زكي شيرخان - السويد
هَزيمةٌ
= ماذا تظن أن بإمكاني فعله؟
لم يفهم ما رمتْ إليه بسؤالها. نظر إليها بعينين تشيان بالكثير من الاستغراب. مط شفته السفلى ورفع كتفيه ثم استدار عنها مكملاً شد حزامه.
= لم تجبني.
= يمكنك أن تفكري بمصير الإنسان على هذا الكوكب المسمى الأرض وسط هذا الكم الهائل من ملوثات البيئة.
= ألا يجدر بنا أن نفكر بملوثات العقل البشري؟
= ملوثات البيئة يمكن إيجاد الحلول لها حتى وإن كانت على الصعيد النظري فحسب، أما ملوثات العقل فأشبه ما تكون بفايروسات تغيّر خارطتها الجينية باستمرار تفادياً لتأثيرات المضادات المعدة مختبرياً للقضاء عليها.
= لا تكن متشائماً!
= جدي لي سبباً يحملني على التفاؤل.
= أنا على سبيل المثال، ألستُ...
قاطعها بشيء من ضجر بدا واضحاً.
= ناوليني علبة السجاير.
رمتها له. تلقفها بيديه. تهاوى على الكرسي الهزاز متأففاً. ترامى إلى مسمعهما نباح كلب بدا أنه يقف تحت الشباك المطل على الشارع. قالت:
= لم نعد نسمع إلا نباح الكلاب وأزيز الرصاص ودوي الانفجارات.
= ومتى توقفت الكلاب عن النباح؟ عشرات من السنين ونحن لا نسمع إلا نباح الكلاب. لم نكن نسمع أزيز الرصاص لأن القتل كان يجري هناك، بعيداً، في العراء. لم نكن نرى جثث الضحايا لأنها كانت تدفن في حفر معدة سلفاً.
ها هي ذي الأيام تمضي ثقالاً في هذا الجو الخانق. حرارة لا تطاق. مياه شحيحة. وهذه التي أمامه تجثم على كيانه، تزيد من التزاماته. عليه أن يزورها كل بضعة أيام. تذكر صاحبه الذي انسلخ عن هذا الجحيم في الوقت الضائع. رفع رأسه معلقاً ناظريه في السقف ونافثاً الدخان من فمه. تمتم بما يشبه الهمس:
= أين تراكَ في هذه الساعة يا صاحبي؟
= لم تقل لي...
كأنه لم يسمعها. استمر:
= كلانا كان مخطئاً في تقديره. أنا كنتُ لا أرى غير قصب الخوف الذي زرعتموه في مستنقع عقلي فأرى في نهايتكم بداية سيلٍ من دماء التفرقة التي غذيتموها. هو كان يرى أن الغد الذي يلي نهايتكم سيكون مشرقاً يحمل البهجة في حنايا شمسه التي غيبتموها لسنين. كلانا لم يكن ليتوقع أن كل شيء سينتهي. كل شيء سيُهدم. لم نكن نقدّر بأننا سنصبح مخلوقات بلا ماضٍ ولا آتٍ.
= أعرفُ أن الأمر ليس سهلاً عليك.
= كان صاحبي يلجأ للكتابة عندما يضيق بما حوله، وكنت أنا التجئ للمُسكّر. كان كلما زاد ضيقه، زاد من جرعة ما يكتبه. أنا كنت أزيد من جرعة ما يُسكرني. كلانا أدمن. ذات مرة قلت له، وكان في أشد حالات قنوته، في محاولة مني كي أخفف عنه بشيء من مزاح اعتاده مني "دعنا نتبادل. دع لي الأوراق والقلم وخذ أنت القنينة،" فأجابني والابتسامة الحادة على محياه: "لا أستطيع أن أرتكب جريمة بحق عقلي فأغيبه لساعات بلترٍ مما تتناوله."
= ما زلتَ كما أنتَ، فرغم كل ما يحدث فها هو ذا كأسك مترعاً. هل يا ترى صاحبك ما زال على ما هو عليه؟
= ألم أقل لكِ، كلانا أصبح مدمناً لا يستطيع شفاءً مما أدمن عليه؟
= هل كنتَ تقرأ ما يكتبه؟
= صادف أن قرأتُ عدداً قليلاً من صفحات كتبها.
تناول كأسه وأرتشف منها جرعة قبل أن يعيدها إلى مكانها.
= إمكانية فذة على التحليل بأسلوب كتابة يتميز بالبساطة رغم فخامة المفردات التي يستخدمها.
= من المؤسف أن لم تتح لي فرصة قراءة بعض مما كان يكتبه...
نظر إليها بعينين أثقل أجفانهما ما تناوله.
= لو كنتِ قرأتِ صفحة واحدة مما كتبه لكان الآن رقماً مضافاً إلى عشرات الآلاف من الجماجم التي عثر عليها.
بان الامتعاض على وجهها مما قاله. نظرتْ إليه بوجه لم يستطع أن يحدد بدقة معنى لما ارتسم عليه. قالت:
= ما كنت أظن أنك سيء الظن بي إلى هذا الحد.
= ليس سوء ظن، بل هو واقع. ألم تكن مهامكم هي تشخيص أعداء المسيرة؟ ألم يكن الأساسي من الواجبات المناطة بكم هي كتابة التقارير عن المناوئين لدينكم؟
= ديننا؟
= نعم دينكم. ألم ترفعوا فكركم إلى مصاف دين جديد؟ وإلهكم...
= لا بد وأن الخمرة قد لعبت بعقلك.
= لم تلعب الخمرة بعقلي بقدر ما لعبتم أنتم به. ألم ترفعوا صاحبكم إلى درجة التقديس الإلهي؟ ألم يُصدر مقدسكم قراراً ساوى في العقوبة بين سبّ الذات الإلهية وسبّه هو؟
= لِمَ تعلّق في أعناقنا خطاياه؟
= ألم تكوني أنتِ والآخرين جزءاً من المنظومة؟ ألم تكونوا أنتم الأصابع التي تتحسس في عتمة زمانكم النتوءات في هذا الجسد الذي أثخنتموه جراحاً؟ أهو الذي أنشد تراتيل تقديسه، أم هو الذي أنتهج لكم طقوس تبجيله؟
= الناس...
قاطعها بحدة:
= أنتم من ساق الناس إلى معابده.
= الرجل انتهى.
= ولكنكم لم تنتهوا بعد. ها أنتم ذا تتأسون على عصره وتملؤون الدنيا نحيباً على قدسية أرض وطئتها أحذية جند جئتم بهم من أقصى الأرض وكأنها لم تُدنّس بفعلكم ونعلكم.
= لم نكن محتلين لها، ولم نكن غزاتها.
= ماذا كنتم؟ بُناتها؟ حافظين لحدودها؟ رعاة لأهلها؟
= كنا نحميها من أعدائها.
= أأبناؤها أعداؤها؟ ما ملئتم به الحفر لم يكونوا غزاة جاؤوا من وراء الحدود، ولم يكن من فارقها إلى شتات الأرض جيشاً عرمرماً رُد على أعقابه.
لفت جسدها بما وقعت عليه يديها ساترة عريها. أطرقتْ رأسها تنظر إلى الخطوط المستقيمة المتقاطعة التي شكلتها بلاطات الأرض المرصوصة. لم تكن بها رغبة في أن يستمر جدلهما. كل شيء ومنذ أشهر يدعو إلى التوتر. آثرتْ الصمت. هذه هي المرة الأولى، منذ لجوئها له قبل أسابيع، التي تراه فيها بمثل هذه الدرجة من التوتر.
* * *
= أيمكنك ألّا تشرب اليوم؟
= لا.
= أعني... أيمكنك ألّا تشرب حتى نصل لقرار؟
= ومتى كان ما أشربه يؤثر على قابليتي على اتخاذ القرارات؟ أجد نفسي في بعض الأحيان أقدر عندما أثمل.
= أرجوك...
قاطعها:
= حسناً، هاتِ ما عندكِ.
= أرى أنكَ أصبحت سريع الغضب، وكأنك لم تعد تطيق بقائي هنا. إن كنتَ كذلك فأستطيع أن أجد لي مكاناً آخر آوي إليه.
= يمكنك العودة إلى بيتك إن شئت، فليس هناك من خطر يحدق بكم. كأن ضحاياكم أصيبوا بفقدان الذاكرة، فلم يعد أحد منهم يتذكر ما سببتموه له.
أطرقت برأسها وأخذت نفساً عميقاً. حبست الهواء في رئتيها قبل أن تزفره، تريد أن تكبت الغضب المعتمل في داخلها والحزن الذي اجتاحها. ساد صمت طال أمده. كل منهما غطس في مستنقع ذكريات لم يود أن يلجه في هذا الوقت الذي بات فيه كل شيء يستفز الأعصاب.
هو، حاول أن يسترجع ولو جملة واحدة مما كتبها صاحبه. لم تستحضر ذاكرته إلا الحوار الذي دار بينهما حولها عندما انكشفت علاقته بها. يومها قسا عليه واحتد بشكل لم يعتده من قبل:
"أسمع يا صاحبي، علاقتك بهذه المرأة هي المعول الذي سيهدم أسرتك. علاقاتك ببقية النساء كلها عابرة لا يتعدى دوامها عدة مرات يترددن عليك هنا، أما هذه فستضعك أمام احتمالات خارج إمكانيات التخلص منها. ستتمادى، وأنت وأنا على معرفة تامة بضعفك، بعدها لن تستطيع التخلص مما سينتج لأنها تستطيع أن تجعل "زوار الفجر" يستلوك من عائلتك وتقبع في أقبيتهم حيث لا مكان ولا زمان."
هي، تحاول أن تكتشفه وكأن علاقتهما لم تمتد لسنوات. لم تعد تذكر في هذه الساعة الشاردة من الزمن الرديء إن كانت ستة أو سبعة. تذكرت كيف رضت أن ينتشلها من جدبها بعد أن أرعبتها تجاعيد الزمن التي بدت تظهر باستحياء على رقبتها، وهي تتقلب في فراش وحدتها تتجرع الحرمان على مضض. أسكتَ عويل رغباتها بفضلة كانت تتركها زوجته. فاتها قطار الزواج ولكنها لحقت بعربة اللذة المُدنِسة. وهل بقي من الزمن ما يميز بين الطهارة والدنس؟
دوى انفجار قوي أفاقهما مما هما فيه، تبعه إطلاق رصاص كثيف من أسلحة مختلفة. قفزت من مكانها متخذة موقفاً خلفه محتمية به. وبانفعال قال:
= هذا ما يوترني ويجعلني عصبي المزاج. كم من البشر يسقطون قتلى وجرحى كل يوم، بل كل ساعة؟ إلى متى نبقى نقدم الدم والعرق؟ إلى متى يستمر الهدم؟
* * *
كان يقود سيارته في الشوارع شبه الخالية متمهلاً، ناقلاً بصره بين رصيفي الشارع يتفحص كل شيء. جلست إلى جانبه صامتة.
= سأوصلك إلى بيتك، وكما قلت لك لا خوف عليك، فيبدو أن هناك من يحميكم. لن يمسكم أحد.
ولما لم يسمع منها تعليقاً، قال:
= أسمعتني؟
= نعم، فالأفضل أن أكون مع أمي وأختي وزوجها، على الأقل سأحس بالأمان أكثر.
= حاولي أن تتخلصي من أوراقك، وإن كان لديك سلاح فحبذا لو أخفيته عن الأعين... فقط من باب الاحتياط.
= لقد بُلّغنا قبل السقوط بفترة أن نتخلص من كل المتعلقات.
= إذن كنتم على أتم الاستعداد، وبشكل جيد، لهزيمتكم؟
انعطف بسيارته نحو اليمين.
= يمكن أن أترجل من السيارة فلم يعد البيت بعيداً.
= لا، سأوصلك إلى باب الدار.
= ولكن...
= لا تخشي شيئاً فإن صادف وأن رآنا أحد من أفراد عائلتك فيمكنك الادعاء بأني أحد رفاقك المكلف بتوصيلك إلى دارك.
توقف عند بيتها. قبل أن تترك السيارة سألته:
= هل سنلتقي ثانية؟
= من يدري؟ إن بقينا على قيد الحياة فعندها لكل حادث حديث.
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● هو وصباح وجاسم
- ● عنق الزجاجة
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- [...]