مختارات: بيان نويهض-الحوت
الشهيدة ندى أبو غنيمة-اليشرطي
ندى [أبو غنيمة] اليشرطي: وحدها في الليلة الراجفة كانت الشهيدة
بيان نويهض [الحوت]
مجلة "شؤون فلسطينية". العدد 23. تموز (يوليو) 1973.
.
.
ويبقى الموت سر الحياة. يبقى أعظم الأسرار. ويبقى لك موت حكاية. يكون الموت أحيانا أكبر من الحكاية. وتكون الحكاية أحيانا أكبر من الموقت.
وهنا تختفي ظلال الموت تحت أجنحة الحكاية. ينهزم الموت أمام ميلاد الحكاية. يلملم الموت تجارته. بعض رصاصات فارغة. بعض بقايا. يلملمها ويرحل. مهزوما يرحل. من غضب الناس ولعنتهم يرحل.
هو في هذه المهمة ما كان سيدا. وما كان قدرا. وكل ما كان ليس قدرا. لا يهابه الناس. ينساه الناس، ويذكرون الحكاية.
* * *
كانت المدينة ساهرة. وهل تعرف مدينة إلى النوم سبيلا، وهي تحصي في ليلها شهداء النهار؟ وكيف تنام مدينة وهي تختف من رصاصة تخترق النوافذ أو الحواجز أو الأرواح الجريحة.
الناس في البيوت يهربون من حائط إلى حائط. يهدئون من روع الصغار. وخارج البيوت صمت رهيب. طرقات المدينة ليس فيها صدى خطو لأحد.
* * *
بساتين المدينة مقابر. بيوت المدينة معتقلات وسجون. سلطان المدينة هو الخوف من الموت. هو السيد الأكبر.
من يتحدى الخوف؟ من يتحدى السلطان؟
صوت جريء تحدى الخوف. وجه شجاع تصدى لصدفة الموت في كل لفتة. كصدف الريح يعبث بأوراق الشجر، فتسقط الأوراق التي يختارها الريح. ولا مرد لعبث الريح. ومشى الوجه الشجاع يتحدى. وما كان أكبر من التحدي.
ما كان أعظم أن يكون الصوت الذي ارتفع صوت امرأة!
كثير على الرجال في بلادنا أن يعرفوا التحدي، فكيف يجوز هذا لامرأة؟
كثير على الرجال في بلادنا أن يمارسوا الشجاعة، فكيف يجوز هذا لامرأة؟
وكيف يجوز بعد هذا السؤال؟ لماذا وحدها في المدينة الساهرة؟ لماذا وحدها في الليلة الراجفة كانت الشهيدة؟
* * *
أنت؟ أنت بين الرفيقات والرفاق. أنت في فجر هذه الثورة العظيمة. لم تعرفي اليأس يوما. لم تعرفي غير الأمل. غير الكبرياء والصمود. وبعض الناس يعشق الكبرياء، يدهشه الصمود من عيني امرأة.
وهنا —كانت ندى— وحدها تعرف طريقها. إن عملت شاركت من حولها عشرات في العمل. إن سهرت، طوال الليل تسهر. تطالع. تدرس كتلميذة لا همّ سوى الدرس لها.
إن رعت طفليها، كانت أكثر الأمهات حنانا. وإن حزنت ندى، إن حزنت، لم تدع أحدا يشاركها الحزن. وإن بكت ندى، لم تدع أحدا يشاركها البكاء.
* * *
الابتسامة للناس، لكل الناس. والحزن لها. كانت هي والكبرياء والصمود توائم. وكيف لا تحزن ندى؟ وكيف لا تبكي، وندى قد فقدت أغلى وأحلى مت عرفته حيتها. فقدت رجلا، علما بين الرجال. ويوم اختارته ندى، ويوم اختارها، كانت فلسطين بينهما حديثا لا ينتهي. كانت فلسطين بينهما خريطة لعكا. شوارع عكا وحاراتها وبيوتها. هو يحكي، وهي تستمع.
* * *
أمل خالد كان في العودة إلى عكا. ومات خالد، وبقيت ندى ترعى الأمل. وماتت ندى، ولنا جميعا نحن الرفاق من بعدها، من بعد كل شهدي، وصية الثورة العظيمة: الأمل.
* * *
تلك كانت ندى. الوجه الباسم ضاحك. يطل سريعا. يختفي سريعا، كطلات الندى. والعمر جميل قصير كعمر الندى.
مع الفجر يطل الندى على البراعم والأزهار، ثم يحرقه وجه الشمس. لم يخلق الندى للصراع مع الشمس. لم يخلق الندى للبقاء ولا للحياة.
سر الكون في الندى زيارات وطلات سريعة، موعدها مع كل فجر، ورحيلها مع المجد كلما ارتفعت الشمس. وبين الرفاق ستبقى ندى هي الندى. ذكرها أريج وردة. كانت هنا. كانت هناك. كانت في لحديثة. كانت في المعركة. كانت ... ندى.
===
المصدر: مجلة "شؤون فلسطينية"، العدد 23، تموز (يوليو) 1973.
https://drive.google.com/file/d/1tUvFlPkcvQAbiPhjTO2DeBelL8z2JA4K/view
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي