قمر النجار - سورية
العلم البرتقالي
يحدثُ أن يصبّحكمُ المغتربُ بمنشورِ شوقٍ، ويُمسّيكمْ بمنشورٍ مغايرٍ تماماً. الحكاية بدأت ما قبلِ الرّحيل، حيث لم يكنْ راضياً عن كلّ شيءٍ على أرضِ الوطن، فقد كان يشتمُ واقعهُ في اليوم ألفَ مرّة، ويُمنّي نفسه بأنّه سيهاجرُ كاسراً من خلفهِ ألفَ جرّة.
يمقتُ وبِشدّة، مُردّدي عبارة: "الوطنُ ليس فندقاً نغادرهُ عندما تسوءُ الخدمةُ فيه". ويردّ عليهم بعبارةٍ أشدّ مقتاً: "والوطن ليس بقبرٍ، يُلزمنا بالخلود فيه. حتّى في فلسفةِ الفنادقِ يمكن للقبورِ أن تُزاح، تُبعثر، أو تُردم".
قُبيلَ قرارِ هجرتهِ مباشرةً، عبّأ في حقائبِ الذّاكرة بقايا وطنه الخاصّ جداً، الذي لم تكن تحدّه مفاهيمُ الجغرافيةِ التّقليديّة. قد جمّع تفاصيله من أركان بيته القديمِ بروائحهِ وأمسياتهِ وصباحاتهِ التي يهوى.
حزَمَ في الحقائبِ امتداد شارعهم ودروبه التي يألَف، وصَلَتْ أم لم تصلْ، فلم تكن تهمّه الوجهة. لملمَ ضحكاتَ أصدقائهِ، ووجهَ بائعِ الحيّ، والوجوه القليلةِ التي يحبّ، ونثرَ الباقي كخيالاتٍ يمرّرها فقط لتخدمَ فكرةَ النّموّ السّكّاني في وطنه الجديدِ المُبتكر. حملَ شمساً بدرجةِ سطوعٍ معيّنة، كما أنّه اصطحب قمراً مُكتملاً لا يغيبْ، ولم ينسَ حفنةَ نجومٍ ينثرها، وذلك تحسّباً لمسارِ خطّ الرّجعة.
وبينما يهمّ بقرارَ الرّحيلِ، إذ بالغربةِ تُطبقُ مخالبها على كتفيهِ تجرّه جرّاً، دسّتْ به في أيّ طائرةٍ عابرة، هرعتْ تعلو بهِ أكثرَ فأكثر، ليبدوَ له الوطنُ أصغرَ فأصغر، وهناك ومن علٍ، هوَتْ به في أيّ مكانٍ سحيق.
في الوطنِ كان يسمّى مواطناً، في السّماء يدعى مهاجراً، وفي الغربةِ يلقّبُ مغترباً. أمّا في واقعِ الأمرِ فهو الآن غريب، إذ أنّه لم يعدْ هناك. كما أنّه ليس هنا.
على ثرى أرضِ الغربةِ بسطَ منصّةَ الوطنِ الذي ابتكر، وشرعَ يرتّبُ الحياةَ وينضّدُ الأشياءَ بالطّريقة التي تروقُ لمقاييسِ جودةِ الأوطانِ في مخيّلتهِ، وفي ذات الوقت تتماشى مع موضةِ الأوطانِ في آخرِ صيحاتها.
لمْ يُرِد أنْ يكونَ مثلَ جارِ الغربةِ الذي عَصبَ عينيهِ بعصبةِ الوطن، حيث سيّجَ منصّته بكلّ أسبابِ عدمِ الإندماج، رافعاً على ساريتها علمَ الوطنِ (الأحمرِ) اللّون فحسبْ. ولمْ يُردْ أنْ يكون مثل الجارِ الآخرِ الذي افترش أرضَ الغربةِ دونما منصّةٍ عازلةٍ، وتلحّفَ سماءها الشّاسعة، ورفعَ علمها (الأصفر) فحسبْ.
لم يكن ليأملَ أنْ يزرعَ حقلاً من زيتونِ بلادهِ في بلادٍ لا تجيدُ لغةَ الزيتون. ولم يكن ليطمح أن يرتديَ سروالَ أجدادهِ في بلدٍ يعتقدُ شعبهُ بأنّ أصحابَ السّراويلِ هم ضرب من ضروبِ الخيالِ يقطنونَ فقط بين دفتيّ كتابِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ مع السّندبادِ البحريّ وبساطهِ وسِرواله.
حاولَ أن يكونَ وسطاً بين اثنينِ بقناعةِ مفادها أنّ أولئك الذين لا يزالون يعيشونَ على منصّة الوطن الخالصِ في الغربةِ (سيتقوقعون). وأولئك الذين رموا أوطانهم عند أوّل حاوية في مطاراتِ الغربةِ (سينصهرون)، فارتأى أن يمزجَ بين (حُمرةِ) علم بلادهِ، و(صُفرة)علم الغربة، فنتجَ عن ذلك علماً (برتقالياً) مبهجاً. لم يكن يشبهُ ماضيهِ كثيراً، كما أنّه لا ينتمي إلى حاضرهِ تماماً، لكنّه علمٌ يرفرفُ مثل أعلامِ الدّنيا، والسّلام.
مع الزّمنِ تشكّلت على منصّته مبادئ جديدة لمفهومِ الانتماء، صار يقدّم كعكَ الوطنِ بجانب حلوى الغربة، يُرافقها فنجانُ قهوة أهلا وسهلا الوطن وقهوة مرارةِ الغربة، وذلك احتفاءً بأعياد الوطن الهامّة واحتفالات الغربة العامّة. بات يضيفُ عدّة كلماتٍ عفويّة من حروفِ الغربةِ إلى حروفِ الوطن ويستسيغُ اندماجها.
يعجبهُ الانضباط بالقوانين في الغربة، إلّا أنّه كان يكسرها أحياناً، حنيناً لمشاغباتِ الوطن. ونخوته الفطريّة التي كانت تغلي في خَلدهِ في دروبِ الغربة، كان يكبتها مراراً ليتعايشَ مع لا مبالاة أولئك الذين لم يتربّوا على لبن النّخوة في ضروعِ الوطن.
صَمدتْ منصّته لوقتٍ طويلٍ وهي تمثّلُ مملكةُ مقاساتهِ الوطنيّة بكلّ سياديّة. إلى أن جاء الأولاد. إنّهم يكبرون، بدأوا يَحبُون، يرفلونَ بثيابهم، يتعثرون، يسقطون، ثم يقفون، وكلّما ساقَتهم خطاهم خارج المنصّة هرعَ وأعادَهم، تُسرع خطواتهم ويغافلونه لكنّه وراءهم.
تمكّن من السّيطرة على حبوِهم ومشيهم وركضهم، إلّا أنّه وفي ذاتِ زمنٍ، هربوا منه فلم يجدهم. في هذه المرة بكى، وبكى معه العلم لوناً أحمراً يائساً. وعَجَبي على الألوانِ عندما تبكي.
قرّر إنقاذَ ما يمكنُ إنقاذه ويعود به إلى الوطن. طوى منصّته بكلّ ما فيها، وزجّ بها في حقائب ذاكرةٍ أكبر، وعلّق العلم البرتقاليّ مثل وشاحِ ثباتٍ وراح يتلّمس دليلَ النّجوم المنطفئة، وعاد.
في المطارِ لاحظَ أنّ العلمَ لم يكنْ برتقالياً صافياً تماماً. كان مائلاً إلى الاحمرارِ أكثر، يبدو أنّ جزءاً من اللّون الأصفرِ قد أبى العودة. وعجَبيْ على الألوانِ عندما تتمرّد.
حشرَ المنصّة في عليّةِ ذاكرتهِ المنسيّة، متحجّجاً أنْ لا حاجةَ له بها في ديكورِ العودةِ إلى الوطن. وهناك رحّبت به وجوهٌ لا تشبه الوجوه، وتخطّى ملامحَ حاراتٍ لا تشبه الحارات، فلمْ يعد في صخبِ نهارها ضجيجُ الأطفال، ولا في أنفاسِ ليلها حكايا الجدّات.
التّجاعيدُ التي باتتْ تحاصرُ ضحكةَ صديقهِ السّاخرة لم تعد تشبهه في أيّ شيء. وقهوةُ أهلا وسهلا لم يعدْ يستسيغُ تلك الحلاوة التي فيها، حنّ ذوقهُ إلى طعمِ المرارِ في كأس الغربة.
في تيهِ تجوالهِ، مرّت به شعوبُ السّراويلِ، سُرّ بأنّهم باقونَ لم ينقرضوا لكنّه لم يتخيلْ إطلاقاً، أنّ بإمكانه أن يستبدلَ بنطالهُ المريح بملاءةٍ كاملة يلفّها على خصره.
مرّ بشجرةِ زيتونٍ فأرهبهُ مشهد تشبّث جذورها في تربة الوطن، تُحسّ أنّ لجذورها ضلوعاً تحتضن جنادلَ الأرض احتضاناً، وهو الذي أعياهُ أن يمسّك جذور فسيلة زيتونٍ بتراب الغربة عنوة، فشجرة الزّيتون لا تصلُ من استغنى، فلا الجذرُ يلمّ ولا التُرب يضمّ.
وفي صَمتِ ذلك المساء، أنزلَ المنصّة من عليّة ذاكرتهِ المغفلةِ، وفرشها على أرض الوطن ونضّد عليها الأشياء بعناية ونشرَ علمه البرتقاليّ، فهو الآن قد أدرك تماماً أنّه لم يعدْ بإمكانه إنزال قدميه على أرض واقعِ هنا، وليس له القدرة على التّحليق في خيال هناك.
كان يهدر جلّ وقته وهو يوازن المزجَ بين صفرةِ علم ِالغربةِ وحمرةِ علمِ الوطن، ليحافظَ على رمزيّة بقائه، فهو إن إصفرّ سيُفنيه المنفى، وإن إحمرّ ستخنقهُ الإقامة الجبريّة. أصبح العلمُ البرتقاليّ وحدهُ هو ما يشعره بالسّيادة، وأمسَتْ المنصّةُ وحدها هي التي توهمهُ أنّه في حضنِ وطن.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ