عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. عبد الحميد صيام - الولايات المتحدة

محاولة إعادة ترتيب الفوضى

هبة بعيرات في باكورة إنتاجها الشعري "بيت بيوت"


عبد الحميد صيامالتقى لفيف من أبناء الجالية الفلسطينية والعربية في مركز الجالية الفلسطينية بمدينة كليفتون، بولاية نيوجرسي للاحتفاء بالشاعرة هبة بعيرات بمناسبة صدور ديوانها الشعري «بيت بيوت». وقد ألقت الشاعرة عددا من قصائدها وأجابت عن عدد من أسئلة الحاضرين. في هذا اللقاء تم تبادل الآراء حول الشعر ودوره وحول ديوان هبة الأول وأهمية هذه اللقاءات الأدبية والفنية التي تسهل الهروب من السياسة والنزاعات والتحديات الكونية إلى رحابة الشعر وموسيقاه الداخلية التي يضيفها إلى النص كل قارئ بطريقته وتجربته وخلفيته. وقد ألقى الكاتب هذه الكلمة تعليقا على الكتاب بعنوان «إعادة ترتيب الفوضى».

أهدتني الشاعرة هبة بعيرات قبل شهر نسخة من ديوانها الأول، وسألتني تكرما أن أعلق على ديوانها في هذا اليوم. وقد جدفت في الديوان مستخدما إبحاراتي العميقة في مدارس الشعر وعيونه القديم منها والحديث: من الملك الضليل الذي قيّد الأوابد وطلب من الليل أن ينجلي بعد أن شدت نجومه بجبل يذبل، إلى الشاعر الذي نظر الأعمى إلى أدبه وأسمعت كلماته من به صمم، وجمع المجد من أطرافه: خيل وليل وبيداء وسيف ورمح وقرطاس وقلم، إلى الذي صرخ في الدنيا حديثا «نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة».

هبة بعيراتأقف الآن مستحضرا ما أستطيع من قدرات أدبية في محاولة أن ألملم هذه الزفرات المبعثرة والعميقة والشفافة التي تخرج من مخيلة شاعرة مبتدئة وجدت نفسها في ديار الغربة أمام أسئلة كبيرة ومعقدة تنهال عليها كالمطر. لكن الأجوبة تفر من أصابعها كالرذاذ. من قال إن الشاعر مطلوب منه أو منها الإجابة عن أسئلة وجودية؟ من قال إن الشاعر مسؤول عن إعادة ترتيب الفوضى ليقدمها لعالم فوضوي أصلا.

الشعر في اللغة العربية مرتبط بالشعور والأحاسيس. وفي اليونانية مرتبط بالحكمة. وفي الألمانية مرتبط بالعقل، فنحن قوم نطرب للكلمة ونحبها ونحفظها ونرددها ونغنيها. وقرآننا العظيم من أحد جوانب إعجازه اللغة فقد جاء في الذكر: «هذا لسان عربي مبين».

والشعر العربي كأي كائن حي: ينمو ويزدهر ويخفت ويعلو ويخترق المسافات ويشنف الآذان ويحرق القلوب ويبني الجسور ويحرك الجماهير وينوّم الكسالى ويوقظ الأمم. لقد ظل هناك جمهور للشعر الجيد على مر العصور. والآن وفي عصر الشبكة العنكبوتية والأقمار السبريانية هل بقي مكان للشعر؟ سؤال متروك لكم جميعا. أما أنا فالشعر جزء من كياني وقد بدأت أغازل الشعر في صباي. لكن بعد دخول معترك السياسة وتعقيداتها، «ضاعت الأشعار مني وهي يوما ضيعتني».

الشعر الحديث لا يعتمد على النغم الخارجي المقفى والموزون، كما أراد لنا الخليل بن أحمد وألزمنا ببحوره الستة عشر. لكنه يتفجر من الداخل أحاسيسَ وصورا وموسيقى عميقة، ويتحدى خيالك أن تلتقط المعاني التي في نفس الشاعر. وفي عملية البحث تستمتع بالشعر الحديث، حيث يقف المتذوق أمامه ليغرف منه ما يحلو له. كل واحد يفسره على هواه ويتذوقه على هواه. وقد لا يلتقي تفسيران على مقطع أبدا: كاللوحة الفنية في عصر ما بعد بيكاسو والمجنون سلفادور دالي اللذين تحديا المشاهد أن يفهم ما يخطر لهما من لوحات أو ينصرف عن الفن ويذهب في حال سبيله.

كم صرخ الناس في أدونيس كي يبسط شعره وكان يصر على «أن من لا يعجبه شعري إذن أنا لم أكتب له فليتركني ويمشي». إنه الشعر الحديث من جيل ما بعد بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ومجلة «شعر» في بيروت التي أصدرها يوسف الخال عام 1957.

هذه النفثات التي ألقتها علينا هبة موزعة في مقطوعات شعرية، ولا أسميها قصائد. هي خلجات شعور عميق ينفعل لما يرى ويطلق تأملات وردات فعل قد تبدو غير مترابطة ولا متجانسة للقارئ العادي، إلا أنها في النهاية تبني صرحا كبيرا من التأملات الوجودية أمام عصر غاب فيه كثير من المنطق والانسجام والتراتيب والتفسيرات المعقولة والاتزان والخطوط المستقيمة. عالم مترامٍ ومبعثر تحاول هبة في باكورة أعمالها أن تستل منه لوحات متلاحقة، الواحدة بعد الأخرى تتلوها علينا صورا وموسيقى وزفرات، وتتحدانا أن نعيد المنطق لعالم من غير منطق. فهي ترى عالمنا صورا معلقة في الهواء بلا جدران ولا إطارات، صورا ناقصة لكنها أجنحة تسعفنا في ساعات الريح والعواصف لنتأكد أننا أحياء رغم هذه الفوضى (سيرة ذاتية: ص 36).

في الديوان أدب وعلم وسياسة واقتصاد وفن وحب ويأس وثورة ورفض للهزيمة. لكن عليك أن تكتشفها بإعمال عقلك واستكشاف ما خفي منها، فهبة لا تعمل في مطعم الوجبات السريعة لتقدم لك همبرغر لتسد جوعك وتمشي ثم تختفي في الزحام، بل تقدم لك شذرات مبعثرة من قلبها وفكرها وروحها، وتتحداك أن تجمعها بعناية لتعيد بناء الوطن أو الذاكرة التي تدلك على الوطن.

الهزيمة تأتي لأننا نتكالب على بذور الثورة البازغة من الرواية الأصلية، إلا أن هناك من لا يريد لها أن تنضج وتنهض فينقض عليها بفأسه (هزيمة: ص 102). قد يبدو الفارس من أول وهلة أنه جاء ليحرر المدينة من كوابيسها وفوضاها وخطوات المشردين. يشمر عن زنديه وينزل الميدان. إلا أنه غيّر الطريق وانهار واختفى، ووُجد أخيرا في فراش المدينة (منازلة: ص 112) رغم أن أحدا لم يغدر به، بل دخل الحانة، وهناك تمت إعادة صياغته فبحث عن مسرب ولو ضيق لإرضاء المدينة وانتهى به الأمر أن نام في فراشها.

كلما تعلمت شيئا لتصل إلى المعرفة تثور حولك العواصف. تتقدم خطوة في طريق المعرفة، لكنك ما تلبث أن تتراجع، فهل تتوقع أن تصل نهاية الطريق؟ ذكرتني هبة بعيرات بسيد الكلمة الشاعر محمود درويش عندما قال: «فهل ضاق الطريق، ومن خطاك الدرب يبدأ يا رفيق». اتركي هذا المسيح الذي يضحي من أجل شعبه ويقف عاريا أمام المعابر ليحمي شعبه ثم يكتشف أنه لا يحمل أي هوية تسعفه فيتبعثر مثل الآخرين (متى إذاً: ص 60). العسكر لا يتركونه في حاله، فهم يدوسون على مكونات جسده من قلب وأبواب وستائر، فيتوهمون أنه مات، لكنه ينام فقط ليخدعهم ولكنه ينهض من جديد. إنه مسيح ذلك الزمان ومسيح هذا الزمان. وكأني في نفس الشاعرة التي تطلق هذا الإشارات الغامضة ليلتقطها المعذبون في الأرض أمثالنا نحن الذين نعرف أن طائر الفينق يحترق ثم ينتفض من الرماد حيا ويواصل المسيرة (قطع: ص 105).

كيف لي أن أعيد ردم هذا الخراب لأعيد للأشياء رونقها وسحرها بعد أن تتوقف الحرب. الأسلحة كلها صدئت ولم يبق أمامي إلا أن أستعير عيون الآخرين وأذرعهم وأصواتهم لكي ننتصر على الخراب. العمل الفردي لا يجدي بل الجمع هو الذي يعبر المسافات وينتصر على اليأس والحرب (إعارة: ص 82). حذار من السهو: تقول الشاعرة بدون مواربة. الغرباء سكنوا بيوتنا وأحلامنا، وتسللوا من ثقوب ضعفنا. لكن علينا ألا نواجههم بالنعاس والسهو، وإلا فنحن لا شك ضائعون (استحقاق: ص 74).

إنها العرافة والحصافة

الرحلة في الديوان ليست سهلة. وأنا جازفت وخضتها. وقد ترضى عني هبة أو تغضب. لكنني استمتعت بقراءة الديوان. بعض القصائد قرأتها مرتين وثلاثا. وكلما أعدت القراءة، انكشف لي سر جديد ومعنى جديد أو حيرة جديدة. سيري في درب التجلي واكتشفي مزيدا من خلجات النفس الممزقة في الغربة. وجمّعي كل هذه الشظايا لعلك تعيدين ترميم بعض الخراب الذي لحق بنا جماعة وأفرادا.

وأجمل ما في الأمر أنك في نهاية المطاف اهتديت إلى الصواب وصرخت: «كل شيء معد للسكون، كأبسط أشكال النهاية، حين فجأة يلمع في عيني طريق» (رحيل: ص 125). اهتديت إلى النور بعد العتمة ونحن سنهتدي كذلك يوما. أنا واثق أن الخطوة الأولى ستقود إلى مساحات أوسع، وتجليات أعمق، لتحفري لك اسما بين شعراء ما بعد الحداثة.

= = =

هبة بعيرات: شاعرة وكاتبة فلسطينية تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وتمارس مهنة المحاماة. وتعمل باحثة قانونية مع عدد من المراكز الحقوقية في ولايتي نيويورك ونيوجرسي. حاصلة على شهادة الماجستير في القانون الدولي وحقوق الإنسان من كلية واشنطن للحقوق، بالجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة، وشهادة البكالوريوس في القانون من جامعة بير زيت بفلسطين. عرضت مجموعتها الشعرية «بيت بيوت» على مسابقة الكاتب الشاب عام 2019 التي تقيمها مؤسسة عبد المحسن القطان فقررت لجنة التحكيم أن تطبعها في كتاب.

D 1 آذار (مارس) 2022     A عبد الحميد صيام     C 0 تعليقات