زكي شيرخان - السويد
فنجان الكابتشينو
اعتاد، صباح كل يوم، وقبل أن يباشر عمله، أن يجلس في المقهى القريب من مقر الشركة التي يعمل بها، ليرتشف فنجان كابتشينو. هذا ما يمارسه كل يوم، وعقله يرفض أن يسميها إدمانا لكراهته لهذه المفردة. الأيام التي تحرمه هذه المتعة هي أيام العطل. بات موقنا أن إيميلي (Emily) هي خير من يعدها. هو لم يتذوق أطيب منها في مكان آخر.
إيميلي التي تعد المشروبات الساخنة في هذا المقهى، شابة ثلاثينية. جميلة. وجه مشرق. جسم متناسق، وشعر كستنائي بتجاعيد خفيفة. لا تضع أيا من المساحيق على وجهها، ويظنها، في قرارة نفسه، أنها تتقصد ألا تغطي هذا الجمال الطبيعي، بكحل، أو أحمر شفاه، وما شابه ذلك.
في البَدء، كانت النادلة تسأله عما يود أن يشرب. مع الوقت، ولأنه لم يكن يطلب غير الكابتشينو، صاروا لا يسألونه. ما هي إلا دقائق من جلوسه على نفس المنضدة التي لا يغيرها والمحاذية للواجهة الزجاجية، يتطلع للحاثي الخطى نحو أعمالهم، وبين الفينة والأخرى يختلس نظرة باتجاه إيميلي وهي منهمكة في إعداد ما طلبه الزبائن، يضعون الفنجان أمامه.
ومثلما اعتاد هو على ارتياد المقهى، اعتادت هي على تحيته حالما يدخل بابتسامة، وانحناءة رأس خفيفة. يرد تحيتها بمثلها، ويود لو ردها بالأحسن.
مرت فترة لا بأس بها منذ أول وطأة لقدمه في المقهى، وارتشافه أول فنجان، ومعرفته بمن تعد أنواع القهوة، واختلاسه النظر لها، ومن ثم اعتياده المداومة. حادث نفسه وهو في سريره يستعد للنوم: "ليس هناك أدنى شك من أنها الألذ من بين كل ما تذوقته. هي بارعة في إعدادها. ولكن، أحقا أنك ترتاد المقهى من أجل هذا الفنجان الصباحي الذي أصبح لزاما عليك، أم ترى؟" أنّى له أن يجيب.
ذات يوم، وهو يرنو بنظره عبر الزجاج، "صباح الخير". التفت فإذا بها تضع الفنجان على المنضدة. وجّه نظره إلى عينيها مباشرة. آية جمال أخرى. "النادلة مشغولة في الداخل، ولا أريد أن يبرد محتوى فنجانك". لم يجبها. كمن أُخذ على حين غرة. ارتشف ما فيه بدفعات سريعة. دفع الثمن. خرج مستقبلا ريحا باردة كان بحاجة لها. "أيعقل؟"
في اليوم التالي، قدمت له فنجانه المعتاد. هذه المرة لم تقدم أعذارا. ابتسمت. "صباح الخير"، هو بادر بالتحية.
"صباح الخير، اسمي إيميلي. يبدو أن المقهى وما يقدمه قد أعجبك، لذا صرت من زبائننا الدائمين، وهذا مدعاة سرورنا".
لم يرد. اكتفى بإيماءة رأس وابتسامة. "إن كان لا يضايقك الأمر، فسأقوم بتقديم مشروبك كل يوم بنفسي".
"لا، أبدا"، رد.
صارت تأتيه بفنجان الكابتشينو كل يوم، وتبادله حديثا مقتضبا،
"لا أظن أنك تعمل في إحدى المحلات المجاورة؟"
"أنا أعمل في شركة تقع في الشارع المجاور".
سألته مرة: "أتعيش وحدك؟"
"نعم".
خطوة يقوم بها الرجال والنساء على حد سواء رغبة في تعميق العلاقة. لم يفاجئه السؤال، إذ بدا له بوضوح أنها استلطفته. "هل أنت مستعد؟" هذا ما سأل نفسه. لم يستطع الإجابة، لا بل لم يرغب. ما بين الرغبة العارمة التي تعتريه، وبين الَّلأْي الذي سيقع فيه بعد أن يفترقا. ستقول له بعد فترة، سيان طالت أو قصرت، وببساطة سَمجة: "لم أعد أشعر بعاطفة تجذبني إليك". مثل هذا يحدث دائما كأنه جزء من ثقافة هؤلاء القوم. البعض ينعته بصدق المشاعر، وليس هناك من داعٍ من ديمومة علاقة بلا عواطف. البعض الآخر يفسره بأن القوم يعتبرون الحياة أقصر من أن تمضي بمعاناة عدم التوافق العاطفي حتى في الممارسات الغرائزية.
* * *
لم يمنحه الوقت ما يكفي لحسم ما اعتمل بين عقله وغريزته اللحوحة. انتشر الفايروس بسرعة. جائحة مرعبة لم يسلم منها بلد. ازدادت أعداد المصابين والموتى. فرضت القيود الصارمة. أغلق الكثير من مراكز العمل، ومارس الموظفون أعمالهم عبر الإنترنيت.
لزم البيت بطلب من الشركة العمل عن بُعد، بعد التأكد من إصابة اثنين من موظفيها. لم يحتمل الحرمان من فنجانه الصباحي. في اليوم الرابع توجه صوب المقهى بعد أن وضع قناعا، ودس في جيبه قنينة صغيرة من المُعقّم. في المقهى، رُفعت بعض المناضد والكراسي، وبُوعد ما بين المتبقي لضمان المسافة المقترحة من السلطات.
أدار رأسه في كل الاتجاهات، بعد أن لم يجد إيميلي في موقعها المعتاد. لحظات وظهرت تضع قناعا. بدت له أجمل. اتخذ مجلسه. جاءته بالمطلوب.
"صباح الخير".
"صباح الخير" رد.
"صار لزاما عليّ أن أعمل في البيت. شوقي للفنجان أخرجني عَنْوةً. لا أدري إلى متى سيستمر هذا الوضع؟".
"سيطول بأكثر مما نعتقد، و...". لم تكمل. قَفَلَتْ.
بعد أسبوع، حث الخطى نحو المقهى. مَنَّى نفسه بلقائها. الثلوج غطت الشوارع والأرصفة والأشجار والسيارات المتوقفة. رفع ياقة معطفه اتقاء البرد. دَلَفَ. وجد فتاة غير إيميلي تعد القهوة. أجال النظر عله يجدها. تقدمت النادلة وضعت فنجانه، وحيّته.
"أين إيميلي؟" سأل.
"أصابها الفايروس منذ أيام".
طلب رقم هاتفها. ارتشف من فنجانه. نظر للفتاة التي أعدته. خامره شعور بأن هذه الأسوأ من بين كل ما شربه. خرج مسرعا بعد أن دفع الثمن دون أن يرتشف ثانية.
* * *
اتصل عدة مرات دون أن يتلقى إجابة. في المساء أعاد الاتصال. رد عليه صوت نسائي أجَش.
= أليس هذا هاتف إيميلي؟
= نعم، لكنها لا تستطيع الرد. نقلت إلى العناية المركزة. في المستشفى وضعوها تحت جهاز التنفس الاصطناعي. هي في وضع خطر. الأطباء يظنون أنها لن تصمد.
سكتت لبرهة قبل أن تكمل.
= "كما تعلم، هي تعاني من مشاكل في الجهاز التنفسي منذ طفولتها، وهذا..."
لم يدعها تُكمل. شكرها، وأغلق. من أين يدري أنها تعاني من مرض مزمن؟ لم يبد عليها أي عارض منذ عرفها.
"لن تصمد". ظلت ترن في أذنه كناقوس ثقيل. مد رجليه، وشبك يديه فوق يافوخه. أغمض عينيه.
"إن نجح هذا الفايروس في سلب إيميلي أنفاسها، فيكون قد اتخذ القرار بدلا عنك. ترى كم قرارا سيتخذ بدلا عن الآخرين؟ وإلى متى سيظل يقرر؟"
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● عنق الزجاجة
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- [...]