أسماء عبد اللطيف حمد - فلسطين
تجليات الغربة في كتاب "رأيتُ رام الله"
للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي
الغربة ظاهرة إنسانية قديمة قدم آدم، عليه السلام، حيث غدت هذه الظاهرة موضوعاً بارزاً، شأنه شأن أوجه النشاط الإنساني. وأصبح يُسمع بصورة متزايدة تفسير الحياة في عصرنا الحالي من خلال مفهوم الغربة والاغتراب (1)، فيعمل الأديب على نقل رؤيته وأثر التحولات المحيطة به من بنيته النفسية والفكرية، الأمر الذي جعل بعض الباحثين يميلون إلى اعتبار أنَّ كلَّ رائد في فن الأدب يحوي بروز اغتراب في بنيانه الداخلي، فكلُّ عمل أدبي لا بدَّ أن نعثر فيه على جذور الغربة (2)، فقد صدرت "الألياذة" و"الأوديسة" لهيميروس، متضمنة اغتراب الإنسان وضعفه أمام الطبيعة وقواها، وكلما زادت التحولات الحضارية تعقيداً، وازدادت الأنظمة السياسية تضارباً، انعكس ذلك على الإنسان، فأصبح يميل إلى الاضطراب والتمزق الداخلي (3)، لهذا يعدُّ موضوع الغربة واحداً من الموضوعات الأكثر بروزاً في الأعمال الشعرية والنثرية.
ولم يكن الأدب العربي والأدب الفلسطيني بمنأى عن هذه الظاهرة بخاصة في العصر الحديث، نظراً لما شهده عالمنا العربي من ظروف انعكست على نتاجات الأدباء والشعراء، فكيف يكون الأمر إذا كان هذا الأديب قد عاش الغربة الحقيقية في وطنه، بما فرضته الأنظمة السياسية والاجتماعية التي لا يمكنه أن يتلاءم معها، شأنه شأن أي مواطن يرفض العيش في ظلِّ الاحتلال والاستسلام لإراداته، فانعكست ظاهرة الغربة في كتابات مريد البرغوثي.
تسعى هذه الدراسة إلى معاينة هذه الظاهرة وألوانها ودوافعها، والكشف عن سمات الشخصية الاغترابية في رواية "رأيتُ رام الله"، التي حفلت بتجليات هذه الظاهرة، وترى الباحثة أنَّ موضوع الاغتراب يشكل ملمحاً بارزاً فيها، يغري الباحثة في الوقوف على تجلياتها في تكوين شخصية روائية، وانعكاسها على سلوكه في حياته الخاصة والعامة، وانعكاس ذلك في التشكيل الفني في الرواية.
تكمن أهمية الغربة في كونها ظاهرة إنسانية، لأنها الشق الثاني لوجه الحياة مقابل شقها الأول الحضور وانعدام الغربة، وقد سايرت الوجود البشري منذ القدم، وتقدم الزمن وتطور الحياة، ويعد النزوع والغربة محوراً أساسياً من محاور الشعر والأدب الفلسطيني، وقد صاغه شعراء وأدباء عصره، وصوروا تواصل أبواب المقاومة لاسترجاع الحق المسلوب، ويبين استمرار النبض الفلسطيني رغم المنفى القسري الذي أرغموا عليه. ومن الأدباء الذين برزت في كتاباتهم ظاهرة الاغتراب مريد البرغوثي، التي تتضمن ظاهرة الحزن وصدمة المفارقة والرفض.
وقد اعتمدنا في انجاز هذا البحث على مجموعة من المصادر والمراجع وأهمها كتاب يوسف محمد عباس: الاغتراب والابداع الفني، ورسالة الاغتراب في شعر الشاعرين محمود درويش وشيركو بيه لكيلاس، وكتاب دراسات في سيكولوجية الاغتراب لعبد اللطيف محمد خليفة.
وجاء اختيار هذه الدراسة لجملة من الأسباب منها أنَّ رواية " رأيتُ رام الله" لم تدرس دراسة اغترابية من قبل، فضلاً عن المكانة التي يتمتع بها الأديب الشاعر من ثقافة أدبية ولغوية وعلمية عالية، تجعل لروايته مكانة متميزة في ميدان الأدب، لأنّ اغترابه قد أغنى تجربته الروائية لما فيها من مشاعر إنسانية نتيجة الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية، فتقف أهمية هذه الدراسة في كونها محاولة متواضعة تسهم في اغناء الأبحاث الأدبية.
ولا يفوتني أن أنوه إلى المنهج الذي اتبعته في دراستي لهذا الموضوع، إذ استخدمتُ "المنهج الوصفي التحليلي" من خلال التركيز على النص بالدرجة الأولى، وعليه بلورنا هيكل الدراسة عبر منظومة بحثية مكونة من تمهيد ومبحثين، المبحث الأول اختص بحياة الأديب الشاعر مريد البرغوثي، والتعريف بالرواية الفلسطينية، أما المبحث الثاني فينقسم إلى فصلين، الأول فتناول مفهوم الغربة والاغتراب لغة واصطلاحاً، أما الفصل الثاني فيتناول ماهية وطبيعة المعاناة التي جاشت في نفس "غائب"، والتي عكسها أو ابرازها في روايته، ويأتي ذلك مصداقاً لما ذكرته في بداية الدراسة، من انَّ "غائب" قد عانى "الاغتراب النفسي، والزماني، والمكاني والسياسي، إلى جانب الغربة الثقافي الأمر الذي أكسب روايته أجواء فنية خاصة وتشويقاً مميزاً، ويتجلى في تصادم المصالح الشخصية بمواقف السلطة وإجراءاتها الهادفة إلى التحكم بمصائر الشخصيات، ولا فرار من سطوتها.
ولا تخلو أية دراسة من الصعوبات التي تشكل في الوقت نفسه حافزا للمضي قدماً، ومن أهم هذه الصعوبات الالمام بالمادة المعرفية، مع العلم أنَّ ظاهرة الاغتراب ظاهرة قديمة، دفعت الكثير من النقاد والأدباء لدراستها وتوظيفها.
الغربة لغة واصطلاحاً
جاء في معجم العين للفراهيدي: الغربة والاغتراب عن الوطن، وأغرب فلان عنّا، يغرب غرباً، أي تنحى واغربته غربته، أي نحيته (4). وفي معجم المقاييس لابن فارس "إلا انَّ الغربة هي : البعد عن الوطن، يقال غرب الدار يقولون هل من مُغربة خبر، يريدون خبراً أتى من بعيد (5). ويورد ابن منظور في لسانه "أنَّ الغربة والغّرب : النزوح عن الوطن، بمعنى الذهاب والتخفي عن الناس، أما الغربة والغّرب فترد بمعنى النوى والبعد. ويقال غُرب في الأرض إذا أمعن فيها، واغترب الرجل نكح من الغرائب، وتزوج من غير أقاربه، فاغرّب الرجل: صار غريباً، ورجل غريب ليس من القوم، والغرباء هم الأباعد، والغريب الخافض من الكلام" (6). وفي "أساس البلاغة" للزمخشري (467هـ)، يقال غُرّبه أبعده، وغرب: بعد وغربت الوحوش في مغاربها، غابت في مكانها (7)، ونلخص أنَّ الغربة والاغتراب تدلان على التفرد والانفصال، والبعد فهما مصطلحان ذا تحوّل مستمر في الأحوال والأشياء.
أما معنى الغربة اصطلاحاً فالاغتراب ظاهرة وجدت مع وجود الإنسان، وقد عبّر عنها القرآن الكريم، حيث خرج سيدنا آدم عليه السلام من الجنّة، كان أول اغتراب في البشرية، ويعدُّ من أكثر المصطلحات شيوعاً في وقتنا الحاضر، حيث تكمن الصعوبة في تحديد المفهوم، لما يشوبه من غموض، وبسبب كثرة التعريفات جعلت المفكرين والكتاب يضعون تعريفات عديدة ومختلفة للاغتراب كل حسب تصوره، فهو يعني الانفصال عن الذات أو التذمر والاستياء أو الانزعاج والإحباط، لكن هذا لا يمنع من إعطاء مفهوم تقريري بمعنى الغربة.
ويعرف يوسف عز الدين الغربة بأنّها: "الإحساس الداخلي بأنَّ الفرد معزول عن المجتمع الذي يعيش فيه، بما يراه بعيداً عن عاداته وتقاليده، وطراز حياته التي ألفها في وطنه، وأحياناً في أشكال الناس ولغاتهم وعاداتهم الاجتماعية" (8)، ويرى نبيل راغب أنَّ الاغتراب هو حالة نفسية تلازم الانسان وتشعره بالألم والحزن سواء كان هذا الانسان في وطنه أم كان بعيداً عنه (9).
الغربة عاطفة تستولي على المرء لاسيما الفنانون فيعيشون في قلق وكآبة لشعورهم بالبعد عما يهون، ويتداخل المعنى اللغوي والاصطلاحي ليعطيا مفهوماً واحداً، هو الابتعاد عن الناس بالجسم لا بالفكر، ومن هذا يبدو أنّ معنى الاغتراب شعور الفنان بأنَّ العالم كله سجن أقحم فيه مرغماً مكبلا بقيود وغمره بالألم والشرور، وأشعره بأنّه غريب بين أهله وناسه (10). تقول خالدة سعيد: النفي والغربة والوحدة والحرمان والاضطهاد، وعبودية المكان والزمان، والموت الفاجع، هي رايات عصرنا، فيرفع اليأس لواءه، ويرقص الرعب في كلمات الأدباء(11)، وقد عرّفه بعضهم بأنّه انفصال المرء عن المكان المألوف بسبب حصول خلل في العلاقة المتبادلة بينهما، وذلك لأسباب داخلية او خارجية، والمكان بجاذبيته مضافاً إليه ألفة الإنسان يساوي قوة جاذبية نحو الوطن، والمعادلة التالية تبين ذلك: المكان بجاذبيته زائد الإنسان بألفته يساوي حبّ الوطن؛الوطن والهوية والانتماء (12).
تعريف بالشاعر الأديب مريد البرغوثي
أنجبت فلسطين العديد من الشعراء والأدباء الذين ربطوا همهم بهمها، وعبّروا ببصمتهم عمّا يعانيه الوطن، وكشف صراعات النفس وأناتها لتعبر حدود الزمن، ومن هؤلاء الأدباء الشعراء مريد البرغوثي الذي شاء القدر عليه بالإبعاد القسري عن الوطن والعيش في المنفى، فجعل من الغربة شيئاً لخوض معاركه الكلامية، استحضر فيها الوطن، فجاءت أشعاره نابضة بالحيوية والحركة والصوت، مكتملة الصور والملامح، وتحمل في ثناياها المشهد الفلسطيني بكل سرديته النثرية القريبة من القص.
ولد الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في قرية دير غسانة قضاء رام الله في 8 تموز/يوليو 1944، وتوفي في 14 شباط/فبراير 2021. تلقى تعليمه في مدارس رام الله الثانوية، وسافر إلى مصر عام 1963. التحق بجامعة القاهرة، وتخرج في قسم اللغة العربية وآدابها عام 1967، وهو العام التي احتلت فيه إسرائيل الضفة الغربية، ومنعت الفلسطينيين الذين كانوا خارجها من العودة، فلم يتمكن مريد من العودة إلا بعد ثلاثين عاماً من التنقل بين المنافي العربية والأوروبية. تزّوج من الأدبية المصرية رضوى عاشور، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس، التي توفيت عام 2014.
أهم أعماله الأدبية: ديوان الطوفان الذي نشر عن دار العودة، بيروت، 1972. ديوان "فلسطين في الشمس" الذي صدر عن دار العودة، بيروت، 1974. ديوان "نشيد الفقراء المسلح" الذي صدر عام 1977، عن دار الاعلام الموحد، بيروت. ديوان "ليلة مجنونة" الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، عام 1996. ديوان "زهر الرمان" الذي صدر عام 2000 عن دار الآداب، بيروت. وأصدرت له المؤسسة العربية للدراسات والنشر مجلد الأعمال الشعرية عام 1997. ونشر أحدث دواوينه في دار رياض الريس للكتاب والنشر، بيروت، بعنوان " منتصف الليل" عام 2005.
صدرت أعماله الشعرية الكاملة بجزأيها الأول والثاني عام 2013 عن دار الشروق، القاهرة، وكان آخر دواوينه "استيقظ كي تحلم" الذي صدر عن دار رياض الريس للكتاب والنشر، بيروت. له كتابات نثرية، منها روايته "رأيتُ رام الله"، وجزأها الثاني "ولدتُ هناك ولدتُ هنا" الصادرة عن دار رياض الريس للكتاب والنشر، لبنان، عام 2000.
كتب عن شجاعة ناجي العلي بعد استشهاده بإسهاب في روايته "رأيتُ رام الله"، ورثاه بعد زيارة قبره قرب لندن بقصيدة أخذ عنوانها من إحدى رسوماته "أكله الذئب" (13)، وكذلك ذهب إلى بيروت والتقى غسان كنفاني الذي اغتيل من قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1972 (14). عُرف بدفاعه عن دور المعتقل المثقف، واحتفظ بمسافة بينه وبين المؤسسة الرسمية ثقافياً وسياسياً. حصل على العديد من الجوائز منها جائزة فلسطين في الشعر عام 2000.
ترجمت أشعاره إلى العديد من لغات العالم، وهو من منتقدي "اتفاقية أوسلو" ومعارضي "اتفاقيات السلام" مع إسرائيل، لهذا أُبعد عن مصر. له ديوان نشره وقت طرده من مصر، وهو الديوان الأكثر شهرة: "قصائد الرصيف". شارك في العديد من اللقاءات الشعرية، ومعارض الكتب الكبرى في العالم، وقدّم محاضرات في الأدب الفلسطيني والعربي في جامعات القاهرة وفاس واكسفورد ومانشستر ومدريد وغيرها ، ثمّ اختير رئيساً للجنة التحكيم في جائزة الرواية الفلسطينية لعام 2015.
الرواية الفلسطينية
ارتبطت الرواية الفلسطينية كغيرها من ألوان الابداع بالمقاومة، كشكل من أشكال اثبات الذات والحضور على الساحة الأدبية العربية وغير العربية، فبات من الواضح أنَّ هذا الابداع يقاوم من أجل العيش والكرامة والوجود والهوية، فكيف يكون إبداع بدون وطن، فالوطن هو حميته ودفأه اللذان يؤمنان فعل العبور إلى القول، ويقف أمام سياسية التهجين والذوبان في ثقافة الغير، فبدأ مع السياسة التهجير والنكبة، ليعيش الأديب تجربة الضياع، والبحث عن وطن بديل، حاملاً معه همومه، وهموم وطنه، وبهذا سعت الرواية الفلسطينية إلى فتح جبهات من النضال والثورة، تلتصق بهموم الإنسان الفلسطيني. وفي ظلِّ هذه التغيرات الجديدة، استطاع بعض الروائيين إرساء عالم الرواية الفلسطينية بشكل رسمي خاضع لمعايير فنية أمثال غسان كنفاني .
تعدُّ الرواية أنجح المقاربات الاجتماعية، بوصفها حاملاً اجتماعياً في طبيعتها الإبداعية، وفي طبيعة نشأتها (15)، بدأت الرواية الفلسطينية منذ أوائل الستينات تنحو منحىً واقعياً واضحاً، بفعل عوامل عدة منها سيادة بعض المفاهيم الجديدة، ونمو حركات التحرر في العالم الثالث، وانطلاقة حركة التحرير الفلسطينية عام 1965، فظهر نتيجة لكل ذلك بعض الأعمال الروائية ذات الصبغة الواقعية، واتسمت بتناول القضايا المصيرية بعمق وروية ، وتقنية فنية متطورة.
مكانة رواية "رأيتُ رام الله"
صدرت هذه الرواية عن دار الهلال عام 1997، وحصلت على جائزة نجيب محفوظ، وصدرت في ست طبعات عربية، وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية الكاتبة أهداف سويف، مع مقدمة كتبها إدوارد سعيد في ثلاث طبعات عن دار النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة، ثمَّ عن دار راندوم هاوس في نيويورك،وعن دار بلومزبري في لندن، وترجمت إلى عدة لغات.
تعدُّ رواية "رأيتُ رام الله" لمريد البرغوثي، احدى العلامات البارزة في مسيرته الأدبية، ووضعت ضمن أفضل الروايات العربية، وهي تمثل مرحلة الغربة التي عاشها مريد بعد خروجه من الوطن للدراسة في مصر، وقد جسدت هذه الرواية مشاعر الغربة، التي نجد فيها مشاعر مختلفة ومتناقضة ما بين حبّ وفراق وغدر، وأحداث تاريخية مكتوبة ببراعة.
تنتمي "رأيتُ رام الله" إلى أدب الغربة، الراوي فيها جاء عبر ضمير المتكلم "أنا" متمثلاً في الشخصية الرئيسية في الرواية، فهو السارد الممثل لحقبة النكسة بكل ما تحمل من إيجابيات وسلبيات، ونجده يفصح أنَّ شخصيته، هو الأديب، الكاتب الفلسطيني، الذي أتته ضربات قاصمة، وواجه كثيراً من المشاكل، فهو شخصية مركزية، ويمثل إنساناً أضاع ما كان يمتلك، ولم يعثر على ما يريد. وتتصاعد الرواية وتتشابك أشخاصها، وتصل إلى نهاية حزينة وموجعة.
استطاع مريد في روايته أن يستعير أشكالاً متعددة من تقنيات الشكل الروائي، فقسم الرواية إلى عدة فصول أطولها "الجسر"، ويأخذ كل فصل عنواناً يشير ظاهرياً إلى استقلال الوحدات السردية في الفصول، إلا أنَّ العناصر السردية ممتدة داخل الوحدات جميعها، وتشير إلى وحدة النص كبناء متكامل. عاش البطل حياة مشتتة، فقد درس في جامعة القاهرة الأدب الإنجليزي، وتعرّف على طالبة مصرية اسمها رضوى عاشور تزّوج بها، مع أنَّ أهلها عارضوا ذلك. وتأتي الضربة الثانية بسبب موقفه من اتفاقيات السلام التي عقدت بين مصر وإسرائيل، مما أدى إلى اعتقاله.
وقد أشاد بالرواية عدد من النقاد العرب والغربيين. قال علي الراعي: "كتاب مريد يصدر عن روح فريدة حقاً فريدة في النظرة السمحة التي ينظر بها إلى الناس والأحداث... الكتاب ليس مجرد كتاب، إنّه ذوب قلب وعصارة حياة قضاها الشاعر متنقلاً بين المهاجر والمنافي والمنابذ. أما بيتر كلارك (ملحق التايمز الأدبي، لندن) فقال: "أبلغ إفصاح باللغة الإنجليزية عما يعنيه أن يكون المرء فلسطينياً اليوم ... ليس هناك كتاب آخر يبين بهذا الاقتدار خلفية الأحداث الراهنة في فلسطين" (16).
رواية "رأيتُ رام الله" عند مريد ترتوي من تيارات فكرية مختلفة، وتتأتى من بيئات ولحظات إلهامية ذاتية لا تشبه بعضها بعضاً، كما أنها تكشف عن روح الابداع في ثقافته وشخصيته الأدبية (17)،لذا فقد لاحظنا بروز ظاهرة الغربة الروحية في روايته إذ يقول : "الغربة لا تكون واحدة. بل دائماً غُربات... غُربات تجتمع على صاحبها، وتغلق عليه الدائرة، يركض والدائرة تطوّقه، عند الوقوع فيها يغترب المرء "في" أماكنه "وعن" أماكنه، أقصد في نفس الوقت (18). هكذا يعيش أديبنا الغربة، الصمت والسكون والاستلاب، فما هي ألا حركة نابضة متقدة يفكر ويحسُّ ويتألم، إذ يقول "يكفي أن يواجه المرء تجربة الاقتلاع الأولى، حتى يصبح مقتلعاً من هنا إلى الأبدية، فالحياة تملي على الغريب تكيفاً يومياً قد يكون عسيراً في بدايته لكنه يقلُّ عُسراً مع مرور الأيام" (19).
يعيش الشاعر قمة تأزمه، إذ لا مفرَّ من الواقع ولا مهرب من الوجوه الراكدة، فالصمتُ والسكون اللذان سيبقيان متنفساً يتنفس الأديب من خلالهما سيرة حياة وكتابات نثرية على مدى نصف قرن من الزمان، فقد مرَّ الأديب بأنماط عدة من الاغتراب، كان لها طبيعتها الخاصة وصفاتها المتميزة وفقاً للمرحلة الفنية التي كان يجتازها، وهي خاضعة لطبيعة الاختلاف والتوتر والشعور باليأس حين يلوح له أنّه قادر على الشعور بحالة من الإدراك أشدُّ عمقاً، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً للاحتفاظ بمثل هذه الحالة.
الغربة النفسية (الذاتية)
هي حالة نفسية يتعرض فيها الشخصية إلى الضعف والانهيار بتأثير من العلميات الثقافية والاجتماعية التي تتمُّ داخل مجتمع الغربة، فيكون غريباً غافلاً عن الواقع، ويفقد الاهتمام به (20)، ويرتبط بخيبة الأمل والفشل في تحقيق طموح ما (21)، فشعور أديبنا مريد بالانتماء حاول الوصول إليه من خلال البنية الاجتماعية على مستوى علاقته مع الأشخاص من حوله، فقد كانت ذاتيته مستغرقة في اغترابها وفي همها الشخصي، لذا فقد المسافة اللازمة لتأمل آلامه من أجل الخروج بحل لها، ولكنه يعي أسباب اغترابه لذا نلمحه يتخذ موقفاً يجابهها ويقهرها (22)، وبهذا فأخذ يعاني احتراق الحرية والارتهان للماضي والقمع الفكري ومصادرة حقِّ العيش (23).
الاغتراب الاجتماعي والمكاني والزماني
يعد الاغتراب الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية المؤثرة على الفرد والمجتمع، فتتعرض الذات إلى التهميش، ولم يعد هناك روابط حميمية تربطه بالمجتمع، ويشعر أنَّ حب الشراكة والتواصل مع الغير قد انقطع، وأنَّ مصيره لم يعد يتعلق بمصير المجتمع، وأنَّ قضاياه ليست هي قضايا المجتمع، فتنكفئ الشخصية على نفسها، وتعيش حالة من التوترات والحزن والكآبة، إذ يقول: "فمن السفاهة أن أشكو من مجرد شتات عائلي أصابني، بينما لم تنجُ عائلة فلسطينية في فلسطين أو في الشتات من مصائب أشد وأقسى، فكان مناخ تقبل المتاعب، كثمن يمكن تحمله، وهو المناخ الذي أشعناه أنا ورضوى كلما تحدثنا إلى تميم معاً، وهو مناخ ساعد على التخلص بسرعة من الشعور بأنّه طفل سيء الحظ"(24).
ويعدُّ الاغتراب المكاني من الأنماط التي عاشها الإنسان من القديم، وهي الإحساس الذي يشعر به المرء في بعده عن وطنه، وهذا النوع من الغربة نجده في أدب كثير من الأدباء والشعراء الذين هجروا وطنهم قسراً أو ارادياً، وانتقلوا ليعيشوا في أرض لم يألفوها، فعاشوا غرباء يعانون من ألم الحنين والشوق إلى اوطانهم التي لا تفارق صورتها خيالهم (25)، فأديبنا خرج من أجل تكملة دراسته التعليمية، ولم يُسمح له بالعودة إلى الوطن، وقد أصيب بخيبة أمل كبيرة، إذ تفاجأ أنّه لا يقدر أن يعود إلى وطن سُلبَ (26)، فعاش الاغتراب السياسي. احتلال أرضه سبب من أسباب تنازل الفرد عن حقوقه للنظام السائد، فتكون الحكومات مستبدة، ويجب أن تتخذ مبدأ المشاركة في صنع القرار لإجراء التغيرات في المجتمعات، فالفرد يفقد حريته وعدالة موقفه، فيشعر بعدم الرضا والتمرد والدعوة إلى التغيير، فالمجتمع الذي يعيش به غير قادر على تلبية حاجاته الضرورية، وكثرة القوانين والأنظمة الصارمة التي تؤدي إلى صعوبة عدم الانسجام في العمل، وشعوره بالعجز من المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بمصالحه، واليأس من المستقبل، مما يفقده معايير وقواعد منظمة على اعتبار أنَّ رأيه لا يسمعه أحد، وإن سمعه لا يُؤخذ به (27).
أما الاغتراب الزماني فهو بمثابة عنصر حيوي، لم يكن بوسع (غائب) الاستغناء عنه في روايته، لكنه لا يظهر بوجه مباشر صريح، وإنّما يظهر من خلال استرجاع الشخصيات لذكرياتها الماضية والحنين لزمن مضى، والنفور من زمن راهن عصيب ومؤرق بكل ما فيه، وانعكس ذلك في ردة فعله عندما زاره في بيته في القاهرة الشاعر أبو سلمى وطلب منه أن يختار لمولوده اسماً، فقال له: "ومن أين سآتيك باسم رقيق وأنيق ولطيف يا سيد مريد، إذا كنتَ ستضع بعده كلمة البرغوثي" (28)، وكذلك ردّة فعل المغتربين الذين طردوا من الكويت بعد حرب الخليج، أمثال فاطمة بنت أبو سيف، التي قررت إعادة تشغيل بابور الزيت المتوقف،(29)، وغيرها الكثير، فقد غنّى لوطنه، وهو لا يعرف المحبوب، فتراب الواقع أقوى من شراب النشيد،، فنحن لا نعرف إلا قصته وأخباره، فالاحتلال خلق أجيالاً بلا مكان تتذكر ألوانه ورائحته وأصواته، وردة فعله عندما " كنّا نتزاحم في باص "عبد الفتاح" أو باص "أبو ندى" مع طلوع الفجر مرافقين أهالينا الذاهبين إلى رام الله، لقضاء شؤون الحياة، ونعود مساءً (30).
الاغتراب الثقافي
ويلاحظ أن حضور هذا النوع من الاغتراب كان بارزاً على وجه الخصوص في الرواية، حيث احتوت على شخصيات مثقفة مضطهدة ومحبطة، التي لم يتركها (غائب) دون أن ينّوه إليها أو يلفت الانتباه لشيوعها في الوسط المثقف، وتبعاً لذلك فقد اقتصر ظهورها في بعض المواقف على حنّا ناصر، كما كان لدى أبو حازم، وأنيس وغيرها من الشخصيات حوارات غير صريحة، وإلى جانب هذه الغربة فقد عانى من الشعور بعدم الرضا – للقيادة السياسية – والرغبة في الابتعاد عنها، وعن التوجهات السياسية الحكومية، والنظام السياسي برمته، فالشخص المغترب ليس لديه القدرة على اصدار قرارات مؤثرة، غربة رافض لفترة تاريخية معينة، ويبدأ بالبحث عن زمن يكون مستقبلياً أو ماضياً بالحنين إلى الماضي.
أهم النتائج التي توصلت إليها الباحثة:
= الاغتراب ظاهرة إنسانية عامة لا ينفرد بها جيل أو أمة، وهي موجودة منذ نشأة الحياة، حيث أنَّ الإنسان حين وطئت قدماه الأرض، أخذ يعاني الاغتراب ذا المفاهيم المتعددة، وظلَّ الاغتراب غير محدد المفاهيم لدى كل الشعوب والأمم، وعندها وقف المرء عاجزاً أمام ظواهر الحياة.
= تحتاج ظاهرة الاغتراب في الأدب العربي عامة والأدب الفلسطيني خاصة إلى دراسة وبحث، فقد وضع الأدباء والشعراء تحت ظروف قاهرة جعلتهم يغتربون عن ماضيهم المشرق، وعن أنفسهم، فلا يكادون يجدون ذواتهم الحقيقة.
= هناك ثلاث دورات لحياة مريد:
== الدورة الأولى: دورة الذات المطمئنة بالحياة في قرية دير غسانة مع أهله وأصدقائه، وكل من يحيط به.
== دورة الجماعة: من خلال دراسته في مصر وزواجه وتنقلاته غير المحددة، فقد حاول أن يتخطى اغترابه وفرديته بالاندماج في جماعة يحمل همومها وتحمل همه، وقد علّمه الوعي أنَّ التفاؤل ضروري في الحياة.
== دورة الذات المحطمة المشحونة بالألم والحنين إلى الماضي، وفي هذه الدورة كان يعوزه الوضوح في الرؤية وعدم الانفعال والتهور في إطلاق الأحكام والثبات في المواقف.
= = =
الهوامش
(1) رجب، محمود: الاغتراب سيرة ومصطلح، دار المعارف، الإسكندرية، 1998، ص 6.
(2) شاخت، الاغتراب، ترجمة كامل يوسف حسن، بيروت ن المؤسسة العربية للدراسات، 1980، ص 56.
(3) حمود، إبراهيم: حول الاغتراب الكافكاوي ورواية "المسخ" "إنموذجاً"، عالم الفكر، يوليو 1984، مج15، ع2، ص 85.
(4) الفراهيدي، الخليل بن احمد: مجلد 4، (باب العين والراء والباء)، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، د.ط، ص 41.
(5) ابن فارس، أحمد: مقاييس اللغة، مجلد 4، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 2002، ص 420.
(6) ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي (630هـ) : لسان العرب، مجلد 1، الدار المتوسطة للنشر والتوزيع، تونس، د.ط، 2005، ص(639-649).
(7) الزمخشري جار الله محمود بن محمد بن عمر(512هـ) : أساس البلاغة، دار بيروت للطباعة والنشر، د.ط، 1984، ص 447.
(8) مساعدية، لزهر: نظرية الاغتراب من المنظورين العربي والغربي، دار الخلدونية، د.ط، 2013، ص 61.
(9) المصدر نفسه: ص 64.
(10) عبد النور، جبور: المعجم الأدبي، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، 1979، ص 22.
(11) سعيد، خالدة: بوادر الرافض في الشعر العربي الحديث، شعر عدد 19، السنة الخامسة صيف 1961، ص 88.
(12) رجب، محمود: الاغتراب، د.ت، ص 12.
(13) رأيتُ رام الله: ص 24.
(14) المصدر نفسه: ص 25.
(15) سليمان، حسين: الطريق إلى النص، مقالات في الرواية الفلسطينية، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1997، ص 53.
(16) رأيتُ رام الله: ص 222-223.
(17) المصدر نفسه: ص 157.
(18) رأيتُ رام الله: ص157.
(19) خليفة، عبد اللطيف محمد: دراسات في سيكولوجية الاغتراب، دار غريب، القاهرة، د.ط. 2003، ص 81-82.
(20) جمشيدي، فاطمة: ملامح الاغتراب في شعر علي فودة وردود فعل عليها، إضاءات نقدية، مج 27.
(21) المرجع السابق: ص 98.
(22) العبد الله، يحيى عبد الرؤوف: الاغتراب، دراسة تحليلية لشخصيات الطاهر بن جلون الروائية، المؤسسة العربية للدراسات، دار الفارس، عمّان-الأردن، ط1، 2005، ص 18-21.
(23) رواية رأيتُ رام الله: ص 159.
(24) دعدور، أشرف علي: الغربة في الشعر الأندلسي عقب سقوط الخلافة،ط1، دار النهضة الشرق، 2002، ص 22-23.
(25) المولد، روضة بنت بلال بن عمر: الاغتراب في حياة ابن دراّج وشعره رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في اللغة العربية، جامعة ام القرى، المملكة العربية السعودية، 2007، ص 135.
(26) هلال، عبد الكريم خالد: الاغتراب في الفن، دراسة في الفكر الجمالي العربي، ط1، بيروت، 1992، ص 146.
(27) رواية رأيت رام الله: ص 64.
(28) الرواية رأيتُ رام الله: ص 69.
(29) الرواية رأيتُ رام الله: ص 75.
(30) رواية رأيتُ رام الله: ص 109.
= = =
- رأيت رام الله: غلاف