هشام البستاني - الأردن
أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
الموضوع أدناه الجزء الثاني والأخير من ورقة قدمها الكاتب في مؤتمر أقيم في جامعة لندن للاقتصاد (LSE) تحت عنوان "جرامشي في الشرق الأوسط" يومي الاثنين والثلاثاء، 10-11 أيار (مايو) 2022. جرامشي هو المفكر الإيطالي، أنطونيو جرامشي، الذي ناهض الفاشية في إيطاليا بزعامة موسيليني، وقد سجن وتوفي في السجن، حيث كتب مساهماتهم الفكرية. للمزيد من المعلومات عن المؤتمر انظر/ي الرابط في ختام الجزء الثاني من الورقة.
.
بناء المساحات التّقويضيّة الفعّالة المُحرّرة من السّلطة
.
في برنامج صحيفة النّظام الجديد التي أسّسها جرامشي، ترد رؤيةٌ تطالب بإعادة النّظر إلى المصنع (الوحدة المصغّرة الأساسيّة للاستغلال الرّأسماليّ في ذلك الحين) باعتباره أكثر من مجرّد منظّمة للإنتاج الماديّ والاستغلال، بل باعتباره "كائنًا سياسيًّا حيًّا"(33)؛ تتشكّل فيه الطّبقة الثّوريّة ووعيها الثّوريّ، وتتطوّر مع تطوّر منظورها لدورها في عمليّة الإنتاج، وفهمها للانتزاع الذي يُمارسه الرّأسماليّ على القيمة الحقيقيّة لعملها. مع رأس المال الماليّ، يصبح هذا الانتزاع مزدوجًا؛ إذ يقبض العامل أقلّ من قيمة عمله ليتحقّق الرّبح للرّأسماليّ من خلال الفرق، ثم يعود البنكُ وفَيَضانُ السّلعِ بالاستحواذ على القليل الذي قبضه العامل كثمنٍ لقوّة عمله، ليعيده إلى رأس المال ثانيةً، ويُركّب فوائد وأرباحًا أكبر فوق الأرباح التي انتزعها ابتداءً.
يمكّننا هذا الفهم من طَرْقِ مقاربةٍ مشابهة، تجعل من الكيان الوظيفيّ، بإشكاليّاته المركّبة، كائنًا سياسيًّا حيًّا يُولِّد الوعي بوظيفيّته ووظيفيّة مجموعته الحاكمة؛ ومثلما تُولّد الرّأسماليّة الأزمات باستمرار، دافعةً النّاس إلى المزيد والمزيد من الفهم لوحشيّتها وظُلمها (وإن لم يتحوّل هذا الفهم إلى فِعْل، فتلك مسألةٌ أخرى سنتطرّق إليها أدناه فيما يتعلّق بالتّنظيم)، فإن الكيان الوظيفيّ هو إطارٌ أكثر توليدًا للأزمات، وأكثر ضعفًا في مواجهتها، كما أنّ تبعيّته وفساده وتسلّطه تجعل انكشافه أوضح، وهذا يُسهّل قلب العلاقة معه وإيقافها على قدميها عندما تُوظّف مفاهيم انقلابيّة (تقلب شكل العلاقة مع السُّلطة وتُصحّحها)، مثل مفهوم "دافع الضّرائب"، كأداةٍ تجعل من العموم ولاة الأمر على سلطةٍ تنتزع مصروفها من جيوبهم أو من على ظهورهم، وسنأتي على شرح هذا الموضوع لاحقًا.
يضيف برنامج النّظام الجديد أن على المصنع أن يتحوّل إلى "’المساحة الموطنيّة‘ للحكم الذّاتي للعمّال"(34)، كمقدّمةٍ لهزيمة الرّأسماليّة نفسها من خارجها، من هذه المساحة المُحرّرة التي تصوغ قواعدها بنفسها، وهي ذاتها التّجربة التي أقدمت عليها كُمْيُونَة باريس، وحاولت تنفيذها عُصبة السّبارتاكيّين الألمان ببرنامجهم الذي مررنا عليه سابقًا، ومثلها تجارب ساحات التّحرير خلال الموجة الأولى من الانتفاضات العربيّة، أو تجربة "احتلال وول ستريت" في الولايات المتّحدة، أو (بشكلٍ أقلّ وقعًا بكثير) تجربة حملة "غاز العدو احتلال" في الأردن(35): ففي سياق عملها كإطارٍ يشتقّ شرعيّته من ذاته لا من السّلطة، تشكّلت الحملة باعتبارها جسدًا سياسيًّا ائتلافيًّا علنيًّا مستقلًّا ذاتيَّ الإدارة، لم يُسجِّل نفسه قانونيًّا، ولم يطلب إذنًا لـِ، أو يُشعر السُّلطات رسميًّا بـِ، أيٍّ من أنشطته أو اعتصاماته أو مظاهراته الكثيرة عبر سنوات عمله الطّويلة، وحاكم السّلطة من خلال إقامة محكمةٍ شعبيّة، وأدانها، وسلّمها قرار الإدانة(36)، وانخرط في سلسلةٍ من التّفاعلات مع بعض أطر إدارة السّيطرة الرّئيسيّة للسُّلطة (مجلس النّواب، هيئة مكافحة الفساد، النّائب العامّ، المركز الوطنيّ لحقوق الإنسان) مع معرفته المُسبقة بعبثيّة هذه التّفاعلات وعجز تلك الأطر عن إحداث أيّ تغيير، لا أملًا فيها، بل توضيحًا للعموم (وهو ما تمّ من خلال البيانات اللّاحقة ذات العلاقة(37) كلّ مرّة) بأنّ هذه الأطر تفريغيّة، امتصاصيّة، شكليّة، وجزءٌ من أدوات السّلطة للمُناورة والتّسكين والتّضليل.
هذا مثالٌ صغيرٌ ومتواضعٌ على إنشاء المساحات السّياسيّة التي تقع خارج سيطرة السّلطة، وتشتبك معها في الوقت نفسه (من على قاعدتها هي، لا من على قاعدة السّلطة)، فالمساحات السّياسيّة المُحرّرة هذه ليست جُزُرًا خلاصيّة على شاكلة النّماذج التي قدّمتها الاشتراكيّة الطّوباويّة، بل هي معامل تحرّريّة اشتباكيّة تصنع تقاليد عمل، وتفتح آفاقًا إبداعيّة لممارسة السّياسة خارج الملعب الذي تتحكّم به السّلطة وتفرض عليه قوانينها لتخرج منه رابحةً كلّ مرّة.
ولا يمكن في هذا السيّاق أن تُشكّل المجموعة العاملة في المساحات السّياسيّة المُحرّرة أذرعًا لها تعمل داخل الإطار "الشّرعيّ" للدّولة أو الكيان الوظيفيّ، هذا ليس اشتباكًا مثمرًا؛ لأنّ تلك الأذرع النّحيلة الضّعيفة، الممدودة بِدَعَةٍ وخضوعٍ لقواعد اللّعبة غير المتكافئة، ستكون عُرضةً لِلَّيّ، وستُمكّن السُّلطة من ابتزاز المجموعة و/أو اختراق وإلحاق مساحتها المُحرّرة. من جهة أخرى، ستخسر المجموعة إبداعيّتها ووجودها المستقليّن (مثلًا: تحصل على تمويل من السّلطة، فتتوقّف عن اجتراح طُرقٍ مبتكرةٍ مُستقلّةٍ للبقاء؛ أو تؤسّس متجرًا، أو دار نشر، أو تستدين من البنك من أجل مشروعٍ ما، فتدخل المجموعةُ "السّوق"، وتصبح محكومةً بقواعده وتبعاته وشروطه)، فتتحرّك شيئًا فشيئًا، وحدها، إلى داخل ملعب السُّلطة، وتتحوّل إلى إطار عملٍ إصلاحيٍّ بعد أن كانت تقويضيّة تغييريّة، فيتمّ بذلك احتواؤها.
كما يقع في صلب بناء هذه المساحة المحرّرة، التّخلّي عن، وتعرية، كلمةٍ كثيرة التّداول، لكنّها في الواقع "بلا تعريف"، "بلا أي معنًى محدّد"، "مطّاطة"(38) هي: "الدّيمقراطيّة"، والتي أفضّل تسميتها بـِ: ديكتاتوريّة الرّأسماليّة، فهي شكلٌ مفرغٌ من المضمون، لا سيادة فيه ولا حكم للشّعب، بل لمجموعةٍ صغيرةٍ من النّافذين وأصحاب الأموال ممن يشتقّون شرعيّتهم بوساطة نظام تمثيليّ، تلعب فيه اللّوبيات الصّناعيّة والماليّة، والإمكانيّات الماليّة، والإعلام المملوك لكبار الرّأسماليّين والأثرياء أنفسهم، دورًا يضمن وصولهم واحتكارهم للتّشريع والشّرعيّة، واحتكار السّلطة والثّروة، واحتكار العنف ومشروعيّة ممارسته، واحتكار السّياسة، وتفريغ المجتمعات منها، بما يحوّل "أهم رموزها السّطحيّة، ’الانتخابات الحُرّة‘، [إلى] سيركٍ تسويقيٍّ إداريّ"(39)؛ هذا في الدّول، أمّا في الكيانات الوظيفيّة: فتزوير الانتخابات، وشراء الذّمم، وتهديد المُرشّحين والضّغط عليهم، وتفصيل وتغيير الدّساتير والقوانين بشكلٍ مستمرّ للحصول على نتائج محدّدة، والخروج عليها بلا مشاكل إن لزم الأمر، والدّور الذي تلعبه الأجهزة الأمنيّة والمخابراتيّة في إنتاج النّتائج، تجعل من "الدّيمقراطيّة" عَرْضًا تمثيليًّا سَمِجًا.
"تأتمن الرّأسماليّةُ مصير الشّعوب للشّهيّة الماليّة لأولغاركيّة ضئيلة العدد. بمعنًى آخر، إنها نظامٌ عصاباتيّ"(40). يقولُ آلان باديو، مسترسلًا في مكان آخر: "أعتقد أن ما نسمّيه ديمقراطيّة هو، ببساطة، تنظيمٌ لقوّة الهيمنة المُسيطِرة (the organization of the power of the dominant hegemony). إنها عمليّةٌ تُشرعِن أو تُرسّخ السّيطرة. علينا أن نتوقّف عن إشغال بالنا بها، إنّها الممارسة السّياسيّة للنّظام المُسيطر" (41) (the politics of the established order). لكن، هل علينا حقًّا ألا نُلقي بالًا بها وهي إحدى الوسائل الرّئيسيّة لاستدامة السّيطرة، وتحويل السّياسة إلى وَلَعٍ سِلَعيّ، من خلال تحويل السّياسيّ -بعد تغليفه من قبل خبراء التّسويق والعلاقات العامّة- إلى علامةٍ تجاريّةٍ يتمّ تسوّقها باعتبارها بضائع استهلاكيّة(42)؟
دور "الدّيمقراطيّة" (ديكتاتوريّة الرّأسماليّة) في إدامة سيطرة الأغنياء واضحٌ في الدّول الرّأسماليّة، لكنّ دورها التّسلّطيّ يبدو أشدّ وضوحًا في الكيانات الوظيفيّة، باعتبارها وسيلةً للتنفّع والوساطة والوجاهة والدّيكور الذي بلا معنى، تُمثِّل على الشّعب بدلًا من تمثيله، وتشكِّل وسيلة السّلطة الأنجع في نشر المعلومات المغلوطة، والدّفاع عن الجرائم المرتكبة بحق مستقبل النّاس باعتبارها "ضرورات ملحّة" أو "إنجازات وطنيّة"، لذا ليس من المستغرب أن تجد مظاهرات تهتف بسقوط مجالس النوّاب والبرلمانات (التي يفترض فيها –عمومًا- أنّها مُمثلّة المُتظاهرين) في هذه الكيانات(43)، حيث تصل "مطاطيّة" الدّيمقراطيّة حدّها الأقصى. تصفية هذه الوسيلة، وفضح خوائها، ودورها في استدامة التّسلّط، يحرم الكيان الوظيفيّ من أحد عناصر استدامته ودعايته.
ربّما يُعيننا في هذا جاك رونسيير إذ يتحدّث عن المُساواة (المفقودة في الدّيمقراطيّة): "أنا دائمًا أتبع مبدأً وضعه جاكوتو: إنّ المساواة هي افتراضٌ مُسبَق، لا هدفٌ ينبغي تحقيقه"(44)، وأيّ "ديمقراطيّة" تفتقر إلى هذه المساواة المُتحقّقة سلفًا، اقتصاديًّا-اجتماعيًّا قبل أن تكون سياسيًّا، هي أكذوبةٌ لسحب النّاس من مساحاتهم المُحرّرة إلى مساحة السّلطة".
يمكن إنشاء هذه المساحات المُحرّرة في سياقٍ سأسمّيه: الحَرَكِيّة المُناوِشة، الغرض منها التّحضير النّظريّ، وتجريب أشكال العمل، والتّنظيم، والتّفاعل الشعبيّ، مثل نموذج حملة "غاز العدو احتلال" الذي مررنا عليه، أو، حين تحين اللّحظة التّاريخيّة، في سياق احتلال، أو بشكل أدقّ، تحرير، مساحةٍ عامّةٍ بالمعنى المكانيّ، لا الزّمانيّ فقط، كما حصل في ساحات الجولة الأولى من الانتفاضات العربية، أو انتفاضة السّودان 2019، إذ علينا ألا ننسى مركزيّة المكان التي تحدّثنا عنها سابقًا بالنّسبة للكيانات الوظيفيّة ومجموعاتها الحاكمة.
"بعد عتبة معيّنة من التّصميم، والعناد، والشّجاعة،" يقول باديو، "يمكن للنّاس أن يُركّزوا وجودهم في ميدان، أو جادّة، في مصانع عدّة، أو جامعة، وما إلى ذلك"(45)، مؤسّسين بذلك ما يسمّيه باديو: الشّيوعيّة الحَرَكِيّة (movement communism)، حيث يحتلّ النّاس مساحةً ما، ويبتدعون فيها كلّ أنواع الحلول (تنظيم الدّخول والخروج، الإمدادات الغذائيّة، العلاج، تنظيم المتحدّثين، تنظيم أماكن النّوم، جلسات الحوار، العروض الموسيقيّة، آليّات الدّفاع عن أنفسهم، الخ) في غياب الدّولة/السّلطة(46). لماذا يُسمّيها باديو "شيوعيّة"؟ لأنّ الشّيوعيّة تتحقّق في هذه المساحات بشكلٍ شبه كامل: من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته، بينما تختفي التّجارة والنّقد، وتنتهي المنافسة والفردانيّة لصالح التّعاون الجماعيّ الكامل، وتنتهي تعبيرات التّفاوت الطّبقيّ إذ يُقيم الجميع في الخيم والشّوارع والسّاحات، ويمارس كلّ شخصٍ معتقداته الشّخصيّة في حماية الآخرين (فيغنّي من يريد أن يغنّي، ويصلّي من يريد أن يصلّي، ويناقش من يريد أن يناقش، ويحمي غير المسلمين وغير المؤمنين ظهور المُصلّين في سجودهم)، ويُمارس المعتصمون سيادةً جماعيّة كاملةً على المَساحة المُحرّرة من دون وجودٍ لسلطةٍ أو دولةٍ.
في هذه اللّحظة، يبدو لي التّحضير والتّفكير المُسبقين (من خلال الحَرَكِيّة المُناوِشة) أساسيًّا وحاسمًا لمنع إجهاض الشّيوعيّة الحَرَكِيّة الأكثر قوّة وجذريّة على سُلّم التَحرّر، دون أن نُغفل أنّ اللّحظة الانتفاضيّة، أو اللّحظة الثّوريّة، كلتيهما تُشكّلان فتقًا مع الوضع القائم، وبالتّالي حالةً جديدةً لها ديناميكيّاتها الجديدة التي تحتاج إلى إبداعٍ في التّعامل، لكنّ هذه الجدّة ليست مُؤسّسة على فراغٍ سابق، والانتقال من حالة الفتق إلى حالة التّحرّر يتطلّب فهمًا ذا شُعبٍ ثلاث: فهمٌ للسُّلطة، وامتداداتها، وموقعها في شبكة التّبعيّة، وأدواتها في السّيطرة والتّوظيف والاحتواء، وأهميّتها لـ"رُعاتها"، وكيفيّة تحطيم هذه الأهميّة؛ وفهمٌ أوليّ لتداعيات الفتق، وكيفيّة التّعامل معها، وبناء هياكل لأشكالٍ سياسيّة ومجتمعيّة تُحوّل التّغيير إلى واقعةٍ لا يمكن التّراجع عنها، مرتبطةٍ عضويًّا بالجُمُوع؛ وفهمٌ لمحدوديّة الفهم، إذ إنّ اليوميّ في حالة الثّورة يفرض إيقاعًا يستدعي الإبداع والتّخليق الفكريّين والعمليّين، وفي هذا يقول باديو: "الإدراك يكون جزئيًّا دائمًا، جزئيًّا لأنّ الأساسيّ هو الحركة. تبعات الفتق تعمل بحريّة: إنها مبدعة، فعّالة، وثمّة علاقةٌ مُعقّدةٌ دومًا [بين الحركة والإدراك]"(47).
هذا التّأكيد على جدّة وإبداعيّة اللّحظة التّغييريّة، وضرورة الإبداع في التّعامل معها، يبرز في كُمْيونَة باريس أيضًا، فها هو آرثر آرنولد Arthur Arnould أحدُ الكُمْيُونِيّين يقول: "كانت كُمْيُونَةُ باريس شيئًا أكثر من، ومختلفًا عن، انتفاضة. كانت استحداثًا لمبدأ، وإقرارًا لمنظومة سياسيّة، باختصار، لم تكن مجرّد ثورةٍ أخرى، بل كانت ثورةً جديدة، تحمل في طيّاتِ رايتها برنامجًا جديدًا ومُبتكرًا بالكامل"(48). وسيُسعفنا باديو أكثر حين يتحدّث عن الحدث الثّوريّ باعتباره "خَلْقًا مُفاجئًا لا لواقعٍ جديد، بل لعددٍ لا يُحصى من الاحتمالات، ولا أيّ واحدٍ منها تكرارٌ لما هو معروفٌ سلفًا"(49). كلّ هذا: الإبداع، الجدّة، الفتق المُفاجئ، والاحتمالات النّاتجة التي لا تُحصى، تأخذنا مباشرة إلى العنصر التّقويضيّ الفعّال التّالي الذي يقف على مفترق مجموعةٍ من التّناقضات: التّنظيم.
في التّنظيم التّقويضيّ الفعّال: تحويل النّقص إلى معرفةٍ مُمَارسة
مشكلة كثيرٍ من الأحزاب التّغييريّة أنّها تبنّت نموذج الحزب اللّينينيّ بعد ثورة أكتوبر، وهو نموذجٌ أثبت نجاحًا نسبيًّا في ظرفٍ زمنيٍّ-تاريخيٍّ محدّد، لكنّها تبنّته باعتباره "تنظيمًا معياريًّا" صالحًا لكلّ زمانٍ ومكانٍ، دون أن تُحقّق –رغم ذلك- شكل الحزب اللّينينيّ وفرضيّاته من أساسها. تُلخّص جودي دين مفهوم جورج لوكاش لحزب لينين: إنّه حزبٌ "يَفترض سلفًا حقيقيّة الثّورة. إنّه تنظيمٌ سياسيّ يقوم على فرضيّة أنّ الثّورة واقعة؛ على حقيقة أنّ المجال السّياسيّ مفتوحّ ومتغيّر، وأنّ الثّورات تحدث"(50). تُتابع دين: "ولأنّ الأوضاع الثّوريّة تتميّز بالاضطراب العنيف وعدم قابليّة التّنبُّؤ بها، لا توجد قوانين تاريخيّةٌ حديديّةٌ توفّر خريطةً أو دليلَ استخدامٍ يُمْكِن للثّوريّين أن يتّبعوه وصولًا إلى النّصر المؤزّر.
إنّ حقيقيّة الثّورة تعني أنّ القرارات، والأفعال، والأحكام، لا يُمكن أن تُؤجّل إلى الأبد، [و]عندما نأخذها، نكون مكشوفين بالكامل أمام انعدام التّغطية التّاريخيّة، أمام فوضى اللّحظة الثّوريّة (...) بالنّسبة للحزب اللّينينيّ، أن ننتظر، أن نؤجّل إلى حين أن نكون متأكّدين، إلى حين أن نعرف، هو أن نفشل الآن"(51).
إذًا، ما ساد في تاريخ الأحزاب اليساريّة العربيّة عُمومًا، هو ليس نموذجَ الحزبِ اللّينينيّ، بل شكلٌ من أشكال الحزب القائد على صعيد الكلام وادّعاء المنزلة، لا على صعيد الفعل التّغييريّ والاشتباكيّ؛ حزبٌ يضع نفسه مُمثِّلًا عن الفكرة التّغييريّة والجُمُوع، فتغيب الفكرة والجُمُوع ليُصبح حاملها هو الأوّليّ-الأساسيّ-الأهمّ-الأصيل، وتتتابع سلسلة التّمثيل والغياب هذه، من الحزب، إلى المكتب السّياسيّ، إلى الزّعيم-الأمين العامّ، ليحلّ هذا الشّخص الأخير مكان الأربعة (الفكرة، والجموع، والحزب، والمكتب السّياسيّ)، فيتشكّل حزبٌ حُلُوليّ معكوس، ينعكس فيه الحلول الإلهيّ في العالم-الموضوع-التّاريخ، ليحلّ العالم-الموضوع-التّاريخ في شخصٍ-إله.
نتيجةً لكلّ ذلك، تتحوّل الدّيناميكيّة التّغييريّة الكليّة المُفترضة إلى جمودٍ بيروقراطيٍّ لحفظ التّراتب، ويتحوّل الإبداع في اشتقاق الحلول الفكريّة اليوميّة لزمنٍ يتغيّر، والنّقد المُستمرّ لأدواتٍ تتغيّر، إلى دوغما الحقيقة المُطلقة التي ينطق بها الأمين العامّ-المكتب السّياسيّ-بيانات الحزب الذين يتحدّثون بالنّيابة عن الجموع والفكرة، وهي تراتبيّةٌ موروثةٌ عن تراتبيّة أكبر، جاء على رأس هرمها الحزب الشّيوعيّ السّوفيتيّ (غير اللّينينيّ أيضًا، بالمناسبة) في حينه، قبل أن ينهار ذلك الإله العظيم تاركًا خلفه آلهةً صغيرةً ضائعة.
مثل هذا الوضعٌ يؤدّي إلى جمودٍ انتظاريّ، في حال بقي الحزب صغيرًا وهامشيًّا في المعارضة، إذ يظلّ الحزب ينتظر "الظّروف الموضوعيّة المُناسبة"، وتصير هذه الظّروف هي المهديّ الشّيوعيّ المُنتظر؛ أو يؤدّي إلى فعاليّة استبداديّة-انتحاريّة في حال تواطأت الصُّدف على صعوده إلى الحكم، على النّسق نفسه الذي بحثناه في القسم الأوّل من الفصل الثّاني.
الثّورة هي لحظة فتق، مُغادَرة، تقويض، وعلى التّنظيم السّياسيّ أن يكون مُساهمًا في التّأسيس لهذه اللّحظة، جاهزًا قدر المستطاع، بالتّفكير المُسبق، والتّفكير التّوليديّ-الإبداعيّ أثناء اللّحظة نفسها، وعارفًا لمهمّة أساسيّة تتعلّق بمسؤوليّته عن تعزيز استمراريّة اللّحظة الثّوريّة وديناميكيّاتها لتصبح "حركة" (movement) لا تفقد حركيّتها، ولا ينفصل ذاتها عن موضوعها.
يُعبّر آلان باديو عن مثل هذه الفكرة بشكل بالغ التّكثيف والبلاغة: "إن التّنظيم السّياسيّ (...) هو نظام (order) في خدمةِ الخُلوِّ من/نقيض/فُقدان النّظام (disorder)، هو الحماية المستمرّة للاستثناء؛ إنّه وساطةٌ بين العالم وبين تغيير العالم (...) [فـ]التّنظيم يتعامل مع السّؤال الذّاتيّ: ’كيف يمكن أن نكون مُخلصين [لموضوع] تغيير العالم، من داخل العالم نفسه؟‘"(52)
مشروع إجابة هذا السّؤال الصّعب والمركّب يأخذنا باتّجاه أنّ التّنظيم هو حالة دينامكيّة، في حركةٍ دائبةٍ بالمعنيين الفكريّ/النّظريّ والفِعليّ/العمليّ، وباتّجاه أنّ البرنامج، برنامج العمل، هو أيضًا حالة ديناميكيّة متحرّكة، أو حركيّة، تستند إلى "المُفكَّر فيه"، لكنّها تظلّ تُفكّر وتُبدِع وتَبْتَدِع وهي تسير-تفعل (كما رأينا في حالة كُمْيُونَة باريس). "تُسأل الحركة دومًا: ما هو برنامجكِ؟" يقول باديو، "لكن الحركة لا تعرف (...) إنّها تُخضع نتائج الفعل لقيمة النّشاط الذّهنيّ للفعل نفسه"(53)، أي أنّ البرنامج يُخلق في خضمّ الفعل، وبالاشتباك مع الواقع.
جئتُ بهذا الاقتباس لتوضيح المنظور وإجلائه فيما يتعلّق بوجوب انفتاح الحركة والتّفكير التّقويضيّين على الاحتمالات التي تفتحها اللّحظة الثّوريّة، لكنّي لا أتّفق مع باديو على أن الحركة "لا تُسأل"، في لحظة التّقويض، عن برنامجها، فالبرنامج يجب أن يكون موجودًا، مُشتقًّا من شُعَب الفهم الثّلاث التي تتيحها الحركيّة المُناوِشة السّابقة عليها، لكنّ البرنامج هذا يجب أن لا يكون مُقدّسًا أو جامدًا، بل العكس: مفتوحًا بدوره على الاحتمالات التي تولّدها اللّحظة الثّوريّة. كما أنّ الحركة تُسأل عن فهمها، وعن وعيها، وعن قراءتها للواقع الآنيّ، وعن قراءاتها للتّجارب السّابقة، وعن قيمها الكبرى، وعن فعّاليّتها إذ تحوِّل لحظة التّقويض إلى تقويضٍ فعّال، خصوصًا وأنّ التّنظيم، كما تقول جودي دين، "يقع في منطقة تداخلٍ لِنَقْصَيْن: انفتاح التّاريخ [على أفق الثّورة]، بالإضافة إلى عدم معرفة التّنظيم [بوقت وظروف وصيرورات الثّورة]"(54).
يقع التّنظيم في مركز كلّ هذا، مركز الحركة، فهو يشكّل –من جهة- الوعي التّاريخيّ لضرورة التّغيير، وإن كان هذا الوعي ناقصًا لعدم معرفته بتوقيت وظروف وصيرورات اللّحظة الثّوريّة، ويشكّل –من جهة ثانية- التّجاوز الديناميكيّ لهذا الوعي عبر النّشاط الذّهنيّ في الفعل نفسه حين يحدث، فينتهي النّقص –جزئيًّا- عبر الفعّاليّة العمليّة والفكريّة في الثّورة. هكذا ينكسر القيد الذي يربط الحركة مع الماضي المُفَكَّر فيه إذ يتحوّل إلى مادّةٍ تأسيسيّةٍ لفعلٍ إبداعي آنيٍّ وقادم، فيدور العالم بعد أن كان، طوال الفترة الماضية، يسير(55)، ويأخذ التّنظيم على نفسه مهمّة إبقاء هذا الدّوران قائمًا، ونخرج من النّتيجة غير المقنعة التي يصل إليها باديو إذ يُحمّل القيمة على الفعل ذاته، تاركًا النّتائج "على التّساهيل"(56).
ومن أجل ألا تسير الأمور على التّساهيل، ترى جودي دين أنّ صفتين عليهما أن تتوفّرا في التّنظيم الثّوريّ: الانضباط والجُهوزيّة، فهما "يمكّنان الحزب من التّجاوب مع الظّروف، بدلًا من أن تُقولبه وتحُدّده الظّروف بشكلٍ كامل"(57)، لنخلص إلى شكلٍ تنظيميٍّ مرنٍ، قادرٍ على الاستجابة للّحظة الثّوريّة، لكنه منضبط، يُحضّر نفسه فكريًّا ليشتبك مع اللّحظة بوعيٍ غير مكتملٍ، يكتملُ بالاشتباك نفسه.
تُغفل دين، كما يُغفل باديو، أنّ هذه المقاربات المهمّة يجب أن تتكامل مع عنصرٍ إضافيٍّ ذكرته سابقًا، وسأكرّره هنا ليندمج مع الخلاصة المكثّفة لشكل التّنظيم التّقويضيّ الفعّال: على التّنظيم أيضًا أن يعمل على إنضاج شروط اندلاع الثّورة. إنّ كان توقيت الثّورة ونتائجها وانفتاح التّاريخ عليها تضع التّنظيم في موقع النّقص وعدم المعرفة، إلا أن حقيقيّة اندلاع الثّورة، النّاتجة بالضّرورة عن أحد عناصر هذا النّقص (انفتاح التّاريخ على الاحتمالات)، تعني أنّ على التّنظيم أن يعمل من أجل اندلاعها، وأن يدفع "أزمة النّفوذ" إلى مُنتهاها من خلال الحَرَكيّة المُناوِشَة، ولعلّ هذا الدّفع يُساهم أيضًا في نقل عدم المعرفة المذكور من موقعٍ "سلبيّ"، تلحيقيّ، إلى موقعٍ فاعل، سأسميّه: معرفةً مُمَارسة (knowledge in action)، يُلغي –نسبيًّا- خللَ المعرفة القائم لصالح السُّلطة بوجود مؤسّسات سيطرتها وبيروقراطيّتها وموظّفيها المُدرّبين وقدرتها على الاستجابة الأعلى للتّغيّرات، ويُسوّي –نسبيًّا أيضًا- ميدان المعرفة بين النّقص الموجود لدى التّنظيم، والأفضليّة الموجودة لدى السُّلطة، لتنفتح بذلك إمكانيّات التّغيير الكامنة.
في التّقويض الفعّال للهويّة: نحنُ دافعي الضّرائب
بحثنا في الفصل الأوّل، بتوسّع، مصيدة الهويّة، وانعزاليّتها، ودورها في تثبيت أركان الكيانات الوظيفيّة، وإخضاع التّحرّكات التّحرريّة، واحتواء وتوظيف أدوات وآفاق التّغيير. يرى آلان باديو أنّ الدّولة/السّلطة هي –ضمن أشياء أخرى- آلةٌ لإنتاج الهويّات ("الموضوع الهويّاتيّ")، ولإنتاج الفصل والتّفرقة على أساسها ("الأسماء التفريقيّة")، بينما الثوّرة، أو الحدث التّغييري، هي عمليّة تدميرٍ لها، تتطوّر لاحقًا لوجودٍ جديد، سياسيّ، أي يتعرّف سياسيًّا(58): "الانتفاضة التّاريخيّة تخلع الأسماء، وفي مرحلةٍ كامنةٍ من هذا الخلع، ستقوم المنظّمة السّياسيّة [التّنظيم] بتطوير تبعات وجودٍ جديد، وجودِ ما لم يكن موجودًا من قبل: وجودِ ما لا يُسمّى (the existence of the anonymous)، الوجود الشّعبيّ السّياسيّ المحض للنّاس"(59).
التّطبيق العمليّ لهذه الفكرة التّجريديّة التي تحدّث عنها باديو كان في كُمْيُونَة باريس، ففي اليوم الثاني بُعيد إعلان قيامها، "تم إدراج كلّ الأجانب فيها [باعتبارهم مواطنين كُمْيُونيّين]، لأنّ ’رايتنا [راية الكُمْيُونة] هي راية الجمهوريّة العالميّة‘"(60). أما تطبيقاتها العمليّة المُعاصرة فتُقدّمها جودي دين في كتابها الأفق الشّيوعيّ، إذ تستنطق أحد شعارات حركة احتلال وول ستريت: "نحن الـ99%"؛ شعارٌ يضع على طرفيّ نقيض الـ1% من أثرياء العالم(61)، وبقية الـ99% من سكّان الكوكب الذين يعملون ليل نهار من أجل أن يصبُّوا مزيدًا من الأموال والأرباح في حسابات تلك الأقليّة الضّئيلة، لتتعاظم الفجوة بينهم(62).
"بدلًا من تسمية هويّة،" تقول دين، "يُبرز الرّقم انقسامًا وفجوة"(63)، وهذا صحيح، لكنّ هذا الوجود الـ(99)ـيّ يظلّ –إلى حدٍّ بعيد-، تجريديًّا أيضًا، عاجزًا –نسبيًّا- عن إحداث تغييرٍ في توازن القوّة المفاهيميّة، وعن إنتاج تمظهراتٍ سياسيّة فعليّة على الأرض.
سأقترح مفهومًا تقويضيًّا آخر، أعتقد أنّ له تبعاتٍ سياسيّةً فعّالةً أكثر، خصوصًا في الكيانات الوظيفيّة، يُلغي أثر التّحكّم الهويّاتي الذي ترعاه السُّلطة، ويُنهي التّفريق والتّفتيت الذي ينتج عنه، وهو مفهوم "نحن دافعي الضّرائب" (وليس "نحن دافعو الضّرائب")، أي نحن (الجمعيّة، الكليّة، التّضامنيّة) بصفتنا دافعي ضرائب، مُمَوِّلين من جيوبنا، ومن أموالنا العامّة، الكيان الوظيفيّ ومجموعته الحاكمة وعمليّاتهما. ضمن هذا المفهوم لا تتطابق الـ"نحن" المنصوبة على الاختصاص، تطابقًا كُليًّا مع "دافعي الضّرائب"، بل تختصّ بوضعيّة مُحدّدة، حالة خاصّة لا تتطابق كليًّا معها، تفصل بينها وبين الـ"نحن" التي تظلّ مفتوحةً على الاحتمالات، احتمالات تصاعدٍ لا-هويّاتي أعلى يتمثّل في هذه النّحن المتفرّدة، المستقلّة عن علاقتها مع السّلطة، المرتبطة معها مؤقّتًا بعلاقةٍ مؤقّتة (علاقة دفع (انتزاع) الضّرائب)، وتنفصل عن هذا الاختصاص بعد تحقّقها التّحرّري، بعكس عبارة "نحن دافعو الضرائب" التي تفيد بأنّ الـ"نحن" و"دافعو الضّرائب" شيءٌ واحد، تبادليّ، مُبتدأٌ وخبر، يخبر الثّاني عن الأوّل في علاقةٍ خطيّةٍ لا تنفصل عُراها، فتقتصر الـ"نحن" هذه على، وتتحدّد في، علاقتها المؤقّتة مع السُّلطة.
"نحن دافعي الضّرائب" تؤكّد على الجماعيّة وتعزّزها، إذ لا أثر كبير لدافع الضّرائب الفرد الوحيد المنفرد، كما يُلغي هذا المفهوم الشّرط الهويّاتي من جذره؛ إذ لا تشمل هذه الـ"نحن" الكبيرة فقط كلّ المجموعات السّكانيّة من المواطنين، بل تشمل أيضًا العمّال المهاجرين، واللّاجئين، الذين يدفعون الضّرائب أيضًا، ويُستغلّون أكثر من غيرهم من الفئات، ويُعتبرون –في الوقت نفسه- "أغرابًا" أو "أغيارًا"، فيتفكّك بهذا الشّمول مفهوم "المواطنة" المرتبط –بالضّرورة- بـ"وطن" يرتبط بدوره بالمجموعة الحاكمة وكيانها الوظيفيّ.
ويقلب مفهوم "نحن دافعي الضّرائب" علاقة النّاس مع السّلطة ومع الكيان الوظيفيّ رأسًا على عقب؛ ففي حين تُقدّم السّلطة نفسها على أنّها "راعية الشّعب"، وأنّها "تتكرّم عليه" وتدعمه، يُصحّح المفهوم العلاقة، باعتبار أنّ السّلطة هي مُتلقيّة الدّعم، وهي التي تعتاش على أموال النّاس وتؤثّث أدوات قمعهم وتسلّطها عليهم بها؛ وبينما يقدّم رأس المجموعة الحاكمة نفسه بصفته أبًا للشعب، وأبًا للكيان (وهذا –موضوعيًّا- صحيح)، ويُسبغُ على المجموعة الحاكمة شرعيّةً تأسيسيّةً أو استداميّة، لأنّ الوجود الوظيفيّ لنطاق السّيطرة، وهويّة الشّعب المُشتقّة منه، هي دالّة على المجموعة الحاكمة، يندمجون بعضهم ببعض في كينونةٍ واحدةٍ يصعب التّفريق بين مكوّناتها (المجموعة الحاكمة = كيانها الوظيفيّ = هويّته والتّعارضات القائمة عليها = الشّعب الذي يتبنّى هذه الهويّة)، يعمل المفهوم الانقلابيّ "نحن دافعي الضّرائب" على إلغاء هذه الـ"يُساوي"، إذ يُثْبِت أنّ مكوّنات المعادلة هذه كلّها هي دالّةٌ على الأموال العامّة المُنتزعة من جيوب النّاس لاستدامة المجموعة الحاكمة ووظيفيّتها ونطاق سيطرتها، أي أنّ الشّرعيّة المفترضة هي في حقيقتها لا-شرعيّة انتزاعيّة، تسلّطيّة، وأنّ دافعي الضّرائب هم "الآباء" الحقيقيّون للمجموعة الحاكمة، من يدفعون مصروفها الذي يبدّدونه بلا مسؤوليّة (كالأطفال) على فسادهم.
إضافةً إلى هذا، يعمل المفهوم على إحداث فتقٍ بين من يدفع، أو من يُجبر على الدّفع، وبين من يتلقّى، أو ينتزع، ويَعْكس علاقة أدنى-أعلى مع السّلطة، ويحوّل النّاس من "أبناء الوطن" إلى آبائه، وهو إذ يفعل كلّ ذلك، يُحوّل واقعًا بسيطًا غير مُفكّرٍ فيه كثيرًا، قدرًا سياسيًّا مكتوبًا، إلى جريمةٍ مركّبة ارتكبت وترتكب بحقّ دافعي الضّرائب، الذين يدفعون دون أن يكون لهم حقّ صياغة كيفيّة إدارة مصيرهم واحتياجاتهم ووجودهم السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.
مفهوم "نحن دافعي الضّرائب" يعمل بفعاليّة تقويضيّة ضدّ الرّأسماليّة الماليّة المُعاصرة وأيديولوجيّتها الـ(نيو)ليبراليّة، ليس فقط من خلال تركيزها على الجماعيّة وقوّة المجموع (وضعف الفرد كما أسلفنا)، بل من خلال توضيح الفجوة الطّبقيّة بين الـ1% من الأثرياء، وبقية الـ99% التي تحدّثت عنها جودي دين، لأن الرّأسماليّة تنحو إلى تقليل العبء الضّريبيّ عن الشّركات، وعن الأثرياء، ودعم "الاستثمار" والمستثمرين، وتقديم "الشّروط التّشجيعيّة" لهم (أسعارٌ مدعومةٌ من جيب دافعي الضّرائب على الكهرباء والماء مثلًا، واستثناءات خاصّة من قوانين الحدّ الأدنى من الأجور على حساب العمّال المهاجرين غالبًا، الخ)، وإنقاذ الشّركات والبنوك من الأموال العامّة (أموال دافعي الضّرائب)، وبينما تتكرّش المجموعة الحاكمة ومن هم حولها من الفساد وابتلاع المال العامّ، يُترك النّاس العاديّون في الأزمات والأوضاع الصّعبة لمصيرهم المحتوم، فتتوضّح للعموم صورة السّلطة-المجموعة الحاكمة-الكيان الوظيفيّ باعتبارها زائدةً طُفيليّةً مُركّبةً على المجتمع، تمتصّ منه سبل بقائها، وسلطتها، وتسلّطها، هذه الصّورة التي –وبحسب كرستِن روسّ- استوعبها ماركس بعد تجربة الكُمْيُونة: "إنّ استقلال الدّولة الأساسيّ عن المجتمع المدنيّ، ونموّها كـ’زائدة طُفَيليّة‘ مُركّبة عليه، كان هو في ذاته الشّكل الذي تحكم بواسطته البرجوازيّة"(64). مفهوم "نحن دافعي الضّرائب" يُمكّن النّاس من استيعاب فكرة أن استئصال هذه الزّائدة ممكنٌ، وضروريّ.
قد يبرز اعتراضٌ مؤدّاه أنّ "نحن دافعي الضّرائب" تشمل في إطارها الشّكليّ الأثرياء أيضًا، فهم يدفعون الضّرائب، فلا يُنتِج المفهوم –بهذا المعنى- فصلًا واضحًا بين الجموع المُستغَلَّة (الـ99%) والأقليّة الضئيلة المُستغِلَّة (الـ1%)، وهذا اعتراضٌ وجيه، والردّ عليه أن الأقليّة الثريّة لا تُعرِّف نفسها باعتبارها "دافعة ضرائب"، بل إنّ هذه العبارة تشير عادةً إلى جموع النّاس ممّن يكدحون في حياتهم ليل نهار لتتقاسم السُّلطة معهم في نهاية المطاف أجورهم الهزيلة، وعلينا ألّا ننسى أنّ علاقة الأثرياء بالسُّلطة والدّولة هي ليست علاقة دافع ضرائب (علاقة انفصاليّة بين جهة تُحدّد كميّة الانتزاع من خلال وضع قوانينها الخاصة، وبين أطراف خارجيّين تنتزع منهم)، بل هي علاقة عضويّة-وظيفيّة يكون فيها الرّأسماليّ-الثّريّ جزءًا من، أو مؤثّرًا بدرجةٍ كبيرةٍ في، الطّبقة أو المجموعة الحاكمة، أي جزءًا من آليّات الانتزاع لا الدّفع، كما مرّ معنا في الفقرة السّابقة.
وفوق كلّ ما ذُكِر، ثمّة أفضليّةٌ أساسيّةٌ وكبيرةٌ أخرى لهذا المفهوم تجعل منه مفهومًا متفوّقًا على غيره من التّوصيفات (النّاس، الجُموع، الجماهير، المُضطهَدين، المُستغَلّين، الفقراء، المسحوقين، الـ 99%، الخ)، وهي أنه يأخذُ معنىً لاهويّاتيًّا واضحًا ومُحدَّدًا وقابلًا للتجسّد الماديّ بالمعنى السّياسيّ المباشر. لا يوجد مفهوم آخر سيستطيع –مثله- أن يُغادر المواقع التّجريديّة التّعميميّة ليأخذ مكانه كذاتٍ ماديّةٍ سياسيّةٍ فاعلة؛ إذ تُحوّل "نحن دافعي الضّرائب" الدّولةَ/الكيانَ الوظيفيّ –أتوماتيكيًّا- إلى زائدةٍ طُفيليّة انتزاعيّة برسم الاستئصال.
هذا الاستئصال، الذي يُلغي الفارق بين "الدّولة" والنّاس إذ يتحقّق هؤلاء في شكلهم السّياسيّ الجماعيّ الـ(نحن)ــويّ العضويّ المجتمعيّ، بلا حاجةٍ لإطارٍ خارجيٍّ إكراهيٍّ (كالدّولة)، كان هو الوسيط الفعليّ لآليّات عمل الصّراع الطّبقيّ في كُميونَة باريس(65)، الأمر الذي يؤدّي إلى انعكاس علاقات الهيمنة التي وصفها جرامشي: بدلًا من أن يتّخذ المجتمع السّياسيّ من المجتمع المدنيّ قلاعًا وحصونًا داخليّة تحميه وتعزّز هيمنته، ينقضّ الثّاني على الأوّل ويُصفّي وجوده الطُفيليّ الزائد.
لكن، هل هذا الاستئصال ممكن التّخيّل، قابلٌ للتحقّق؟
في حوارٍ ثنائيّ ثريٍّ وعميقٍ ومُمتع(66)، يَسأل بيتر إنغلمان: "ولكن، هل من الممكن أن نتخيّل مجتمعًا من دون دولة؟" فيجيب آلان باديو: "لا ضرورةَ لأن تتخيّل شيئًا، المهمّ هو أن تُقاتل".
الممارسة هي التي تعيد تشكيل النظريّة؛ تؤثّر في المشاهدات؛ تغيّر التاريخ؛ وتعيد تشكيل العالم.
= = =
الهوامش
(32) Antonio Gramsci, The Modern Prince and Other Writing, translated by Luis Marks, International Publishers, 2016 (1957), p. 142.
(33) المرجع السابق نفسه، ص 23.
(34) المرجع نفسه.
(35) للاطلاع على هذه التجربة، يمكن الرّجوع إلى الصفحة الرسميّة للحملة الوطنيّة الأردنيّة لإسقاط اتفاقيّة الغاز مع الكيان الصهيوني (غاز العدو احتلال) وهي:
https://web.facebook.com/NoGasJo
(36) عن كامل مجريات ووقائع ووثائق المحاكمة الشعبية للحكومة الأردنية حول اتفاقية الغاز مع "إسرائيل"، انظروا الرابط:
https://gastribunaljo.wordpress.com
وأيضًا: محمد فضيلات، محكمة شعبية أردنية تبطل صفقة الغاز الإسرائيلي، العربي الجديد، 6 أيلول 2015،
وأيضًا: هذا المقطع عن المحاكمة الشعبيّة الذي بثته وكالة البوصلة الإخبارية:
https://www.youtube.com/watch?v=TUKF3-gpGHw
وأيضًا: ’’الوطنية لإسقاط اتفاقية الغاز’’ تسلّم قرار المحكمة الشعبية، السبيل، 4 تشرين الثاني 2015،
(تم الدخول إلى الروابط يوم 15 أيار 2020).
(37) أنظروا مثلًا: غاز العدو احتلال: مجلس النوّاب مُتواطئ في صفقة الغاز ، عمّان نت، 3 أيار 2018،
وأيضًا: شكوى من "غاز العدو احتلال" أمام مكافحة الفساد، عمّان نت، 17 أيلول 2017،
(تم الدخول إلى الرابطين يوم 15 أيار 2020).
(38) العبارات هي لأوغست بلانكي، مقتبسة في:
Kristin Ross, “Democracy for Sale”, in: Giorgio Agamben et al. Democracy in What State, Columbia University Press, 2012, p. 82.
(39) Wendy Brown, “We Are All Democrats Now …”, in: Giorgio Agamben et al. Democracy in What State , p. 47
(40) Alain Badiou, The Rebirth of History: Times of Riots and Uprisings, translated by Gregory Elliott, Verso, 2012, p. 12.
(41) Alain Badiou and Peter Engelmann, Philosophy and the Idea of Communism, translated by Suzan Spitzer, Polity, 2015, p. 53.
(42) Brown, “We Are All Democrats Now …”, in: Giorgio Agamben et al. Democracy in What State, p. 47
(43) الأردن: مطالبات بحل البرلمان، الوطن، 7 حزيران 2018،
https://www.al-watan.com/news-details/id/140866
وأيضًا: مظاهرات لبنان: محتجون يحاولون منع النواب من بلوغ مقر البرلمان للتصويت على الحكومة الجديدة، بي بي سي عربي، 11 شباط 2020،
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-51458847
(تم الدخول إلى الرابطين يوم 15 أيار 2020).
(44) Jacques Rancière, “Democracies Against Democracy”, in: Giorgio Agamben et al. Democracy in What State, p. 78.
(45) Badiou, The Rebirth of History, p. 110.
(46) المرجع نفسه أعلاه، ص ص 110–112.
(47) Badiou and Engelmann, Philosophy and the Idea of Communism, p. 38.
(48) Ross, Communal Luxury, p. 21.
(49) Badiou, The Rebirth of History, p. 110.
(50) Dean, The Communist Horizon, p. 240.
(51) المرجع نفسه أعلاه، ص 241 .
(52) Badiou, The Rebirth of History, pp. 66–67.
(53) Badiou, The Rebirth of History, p. 99.
(54) Dean, The Communist Horizon, p. 242.
(55) "الدنيا تسير! فلماذا لا تدور؟" في: آرثر رامبو، فصل في الجحيم، ترجمة: رمسيس يونان، دار التنوير، 1983، ص 21.
(56) يقول باديو: "أمّا بالنّسبة للنتائج، فلنَرَ،" في: Badiou, The Rebirth of History, p. 99.
(57) Dean, The Communist Horizon, p. 241.
(58) Badiou, The Rebirth of History, pp. 92–93.
(59) Badiou, The Rebirth of History, p. 93.
(60) Ross, Communal Luxury, p. 21.
(61) انظروا مثلًا:
World’s billionaires have more wealth than 4.6 billion people, Oxfam International, January 20, 2020,
https://www.oxfam.org/en/press-releases/worlds-billionaires-have-more-wealth-46-billion-people
(تم الدّخول إلى الرابط يوم 15 أيار 2020).
(62) انظروا مثلًا:
Larry Elliott, World’s 26 richest people own as much as poorest 50%, says Oxfam, The Guardian, 21 January 2019,
(تم الدّخول إلى الرابط يوم 15 أيار 2020) .
(63) Dean, The Communist Horizon, p. 200.
(64) Ross, Communal Luxury , p. 79.
(65) المرجع نفسه أعلاه، الصفحة نفسها.
(66) Badiou and Engelmann, Philosophy and the Idea of Communism, p. 49.
= = =
للاطلاع على الجزء الأول من الورقة، استخدم:ي الرابط التالي:
https://www.oudnad.net/spip.php?article3624
= = =
https://www.lse.ac.uk/middle-east-centre/events/2022/Gramsci-MENA-Conference
- غرامشي
◄ هشام البستاني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ فكر وسياسة
- ◄ فكر وسياسة: مقالات
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أنتَ في الهناك، وأنا كذلك
- ● التباس الديمقراطية والثورة وأصابع الحبر الداكن
- ● الكتلة التاريخية: من سقوط النخب إلى صحوة الشباب