عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هبة الأغا - فلسطين

كتابة بلا أصابع


هبة الأغامساء الخير بتوقيت فلسطين/غزة.

انتهت الحرب، مرةً أخرى. هذه المرة، ابتلعت أصابع أيدينا الخمسة، وبعضَ خاصرتنا، ونقرت من رؤوسنا لحماً موجعاً، والتهمت خمسة عشر قلباً وأربعة أرحام.

الحرب لا تشبع، ذات فم كبير، ويد طويلة.

هذه الحرب لا تنام، لقد لعبتْ على مراجيح الأطفال حين كانوا يختبئون بالداخل، وقفزَتْ في الحقول حين كانت العصافير خائفة، وأكلت البوظة على شاطئ البحر احتفالاً، حين اختفت ملابس خليل من حبل الغسيل المسجى أمام المنزل، وطارت أقدام رهف إلى غيمة كبيرة زرقاء.

جاءت وتربعت الحرب في الصالة، ونامت على أسرّتنا المفضلة، وأكلت من طعامنا، وشربت عصير الشمّام البارد. لقد زارتنا عنوةً، وأكلت ما تبقى من صبرنا وتيننا وعنبنا، زارتنا ومعها سلة ذكريات كبيرة، دفعنا ثمنها في المرات السابقة.

في الحرب، يكون الاختفاء في البيت أشبه بالاختفاء خلف ورقة من الكرتون، فقد كانت سقاية زهرة البيتونيا الرابضة على البلكونة، أشبه بمهمة انتحارية، وكنت أرى ارتعاشها خوفًا، فيبدو وجهها أصغر بكثير، حين تختبئ في ظلها القرمزي.

هذه الحرب لا تعرف الشعر، ولا الموسيقى، لذا عرفتُ أنها لن تقتلني إذا سمعت موسيقى عمر خيرت، أو قرأت شيئاً لأمل دنقل. وهي أيضًا ولا تؤمن بسور القرآن، فكنت أكيدها متمتمةً السور القصيرة طيلة الوقت.

أعرف أنها تكره الكريم كرامل والجلي، فكنت أصنعه لصغاري، ثم أخبؤه خلفي كي لا تراهم، وأنا أستغل زيادة وزني الأخيرة.

ذات مرة وجدتها تحضر فطورها من ثلاجتنا، وتشرب شاينا، وتنظر إليّ بازدراء، ثم سحبت مني الريموت، وفتحت على قناة الأخبار، وبدأت تزأر من الفرح. لهذا كنتُ أهرب منها، لكني أجدها تقف على شباك منزلنا، وهي تشير إليَّ بإصبعها، فأغلق الستائر وشاشة الأخبار، وأفتح فيلماً من أفلام ديزني، فأتذكر أن الأمريكان لا يهمهم أمرنا. وحين أحوّل بالريموت كنترول على فيلم بلهجة عربية، أسقط من فرط الحزن والخيبة، وأقول لصغاري: "افتحوا يوتيوب كوري أحسن".

كانت الأرقام أسهل شيء في الحرب، وكنا نمر في الوقت مثل مرورنا المتخيل على الصراط. نمر دونَ أن ندرك من سيصل أوّلاً، ومن سيدرك الآخر. تقول صغيرتي وهي تخبئ ساقيها: "لماذا تصر الحرب على أكل أقدام الصغار؟"

أقول لها: "الحربُ امرأة جائعة طيلة الوقت".

نمتُ كثيراً في الحرب، غسلتُ أطناناً من الثياب، قرأتُ فصلاً من رواية الفتاة التي لا تحب اسمها، ونظرتُ مطولاً في ألبومات الصور المهملة، ولم أجهز حقيبة الطوارئ، ولم أتابع الكثير من الأخبار. راسلت الجميع عبر واتساب، لكن الكلام كان صعباً وهشّاً. ولم أبكِ إلا حين انتهت الحرب، التي لم تنته.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2022     A هبة محمد الأغا     C 0 تعليقات