عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

هَيْلَمان


زكي شيرخانبعد قيلولته، استبدل الحاج خليل إبراهيم ملابسه، وصفف ما تبقى من شعره الذي فقد الكثير منه على مدى سنواته التي دنت من الثمانين. تعطّر. توجه نحو معقده الهزاز المقابل للشباك المطل على الحديقة. تبعته الخادمة بقدح الشاي.

= "مساء الخير يا حاج".

اكتفى بإيماءة من رأسه.

عادة صارتْ أقرب لطقس مُوجب الأداء، تتكرر عدا يوم عطلة نهاية الأسبوع. نظرة سريعة ألقاها على الصحف اليومية. توجه بصره نحو الزهور اليانعة في الحديقة، وهو يرتشف أول دفعة من الشاي. انشرح صدره.

دقائق مرت قبل أن تجلس سندس أمامه، وتبدأ بقراءة العناوين الرئيسية بصوت عالٍ، صحيفة بعد أخرى. انتظرتْ أن يطلب منها أن تبدأ بقراءة موضوع يختاره. لم يفعل.

سندس، لم تكن الأكبر من بين أحفاده وحفيداته الثمانية والعشرين، من أبنائه وبناته العشرة، ولكنها كانت الأقرب إليه. تقرأ له الصحف، والرسائل التي تصله، وتكتب له الردود. تناقشه في أمور كثيرة بجرأة، وتتخطى ما لا يجرأ عليه المحيطون به. تمتلك من الفطنة التي تعجبه. ذكية، ودودة، هادئة، ولكنها ورثت عناده، واعتدادها المفرط بنفسها. بعد عودتها من الجامعة ترجع للبيت لتقضي وقتها المخصص لدراستها، ثم قبل أن ينهض جدها من قيلولته التي لا تستغرق أكثر من ساعة، تنتقل لبيت جدها الملاصق، لتقرأ له الصحف، والرسائل، أو لتجاذب أطراف الحديث معه. غالبا ما تكون المواضيع عن ماضيه الذي يبتدئ من مرحلة محددة، وعن نجاحاته المتوالية في تجارته.

رن هاتفه. نهضت سندس تريد ترك المكان، احتراما لخصوصياته. أشار إليها بأن تجلس، فجلست. فتح مكبر صوت الهاتف. ابتدره المتصل:

= "مساء الخير يا حاج؟"

أقتصر رده بـ «نعم».

= غدا نهاية الشهر. توجيهاتك بشأن منح رواتب مخدوميك.

= "اخصم خمسة بالمائة من راتب معقب المعاملات لتأخره في إنجاز معاملة جمارك الصفقة الأخيرة. عشرة بالمئة زيادة للكاتب هدية لمولوده الجديد. لا تتأخر في المجيء للبيت لتوزيع رواتب السائق والبستاني والطباخ والخادمة. إن كان حارس المخزن ما زال يتعاطى أدويته اشترها له. بعد غدٍ أريد أن تكون حسابات هذا الشهر جاهزة، كالعادة. هل هناك شيء آخر؟"

= "لا".

= "حسنا".

ما أن أنهى المكالمة، حتى توجهت إليه بالسؤال:

= "كيف يصبح البعض أغنياء؟"

بمعرفته التامة بحفيدته، أدرك أن وراء سؤالها ما وراءه. لن تكتفي بالإجابة. ستجره لنقاش لتستنتج ما تريد معرفته، أو الوصول لحقائق لا يود أن يعرفها غيره.

= "الغنى أهم أوجه النجاح. والنجاح يحتاج لمواجهة الصعاب، والجرأة، والكفاح المستمر، ونسبة من الذكاء، والمثابرة، والحذر من الزلات والأخطاء. وحسابات مخاطر العمل. فأنا، على سبيل المثال، كنـ..."

= "اعذرني جدي على مقاطعتك. أليست السرقة، والنهب، والاختلاس، والرشوة سبل للغنى؟"

= "هذه كلها لم تكن، فيما مضى، لتحقق الغنى بمعناه الواسع. هي تُحسّن إلى حد ما من الوضع المعاشي ولكنها لا تكدّس الثروة لأنها محدودة. في أيامنا هذه المسألة اختلفت، فصارت الرشاوى، والاختلاس، ونهب المال العام، والعمولات من أسرع الطرق للثراء الفاحش".

أدارت وجهها باتجاه الحديقة. استعادت ما يدور برأسها منذ بَدأَ وعيها بالتشكل. ودت لو عرفت كيف كوّن جدها ثروته. تعرف جيدا أنها لو سألته سيتهرب. لن يجيب. لو كان قد ورث من أبيه، لكان أخواه قد ورثا مثله، وأصبحا غنيين. هما موظفان برواتب بالكاد تسد نفقاتهما. متى أصبح ممن يُعدُّ من كبار الأغنياء؟ جميع أبناءه درسوا في مدارس خاصة، باستثناء ابنه الأكبر وابنته الكبرى فهما أميان مثله تماما، وهذا يؤشر على أن ثروته بدأت بعد ولادتهما. ألا يشي هذا أنه لم يكن يتحمل حتى مصاريفهما في المدارس الرسمية المجانية لفقره؟

أدارت وجهها ثانية نحوه. وجدته يتفرس فيه.

= "ما الذي يُجهدكِ؟"

لم تجبه. جرأتها خانتها. صراحتها لم تسعفها. ليس بإمكانها تحمُّل عواقب سؤالها. استأذنته بالانصراف.

= "هل أستطيع مساعدتك في حل المشكلة التي تعانيها؟"

= "هو سؤال أبحث عن إجابته. أعجز عن البوح به".

= "دعيه للزمن فهو الكفيل بالإجابة".

* * *

جرّتها إحدى عماتها، التي لم تكن تكبرها إلا سنوات معدودة، من ذراعها إلى الصالة، بعد أن وجدتها تجلس مع ابنة الخادمة في المطبخ تتناولان بعض المعجنات متضاحكات.

= "كيف تجالسين هذه؟ إن لم تقدّري مقامك فعلى الأقل راعي وضعنا".

اشتاطت.

= "إن كنتِ عمتي، فهذا لا يبيح لك أن تتصرفي بهذا الشكل غير اللائق معي. ولن أقبل منك بأقل من الاعتذار مني وأمامها بالذات".

رفعت العمة يدها تريد صفعها. فسارعت بإمساك يدها، صارخة:

= "أقسمُ إن لمستني فستلقين من لدنّي ما لا يُعجبكِ".

تجمع من في البيت على أثر الصراخ متسائلين عما حدث. ثانية، وبصوت أعلى، صرخت:

= "إياكم أن تتدخلوا. المشكلة بيني وبين هذه العمة. هيا تقدمي أمامي إلى المطبخ وقدمي اعتذارك".

بُهت الجمع، مُنكرين ما يروه. هذه الهادئة، الوديعة، التي لا يكاد يُسمع صوتها وهي تتحدث.

= "بِمَ تتفاخرين على هذه الفتاة؟ بهيلمان أبيكَ؟ هذه الفتاة التي تستصغرينها كانت الأولى على مدرستها، وقبُلتْ في كلية الطب، وبالمناسبة ليست مدرسة خاصة. ما الذي يميزك عنها؟ ألكِ أذن إضافية، أم عين ثالثة، أم ستة أصابع؟ ترى ماذا لو لم يكن أبوك غنيا؟ لا تجالسيها، هذا شأنك، لكن لا تفرضي عليّ ما لا أستسيغه".

كانت ما تزال تمسك بيد عمتها بقوة، عندما دخل جدها فجأة. أفسح الجميع له الطريق. حدّق بوجه اِبنته الممتقع. حوّل نظره إلى وجه حفيدته وقد علته الصفرة. لاحظ يدها المرتجفة وهي تقبض على معصم العمة. طلب من الجميع أن يتركوا المكان ما عداهن، وأمرهن بالجلوس. بتحد فاجئه:

= "ليس قبل أن تعتذر عن تصرفها المهين وأمامها بالذات".

= "ألا يجب أن تخبراني ما المشكلة أولا؟"

نفضتْ يدها بقوة. اتجهتْ صَوْب الباب، وقبل أن تغادر.

= "اروي له ما جرى بالتفصيل، وحَذارِ الكذب حفظا لكرامتك التي خُدشتْ بجلوسي مع ابنة من خدمتكم من قبل مولدك، وما زالت".

تعدت عتبة الباب تاركة الحاج في دهشة مما يسمع، إذ لم يجرؤ أحد أن يتحدث بهذه الطريقة في حضرته من قبل.

* * *

في اليوم التالي، كالعادة، جاءت. التقطت واحدة من الصحف.

= "اتركي الصحف. ظننت أن ما حدث أمس هو الفراق".

= "لا علاقة لك فيما جرى".

= "الكل مصدوم من تصرفك. لم يكن أحد يتوقـ..."

قاطعته، دون أن تعتذر.

= "لا تقل لي كنتَ تتوقع أن أقبّل يدها على توجيه الإهانة لي. قولوا لي ماذا كنتم فاعلين لو كانت الإهانة موجّهة لكم. وأرجوك لا تذكّرني بأنها عمتي".

= "ردة فعلك كانت مبالغة".

= "ألستُ امتدادا لك؟ ألستَ من يردد بأني الأكثر شبها بك من بين الجميع بلا استثناء؟ إن كانوا يتعالون على الآخرين بما قد جئتهم به من الهَيْل والهَيْلَمان، فلا نتعالى على بعضنا البعض. من المؤسف أن يكون المال مقياس البعض منا للاحترام".

بدأ الانفعال واضحا عليها. صوتها ارتفع. يداها ترتعشان. قدماها تهتزان. أدرك أن غضبها سيزداد لو طلب منها إنهاء الحديث. خمّن أن في قلبها الكثير مما تود الإفصاح عنه.

= "لماذا تتعالون على الفقراء؟ ألم تكن أنت، يوما ما، فقيرا؟ منذ متى اغتنيتَ؟ ثلاثة، أربعة عقود؟ ولا أنكر اهتمامي بأن أعرف كيف؟ لو كنتَ أخبرتهم وكرّرتَ على مسامعهم كيف كنتَ فقيرا، وربما معدما، لكانوا أكثر تواضعا".

كان مأخوذا بما لم يكن يتوقعه. صحيح أن أولاده الذكور، تحديدا، تمردوا على تعاليمه، سواء أكان بخياراتهم الدراسية، أو رفض العمل معه، لكنّ أيّا منهم لم يُسمعه ما سَمعه الآن. أقصى ما سمعه من ابنه الأوسط عندما طلب منه أن يعمل معه:

«أنا وأنتَ لا نتفق لا بالمزاج، ولا بطريقة التفكير. لا أرضى لنفسي أن أكون مجرد تابع يُنفذ تعليماتك».

هذه الحفيدة تقف ندا له. تواجهه بجرأة. تذكّره بماضيه. في رأسها أسئلة تشكك بماله وكيف جمعه. هي ابنة زمن غير زمنه، ولا حتى زمن أبنائه. جيل متمرد.

نهضتْ.

= "إن كنتَ لا تريد أن أقرأ لك الصحف، فالأفضل أن أعود للبيت".

= "عمتك على استعداد للاعتذار منك".

= "أمام ابنة صبرية".

= "لا تكوني عنيدة، وتضخّمي المسألة، فهذه عمتك".

= "أرجوك يا جدّي، لا تعزف لي على وتر العلاقات العائلية، فأذني صماء تجاه ألحانه. أعرف أنها عمتي وهذا لا يعفيها من الاعتذار أمام من أهانتني أمامها. وأحبُ أن أؤكد لك، إن لم تفعل فسأردها لها مهما طال الزمن. انصحها أن تتجنبني خاصة عندما يكون هناك غيرنا. بالمناسبة عنادي هذا ورثته منك، ألستُ الأكثر شبها بك، كما تكررها دوما؟"

ما أن غادرت المكان، حتى بدأ يستعيد ليس ما جرى يوم أمس فقط بل مواقف، بالتأكيد، أقل حدة، لكنها كانت مؤشرات لنتائج كان يجب عليه أن يتحسب لها. ظن أن سلطته، التي بالغ في استخدامها، كافية ليسير كل شيء حسب رغبته دون التأمل فيما لو كان صوابا أم لا. «سندس أفصحت عما كانت تكبته، ترى متى يحين دور الآخرين؟»

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2022     A زكي شيرخان     C 3 تعليقات

3 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 27: الموارد الرقمية بين المكتبات والمواقع المفتوحة: مقارنة

إدواردو غاليانو وعابرية القصة القصيرة

الذكاء العاطفي والفضاء الإلكتروني

وتكون غريبا

ورق الغار