عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

حضور علم الأصوات في النشاط الثقافي العربي


فراس حج محمدتناول الدارسون العرب القدماء علم الأصوات، وتمت دراسته مبكّراً ضمن علم اللغة. ربّما كان ابن جني من أوائل الدارسين له، محاولاً تحديد مفهوم اللغة بأنها: "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، مع أن عبارة ابن جني ذهبت نحو علم وظائف الأصوات، أي دراسة اللغة ضمن مفهوم التواصلية مع الآخرين، وأن اللغة بمجموعها هي عبارة عن أصوات معينة تؤدي رسالة معنوية من أجل التواصل بين البشر.

ومن هذا الجانب أيضا أذكر جهود ابن فارس في مقاييسه عندما أخذ يفسر الأصول اللغوية الثلاثية بناء على القيمة المعنوية لكل صوت، وكيفية نشوء المعنى الأصلي للجذر اللغوي وتدرجات هذا المعنى بكل تلك الأصول التي تبدأ بصوت ما أو حرف ما.

وأما الذين اقتربوا أكثر من علم الأصوات العام -فونتيكس- من العلماء، فهم علماء التجويد، فقد اهتموا أكثر بطبيعة الأصوات ومخارج الحروف وكيفية تشكل الصوت، مع أنهم أيضا لم يهملوا قضايا صوتية بفعل التركيب والتجاور، كالإطباق والتفخيم والترقيق، والإدغام بأنواعه والإبدال بأحواله كافّة، ووضعوا قواعد لكل تلك الأصوات، منفردة ومتجاورة، ودرسوا التأثيرات الصوتية في الأصوات المتجاورة.

كما أن لهذه الدراسة أثرها في علم الصرف. واشتبكت مباحث الصرف مع مباحث علم الأصوات، وأصبح التداخل واضحا، بل تعداه أيضا إلى مباحث في علم الدلالة وفي الكتابة الإملائية، فأثر التجاور الصوتي على كتابة بعض الكلمات ككلمة "الصراط" التي تكتب بالصاد تأثرا بالطاء مع أنها "سين" في الأصل اللغوي "سرط"، لكن غلبت عليها الناحية الصوتية فاعترف بها إملائياً، وربما فتح هذا التجوُّز الباب واسعاً في اللغة ليكون جائزا، مثلا، كتابة كل كلمة تخضع لهذا القانون العامّ، وهو قانون صوتي طارئ على أيّ حال.

لقد اعتنت مدارس التجويد القرآني بمباحث علم الصوت الفيزيائية بشكل مباشر، وربما لاحظ الدارس أحيانا أن هذا الجانب من التجويد كان مقصودا بحد ذاته بعيدا عما ارتبط به من معنى، لذلك غلبت عليه الناحية التجريدية والموسيقية، وتمّ تعليم القراء أسس التجويد بناء على تلك الأسس الصوتية والموسيقية، وبسبب هذا الاهتمام بالتجويد القرآني، فقد أتقن كثير من القراء قراءة القرآن الكريم حفظا وتجويداً، دون أن يكونوا قادرين على الحديث باللغة العربية، أو فهم معاني القرآن مباشرة دون ترجمة، كما هو حال كثير من المقرئين في بلاد العالم الإسلاميّ من غير العرب.

كما رصد الدرس الصوتي العربي القديم اللغوي والقرآني، على حد سواء، اختلاف الأصوات بين الترقيق والتفخيم وأثره في المعنى، فمثلا "القنوط" يختلف في معناه عن "القنوت"، مع أنّ الاختلاف هو تفخيم وترقيق (طاء/ تاء)، لكنّ هذين الصوتين هما صوتان مستقلان في هذه الكلمات، فهما حسب التوصيف الصوتي فونيمان مختلفان، وليسا تنوعا ألفونيا، كما هو في كلمتي: (السراط والصراط).

والشيء نفسه يقال عن كلمتي (الصوت والسوط)، فلا يكاد اللافظون يفرّقون بينهما، بل يتّضح المعنى الخاص بكليهما من خلال السياق، إن كان الحديث شفويّاً، إلا في القراءة القرآنيّة التي تؤكّد ترقيق التاء عند تلاوة هذه الآية على سبيل المثال: (إنّ أنكر الأصوات لصوتُ الحمير)، ولم تعاملها معاملة (الصراط/ السراط)، وأجبرت اللسان على الترقيق، ولم تسمح بالتأثير البعدي للصاد المفخمة لتصبح طاء؛ ربّما لأن في هذا، لو حدث، التباسا في المعنى، هذا الالتباس المعدوم مع كلمة الصراط.

وما يلفت الانتباه أيضا إلى أن هناك ملحوظات نقدية حول الشعر ذات مرجعية صوتية، فلم يرض النقاد مثلا عن قول الشاعر "مستشزرات" في قول الشاعر امرئ القيس:

غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا = = تَضِلُّ العِقاصَ في مُثَنّىً وَمُرسَلِ

فملاحظة النقاد حول هذه الكلمة أنها مستكرهة وصعبة في اللفظ، لأنها تحتوي حروفاً/ أصواتا متقاربة في اللفظ، وهذا أدى بها إلى أن تكون نابية وعرة مستوحشة، فقد اجتمع في خط نطقي واحد السين والتاء والشين والزاي وكلها متقاربة في المخرج، ما يجعل النطق صعبا وغير سهل، ومثل ذلك كثير.

ولم يكن ذلك فقط، بل لاحظوا تقارب الحروف في الكلمات، وتجاورها الذي يصنع الصعوبة، فلذلك لم يعجبوا بقول الشاعر:

وقبر حرب بمكان قفر = = وليس قرب قبر حرب قبرُ

فمشكلة البيت الشعري هنا هي مشكلة أصوات، وليست مشكلة كلمات، وإن كانت المشكلة متولّدة عن الكلمات في الأساس.

لقد حرص العرب كثيرا على التطبيق العملي لعلم الأصوات في مستواه الوظيفي أكثر من بحثه العقلي الفيزيائي المجرد، وذلك لأنهم لم يكونوا تجريديين في بحث العلوم، بل كانوا توظيفيين، يلاحظون اللغة ووظائفها في كل ما أثر عنهم من نصوص ولغة، فوجد عندهم مثلا حكاية الأصوات من مثل "أفْ"، أو "مهْ" أو غيرها، وبحثها العلماء القدماء في باب خاص بها أطلقوا عليه "حكاية الأصوات" كما ذكرت. ومن طريف أشعارهم أنهم استخدموه في القافية، إمعانا في الطرافة والتندر، من ذلك قول أبي ﻧﻮﺍﺱ:

ﻭﻟﻘﺪ قلتُ ﻟﻠﻤﻠﻴﺤﺔ ﻗُﻮﻟﻲ = = ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪٍ ﻟﻤﻦ ﻳُﺤﺒﻚِ (صوت القبلة)

ﻓﺄﺷﺎﺭﺕ ﺑﻤﻌﺼﻢٍ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ = = ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪٍ ﺧﻼ‌ﻑ ﻗﻮﻟﻲ (صوت الرفض)

ﻓﺘﺄﻣﻠتُ ﺳﺎعةً ﺛﻢ ﺇﻧﻲ = = قلتُ ﻟﻠﺒﻐﻞ ﻋﻨﺪ ﺫﻟﻚ (صوت زجر الدابة لتتحرك)

فهذه الأبيات تعتمد على الصوت، لذلك فهي صعبة الكتابة إلى حد أنها مستحيلة، بل تلفظ فقط، ولعلّ هذا الموقف التندري النواسيّ يسائل أكثر، وهذا ليس موضعه، مسألة القافية التي لم تسلم من بعد صوتي عند بحثها، وخاصّة القوافي المطلقة. فقد تم في أبيات النواسي تقويض القافية بالكامل، لذلك يعلق الرافعي على الأبيات في كتابه "تاريخ آدب العرب" بقوله:

"ولا تبلغ مثل هذه القوافي أن تكون اختراعًا في الصناعة، لأنها لا تَحْسُن في كل حال، وإنما يقضي بها سبب من الأسباب أيها كان، وما لا يحسن أن يجيء إلا بسبب يقبح إذا جاء من غير سبب، على أنه شيء طبيعي مبذول يتناوله كل من بُعث عليه فلا معنى فيه لحقيقة الاختراع، ولعلك إذا تتبعت مواقع ذلك في الشعر رأيت كثيرا منه يصلح أن تكون قوافيه حسية، ولكن الصعوبة في أن تكون هذه القوافي الحسية موزونة حركاتها على الأوزان التي تقابلها من العروض، وهذا هو وجه الصنعة الغريبة فيما تقدم" (طبعة مؤسسة هنداوي، 2013، ص 979).

على العموم احتفل الدرس اللغوي عند العرب بكل مظاهر اللغة من الصوت ودراسته، إلى الكلمة وبنيانها الصرفي، وما يجوز، وما لا يجوز في البنية العربية إلى نظام الجملة، وربما أيضا امتدّ إلى النص كاملا، كما هو الحال في النظر إلى النص الشعري المقفّى، وعوارض الوزن ومشاكله وجبر خلل بعض الأوزان بالمد الصوتي، وما إلى ذلك.

لقد وظّف الخليل بن أحمد الفراهيدي علم الأصوات في نظرية التقليب المعجمي والصرفي وعلم العروض، وسيبويه في الكتاب ومباحثه الصوتية والصرفية وعلم الدلالة وعلم اللغة، وتناوله أصحاب المعاجم والمفسرون وعلماء القرآن وكان لهم أقول صائبة فيه، أكد صحة معظمها الدرس الصوتي الحديث، وخاصة فيما يتعلق بتوصيف الأصوات العربية ومخارج حروفها، ثم ما استفاد منه الدرس المعاصر من أبحاث العرب في مباحث علم وظائف الأصوات "الفينولوجيا"، وغيرها، وارتباطها بالدلالة والسياق العام، بنيويا صرفيا، وسياقيا نحويا أيضاً، وامتدّ هذا التأثير إلى النقد المعاصر لنجد أن بعض نظرياته أولت الصوت عنايتها في تحليل البنى الصرفيّة ودلالاتها، وأثرها في توليد المعنى في النصّ، فصارت الأصوات علامات تحدد أصل المعنى وتوجهاته داخل تلك النصوص.

D 1 حزيران (يونيو) 2021     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات