بتول أبو عقلين - غزة/فلسطين
يوميات الحرب
غزة: يوميات العدوان 2021
الحرب تجبرني على التخلي عن طقوسي المقدسة وتقديس العادي، كلماتي ونصوصي الشاعرية ليست كافية. إنها تشعركم بما أشعر وأنا أريدكم أن تروا ما أرى.
على مدار سنين حياتي، كنت أحاول أن أضع خططا يومية وأكون إنسانة منظمة. ربما أفهم معنى الروتين وكيف يكون، لم أستطع. كان ينتهي الأمر بانفجاري وزمجرتي الكثيرة.
غزة عودتني أنه لا روتين لأمثالي الذين كبروا مع كل حرب عشر سنين، أصبحت عشوائية، أدعي الحرية التي لم يعطني إياها العالم، متمردة بشدة وصامتة كثيراً، وصاخبة كشوارع حي الرمال التي نُسِف بعضها.
أتوقف عن كتابة يومياتي بين الحين والآخر لأني أخاف الروتين، لا أريد أن ينفجر الداخل والخارج.
القبة الحديدية تهز البيت، تجعلني أكتفي بهذه الفقرة.
سأكمل بعد قليل.
أتحسس جسدي وأجرب استخدام حواسي كأني ولدت من جديد، لا أصدق أني حيّة بعد ليلة أمس، انقلبت غزة إلى هيروشيما، السماء مشتعلة كأنها القيامة، الجميع عرف ربه في تلك الساعة طويلة الأمد، الفيسبوك مليء بمنشورات الدعاء والاستغفار والاستنجاد بالله، المدافع تقصف وتعيد مجزرة الشجاعية فيها وفي أماكن أخرى.
في الشمال حمل الناس القادرون أرواحهم وحقائبهم وهربوا. شعرت أن الكون يتهاوى من حولي، كأن المباني قطع بسكوت داسها جرذ عملاق فحطمها. كنت خائفة جداً لدرجة أني شرعت بتوديع الناس الذين أحبهم.
كتبت وصيتي، وبكيت لأمي لأني لن أستطيع توديع كل الأشخاص الذين تركوا بصمة في سنيني القليلة. أرسلت إيميلا لصديقي المحرر بمقالتي الأولى التي أخذت وقتا طويلا جداً لكتابتها، أرسلتها بالرغم من أنها كانت بشعة وتشبه أي شيء إلا المقال. أخبرته كم كنت سعيدة بمعرفته، كنت قد استسلمت لقدري وانتظرت من الملائكة أن تظهر في أي لحظة لتمسك بأيدي روحي.
ذهبت إلى المرحاض، قضيت حاجتي دون أن يعكر صفوي أي غارة، ونمت بهدوء بعدما أيقنت أني أفلت مما حدث وأني على قيد الحياة.
أحاول أن أفرح بالعيد وأبتعد عن الأخبار الموجعة، وجدت أختي عند أبي تقول له: "بابا العيدية 15 صاروخ زنانة ولا 15 صاروخ F16؟"
إنها تصر على تذكيري بالواقع. وأنا التي تحاول الهرب.
الكلاب تنبح بشدة، وأنا متيقنة أن الكلاب تشتم المصائب، أتمنى ألا يكون هناك صاروخ قادم سيهز حياتي الآن.
أريد لكتابي الأول أن يكون عن غزة وعن الحرب، أريد لبدايتي أن تكون حقيقية.
الخوف لا يختفي مع كل حرب، كنت أظنه كذلك لكنه يتضاعف، فتحت أمي مرطبان الأرز فوجدتني أركض لأن صوته يشبه كثيراً صوت الصواريخ عندما تهوي علينا.
الجيران متجمهرون على قارعة الطريق يصدرون أصوات عالية ويركض آخرون باتجاههم، هناك صحفيَون واسعاف. أرسلْنا أبي ليتفقد الأوضاع وأنا أشبه بمن أصابه كساح من الخوف. قالوا: "ولا اشي، بس خناقة وفضيناها".
تباً للشارع الذي لم يرمكم خارجه وتباً لكم وتباً للاحتلال!
تحدثت مع وجه البيتزا ضحكنا ونسينا الحرب رغم أن حديثنا كان عنها، اضطررنا لأن نجز المكالمة فهناك قصف قريب سيحدث ولا أريد أن أكون بعيدة عن أمي، تركتني بقربي أختي الصغيرة لأحتضنها إن حصل شيء وشرعت تصلي.
بوم بوم بوم بوم...
نظرت حولي، ارتبكت، نسيت أن أحتضنها، كانت تبكي وأنا أنظر اليها كالمغيبة، أمي تكبّر في صلاتها علّي أتذكر، فقت من غيبوبتي وعانقتها عناقاً أبدياً.
أسمع بلبلة الآن في الشارع، ربما إخلاء، ربما قصف آخر وموتى آخرون وربما لا شيء.
هنا إنسانة جعلتها الحرب تمتلك حاسة سمع أقوى من البومة، معجزة حية للمرة الرابعة أو أكثر بكثير، هنا من تردد "نموت وتحيا فلسطين"، وتجلس على قارعة الطريق تنتظر فلسطين لتحيا.
= = =
غزة: الجمعة، 14 أيار (مايو) 2021.