشعر، والحالي والعاطل في الشعر، وسر الصناعة في الشعر، وكتاب الشراب، ومنزع الأخبار، ومطبوع الأشعار، وكتاب المجاز في الشعر، وكتاب جبهة الأدب، وفيه سرد للوقائع التي حدثت أثناء مناظرته للمتنبي، وكتاب المغسل. وقد غلب على الحاتمي اهتمامه في النقد ودراسة الشعر، فحاز اهتمامه هذا في عدة مؤلفات.
ويرى الدكتور زكي مبارك أن "هذا الإلحاح في الكتابة عن الشعر يدل على أنه (أي الحاتمي) كان من المولعين بدرس الشعر ونقده، وأنه كان من أئمة زمانه في هذا الباب"، كما أشار إلى أن أغلب كتب الحاتمي قد ضاعت، "ولم يبق منها إلا شواهد ضئيلة تذكي الحسرة في أنفس من يقدرون قيمة النقد الحق في دلالته على ثقابة الذهن، ومتانة العقل، وسلامة الذوق، وإفصاحه عن تطور الحياة العقلية في مختلف الأجيال". (النثر الفني، ص 463)
كتاب الرسالة الحاتمية وموضوعه
تناولتِ الرسالةُ الحاتمية في النسخة المطبوعة التي عدت إليها مائة مقابلة بين شعر المتنبي وأقوال لأرسطو طاليس الفيلسوف اليوناني المعروف، تلميذ أفلاطون، ومعلم الإسكندر الأكبر، وتقع الرسالة في أربع وسبعين صفحة كاملة ومحقّقة. ونُشرت ضمن عدد مجلة المشرق، السنة التاسعة والعشرين الصادر عام 1931م.
ويذكر محقق الرسالة التي بين يديّ، فؤاد أفرام البستاني، أن للرسالة عدة نسخ مخطوطة ومطبوعة، وسبقت طبعته وتحقيقه طبعتان أخريان، اختلف في كل منها عدد الأبيات التي يقابل فيها الحاتميّ بين شعر المتنبي وأقوال أرسطو. أما النسخة التي قام البستاني بتحقيقها فيصفها البستاني في مقدمة التحقيق بقوله: "وكنا قد وقعنا، في المكتبة الشرقية، على نسخة خطية للرسالة غاية في الجمال ثم على نسخة أخرى، فقابلناهما وعرضناهما على الطبعتين السابقتين، فإذا بعض الاختلافات والزيادات. فرأينا من الضروري أن تُعد لهذا الأثر القيم طبعة لائقة نبذل وسعنا في دقتها، ونعلق عليها بعض الحواشي، بعد أن نقدم بحثا فيما نعرفه عن حياة صاحبها".
يوضح المحقق في المقتبس السابق طبيعة عمله في إخراج نسخة من الكتاب تكون شاملة ووافية، تجمع كل ما في النسخ المطبوعة والمخطوطة التي سبقتها، وبذلك فهي أشمل نسخة، إذ جمعت كل الأمثلة التي تعرّض لها الحاتميّ في المقابلة بين شعر المتنبي وأقوال أرسطو، ويعد عمل الحاتمي في الرسالة عملا نقديا منهجيا بامتياز، له أهميته المعتبرة في حركة التأليف المنهجي في النقد العربي القديم، متمحورا حول مسألة لا تنفكّ مطروحة في كل أدب، وهي قضية "التأثر والتأثير"، هذه القضية النقدية التي قيل فيها الكثير من الكلام النقدي قديما وحديثا، ونشأ بسببها نظريات نقدية غربية في العصر الحديث.
منهجية المؤلف
كما أشرت سابقا فإن الحاتمي ألف رسالته ليعيد للمتنبي شيئا من حقه، بعد أن شعر أنه غمطه ذلك الحق في رسالته السابقة والمسماة "الموضحة في مساوئ المتنبي"، يقول في مقدمة الرسالة: "والذي بعثني على تصنيف هذه الألفاظ المنطقية، والآراء الفلسفية التي أخذها أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي منافرة خصومي فيه، لما رأيت من نفور عقولهم عنه، وتصغيرهم لقدره". (الرسالة، ص274-275).
ثم بيّن الحاتمي سبب ارتباط شعر المتنبي بالفلسفة، ولماذا هو قد توجه لبحث هذا الموضوع بالذات، بعد أن بيّن أن الإنسان قد فضل على سائر المخلوقات بالعقل والتفكير والنظر. يقول الحاتمي: "ووجدنا أبا الطيب أحمد بن الحسين المتنبي قد أتى في شعره بأغراض فلسفية، ومعانٍ منطقية، فإن كان ذلك منه عن فحص ونظر وبحث فقد أغرق في درس العلوم، وإن يك ذلك منه على سبيل الاتفاق فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة والألفاظ العربية، وهو في الحالتين على غاية من الفضل وسبيل نهاية من النبل". (الرسالة، ص 275)
إن في تعليل الحاتمي لاتفاق المتنبي مع أرسطو في تلك المواضع التي سيتحدث عنها ويشير إليها لهو تعليل منطقي، فالعلم إما أن يكون منقولا من الآخرين، أو مكتسبا من التجربة الشخصية وإما عن طريق التأمل الذي هو أيضا تجربة ذاتية للشخص مع ذاته، ومهما قيل في تعليل ذلك لدى المتنبي بوصفه شاعرا، فإن المسألة تشير إلى أمر مهم، وهو تلك المعاني المشتركة بين البشر، فلسفية وغير فلسفية، فثمة أفكار عامة ومشتركة عند كل الشعوب، عبّر عنها مفكروها وعلماؤها وشعراؤها، وقد كشفت الدراسات المقارنة كثيرا من هذه الحقائق، وخاصة فيما يتعلق بالموضوعات الإنسانية العامة الذاتية والفردية، كتعامل الشخص مع الأصدقاء أو الأعداء، أو الرضا والقناعة أو ما شاكل ذلك من المكتسبات الحياتية التي عاشتها البشرية ورصدت نتائجها عبر تاريخ طويل من الحياة المعيشة في ظل أوضاع متقلبة بين يسر وعسر وسلم وحرب.
وبعد أن يفسر الحاتمي الأساس المنطقي النقدي الذي دفعه لتأليف الرسالة عمد إلى مائة مقابلة، قابل فيها معنويا بين الحكمة الأرسطية وبيت المتنبي، وكان الحاتمي يورد أولا قول أرسطو ثم بيت المتنبي أو بيتيه، ولم يزد على البيتين إلى ثلاثة أو أكثر، لأنه ربما كان يبحث عن المعاني الجزئية الفلسفية في شعر المتنبي، فالعقلية العربية أيضا حتى ذلك الوقت كانت ترى في البيت الواحد مجالا للتفوق والتميز، وقد شاعت عند العرب أبيات مقتطعة من قصائد لتكون حِكَماً سائرة من شعر المتنبي ومن شعر غيره، أو ربما لأن المتنبي لم يقل شعرا فلسفيا كاملا بالمفهوم الدقيق للشعر الفلسفي، ليتناول فيه القضايا الفلسفية الكبرى كما فعل من جاء بعده من الشعراء الفلاسفة، كأبي العلاء المعري أو الشعراء الفلاسفة في العصر الحديث، فشعر المتنبي ليس شعرا فلسفيا وإنما احتوى أفكارا فلسفية جزئية، وهنا تأتي أهمية ملاحظة الحاتمي التي أشرت إليها آنفا في سبب الاتفاق بين المتنبي وأرسطو في بعض المعاني.
لقد عمد الحاتمي إذن إلى مقتبسات أرسطية قصيرة غالبا، فعرض معناها على شعر المتنبي ليراها في بيت من الشعر، ولم يتجاوز البيت إلا مرة واحدة بحيث ذكر بيتين مع المقابلة رقم (78)، ومن اللافت للنظر أنه مع هذين البيت يكتب الحاتمي، "يقول القائل"، ويتتبع المحقق في الهامش فيكتب أن هذين البيتين غير موجودين في ديوان المتنبي.
من أين جاء هذان البيتان إذاً؟ لعله خطأ، أو إطناب على الموضوع ذاته بفعل النسّاخ، فقد كان من عادة الناسخ الإضافة من عنده أحيانا إن رأى أنّ لديه ما يضيفه في الحاشية أو على هوامش الكتب المنسوخة، هذه الطريقة التي لم يسلم منها الحديث الشريف وعرفت بمصطلح "الإدراج" وهو أن يُدخل الراوي في الرواية ما ليس منها؛ سواء سندًا أو متنًا، دون فصل بينهما. وإن كان ما حدث بالفعل من عمل النسّاخ فإن الحاتميّ لم يخالف منهجه بتاتا، إذ اكتفى بمقابلة المقولة الأرسطية ببيت واحد فقط من شعر المتنبي.
وقد التزم الحاتمي أيضاً بمنهجية واحدة في تلك المقابلات الفلسفية؛ بحيث كان يورد أولا كلام أرسطو ثم بيت المتنبي. لقد قدم الحاتمي في هذه المنهجية أرسطو على المتنبي، بمعنى أن الفضل في المعنى لأرسطو وجاء المتنبي واقتبسه، ووظفه في شعره، أو عملا بالالتزام التاريخي، فأرسطو أسبق من المتنبي وكلامه كذلك، فمن حقه التقديم، فلا بد من أن يكون السابق أولا في الذكر.
وعلى الرغم من أن الحاتمي قد ألف رسالة أخرى فيما ادّعاه من سرقات المتنبي، وأشرت إليها فيما سبق، بعنوان "الموضحة" إلا أنه تجنب أن يصف المتنبي في هذه الرسالة بالسارق كما فعل في تلك الرسالة، لعل ذلك يعود إلى ما وضحه من سبب في بداية الرسالة، أو لأنه لم يكن النقد يرى أن هناك سرقة إذا وقع الشاعر العربي على كلام نثري، بل تجد أن بعض النقاد كان لا يرى بأسا في أن يأخذ لاحق عن سابق بشرط "تغريب المعنى" ونقله من غرض إلى غرض، وكان هذا من لطائف التوجيه النقدي في تلك المؤلفات التي بحثت السرقات الشعرية، فلم يقولوا مثلا عن دريد بن الصمة أنه سرق قصص العرب القديمة والأساطير وبعض كلام الإنجيل والتوراة التي وظفها في شعره، ولم يقولوا ذلك أيضا عن الشعراء المسلمين الذين اقتبسوا المعاني الدينية من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، إنما كانت السرقات محصورة في أخذ المعنى الشعري أو الصياغة الشعرية، إذ المعوّل في الشعر والشاعر أن يبحث عن خاصّته هو، معنى وبناء وأسلوباً وتراكيب وصورا بلاغية، مضيفا على ما قاله الشعراء قبله، ومتجنبا الأخذ عنهم أو السطو على أشعارهم؛ كأنّ الشعر دائرة محرّم المساس بها وانتهاك خصوصيتها، وعلى كل شاعر أن يحترم منجز الشعراء الآخرين.
تناولت مقابلات الحاتمي موضوعات اجتماعية وذاتية كثيرة، كالشهوة والعقل والنفس، وبحث الطباع وما إليها، والمصائب وحلولها، والموت، والزمان وما فيه من أحداث وحوادث ونوازل، والعلم والجهل، والسياسة، والحق والباطل، وما شاكلها من معانٍ عقلية وفلسفية، وقد بدأها ببحث الشهوة بمعناها الفلسفي وليس بالمعنى الحسي، أي شهوة الحياة أو الاستعداد لمواجهتها، فيورد قول أرسطو: "إذا كانت الشهوة فوق القدرة، كان هلاك الجسم دون بلوغها"، ويرى الحاتمي أن المتنبي وظف هذا القول في هذا البيت:
وإذا كانت النفوس كبارا = = تعبت في مرادها الأجسام
وأنهى تلك المقابلات بالإشارة إلى موضوع السياسة، وهي المسايسة والملاينة والملاطفة، وليس تلك التي تختص بالحكم وتدبير شؤون الناس والحياة، وإنما كمعنى اجتماعي ذاتي له ارتباط بالسلوك البشري الفردي، فيورد قول أرسطو: "من صحبة السياسة أن يكون الإنسان مع الأيام كلما أظهرت منه عملا ما عمل فيها بحسب السياسة"، يقول المتنبي:
وكل امرئ يولي الجميل محبب = = وكل مكان ينبت العز طيبُ
الكتاب: أهميته وبعض المآخذ على المؤلف
يعد كتاب "الرسالة الحاتمية فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو" من الكتب النقديّة التي خطت في النقد خطوات مهمة، سواء في موضوعها أو في أسلوبها، فالكتاب ذو نظرة رأسية معنوية؛ تحفر في المعنى الشعري وأصل هذا المعنى وارتباطه بالمصادر الأجنبية، وهي هنا الثقافة الإغريقية، إذ تكشف علاقة الثقافة العربية بغيرها من الثقافات الأخرى، وتؤكد اطلاع العرب وخاصة الشعراء على الفلسفة ونهلهم من المراجع الفلسفية غير العربية، فلم يعد الشعر إذاً، والحالة هذه، استجابة فورية للمشاعر، باكيا أو شاكيا، مادحا أو هاجيا، ثمة بعد نظر عند الشاعر، وثمة ثقافة يتثقف فيها الشاعر ويتزود بها.
تُدخل هذه الرسالة الدرس النقدي إلى آفاق الأدب المقارن، وتتبع الآثار الأخرى في الشعر العربي، وترى في الشعر حاملا للفلسفة، هذا العلم العقلي البحت الذي لم يعرفه الأدب العربي أو الأديب العربي والثقافة العربية إلا بفعل التأثر بالثقافات الأخرى.
لقد سبق الفلاسفة العرب والمسلمين المتنبي إلى الاشتغال بالفلسفة، وخاصة علماء الكلام من المعتزلة والجبرية والقدرية وغيرهم من الفِرَق الإسلاميّة، إلا أن الفلسفة كانت موقوفة على الدرس العقائدي للرد على خصوم العقيدة الإسلامية ممن يطعنون فيها وفي مباحثها أو لتكون طريقة في المساجلات البينيّة بين أتباع تلك الفرق، وفي هذه الرسالة أتاح الحاتمي أن ندرس شعر المتنبي على هَدْيٍ من الموضوع الفلسفي، ما يفتح المجال لسؤال كبير، ما زال يتردد صداه بين الدارسين إلى الآن، وألفت من أجل الإجابة عليه كتب متعددة. هذا السؤال هو: ما علاقة الشعر بالفلسفة؟
أضف إلى ذلك فإن هذه الرسالة كشفت عن عدة الناقد النقدية في أمرين اثنين على أقل تقدير، الأول: أن يكون واسع المعرفة موسوعيّ الثقافة ليستطيع مجاراة المبدع فيما يكتب، فالشاعر المغرّب في معانيه وألفاظه والدقيق في أساليبه يلزمه ناقد خبير ليكشف عن مصادر ثقافته، فلم يعد النقد مكتفيا بالتفسير اللغوي أو البلاغي الخارجي للنصوص، ثمة ما هو أرحب وأعمق في العملية النقدية. وأما الأمر الثاني فقد كشفت الرسالة عن شخصية الحاتمي وقدرته على الربط ولمح التشابه بين ما قاله أرسطو وما نظمه المتنبي. وهذه ميزة مهمة يجب أن يتحلى بها كل ناقد تتمثل في قدرة عقلية مفكرة وبديهة حاضرة وملكة مدربة وحسّ مرهف في التقاط المعاني والموضوعات وتأطيرها ضمن منهجية نقدية واضحة المعالم، عدا أن الناقد لم يظهر مشاعر من أي نوع لا مع المتنبي ولا ضده في هذه النماذج التي تمّ عرضها.
وأخيراً، فإنّ هذه الرسالة تفتح الباب واسعاً لدراسة شعر المتنبي، وغيره من الشعراء الفلاسفة القدماء، كالمعرّي مثلاً، بناء على أقوال فلاسفة آخرين متقدمين، أو فلاسفة متأخرين، كما فعلت الدكتورة ريم سليمان الخش في مقالتها التي بحثت فيها العلاقة بين شعر المتنبي وبين أقوال نيتشة في كتابه "هكذا تكلم زردشت" ونشرتها تحت عنوان "نيتشة والمتنبي وإرادة القوة والإنسان المتفوّق". (جريدة عالم الثقافة الإلكترونية: https://cutt.us/UHnkZ).
أما ما قد يؤخذ على عمل الحاتمي في هذه الرسالة، فهو عدم تفريقه أو إشارته لما هو معروف لدى البشر جميعا من المعاني، فقد اكتفى بالمقابلة دون شرح أو توجيه أو تعليق، مع أن الحاتمي أشار بشكل عام إلى ذلك في المقدمة، ولكنه لم يربطه بالمشترك المعنوي الفلسفي العام عند الناس أجمعين بغض النظر عن ثقافتهم، كما هو الحال في مسألة الطبع والتطبّع مثلا التي أشار إليها الحاتمي في المقابلة الثانية نقلا عن أرسطو: "روم نقل الطباع عن ذوي الأطماع شديد الامتناع"، فيقابله ببيت المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم = = وتأبى الطباع على الناقل
فربما شعور الحاتمي بالذنب تجاه المتنبي فيما ذكره من سبب تأليف هذه الرسالة دعاه ليبحث له عن كل المعاني العقلية، ويجد لها مثيلا في أقوال أرسطو. وهنا ربما دخل العمل النقدي في غير الموضوعية والتحيز الذي يجب أن يحذر منهما الناقد أشد الحذر، سواء أكان ناقدا منتقدا أم مادحا وشارحا، مع استبعادي لذلك؛ فهو، كما أشرت آنفا، لم يُبدِ أي نوع من المشاعر مع المتنبي أو ضده ما خلا المقدمة التي بين أن هدفه إنصاف المتنبي من خصومه، وهذا هو واجب الناقد حتماً، فالإنصاف، بطبيعة الحال، ليس تحيّزاً يؤاخذ عليه النقّاد.
لم يكن لدى الحاتمي منهجية خاصة بإيراد الأبيات وحِكَمها الأرسطيّة، فلم يرتبها حسب الموضوع مثلا أو حسب القافية، ولم يشر إلى القصيدة التي جاء فيها البيت، هذا الأمر الذي تداركه عليه المحقق، فأعاد كل بيت إلى قصيدته، كما أنّ الحاتميّ لم يبيّن مصدره أو مصادره التي استقى منها أقوال أرسطو، وهذا الجانب ما تجاوز عنه أيضا محقّق الرسالة فؤاد أفرام البستاني، فلم يبيّن مصادر الحاتمي كذلك، مما يستدعي جهداً بحثيا آخر للكشف عن هذه المصادر من باحثين آخرين يكملون هذا الجهد النقديّ المهمّ، إذ لا بدّ من معرفة المصادر البحثية الأساسية لعمل الناقد، وخاصّة إن كان عمله النقدي عملا مقارنا مقرونا بثقافة أخرى ولغة أخرى، قد لا تكون هذه المصادر متوفرة للقارئ أو للدارسين بسهولة، فالإشارة إليها يوفّر جهدا ووقتاً على الباحثين والدارسين الآخرين.
الخاتمة
فيما سبق، وقفت عند رسالة نقدية أدبية ذات قيمة في موضوعها. ومهما قيل فيها من جوانب القصور التي اعترتها، إلا أنها تظل رسالة لها اعتبارها النقدي المهم والمميز. ومن خلال البحث السابق، أستطيع تأكيد جملة من القضايا المهمة التي يشير لها عمل الحاتمي في رسالته:
= وضوح الهدف من التأليف وأسبابه العامة والخاصة والشخصية وارتباطها، أي الرسالة، في سياق مشروع منهجي للكاتب نفسه.
= حيادية الناقد والابتعاد عن الذاتية في العملية النقدية.
= وجود منهجية عامة تحكم العمل مع الإقرار ببعض جوانب قصور هذه المنهجية.
= ارتياد الناقد الأدبي حقل الأدب المقارن والالتفات إلى المؤثرات العقلية في الأدب العربي.
= تناول الناقد قضية واحدة فقط، يكرس لها عملا مستقلّا.
= أكدت رسالة الحاتمي هذه علاقة الشعر بالفلسفة وأهميتها بالنسبة للشاعر المبدع.
= = =
المصادر والمراجع
الرسالة الحاتمية، أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي، تحقيق: فؤاد أفرام البستاني، مجلة المشرق، السنة التاسعة والعشرون، 1931.
النثر الفني في القرن الرابع، زكي مبارك، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، 2012.
نيتشة والمتنبي وإرادة القوة والإنسان المتفوّق، مقال د. ريم سليمان الخش، جريدة عالم الثقافة الإلكترونية.
وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان، الجزء الرابع، أبو العباس أحمد بن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1978.
◄ فراس حج محمد
▼ موضوعاتي