عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ناصر محمد خليل - مصر

دوائر


الليل بكل وحشية يلتهم أحلامنا ويبتلعها في جوفه ونحن كالبلهاء ننتظر النهار. ما جدوى أن تشرق الشمس فلا تجد ما تغازله سوى شواهد القبور.

ما بين الجبل الذي يرقد بداخله الصامتون والشارع الذي يئن من صرخات القتلى، وقفت على الجسر والجسد ينتفض والشمس علاها شحوب. عيناها حائرتان ما بين الجبل الصامت والشارع الصارخ الذي في نهايته تقع القرية حيث مسقط رأسها.

أغمضت عينيها، كأنها ترى لحظة ميلادها وسط صرخات الرافضين ونظرات الكارهين لها دون سبب.

صفعات تنهال على وجهها الغض مع أول خطأ لها من هذا الذي قيل لها إنه أبوها.

تأتي صرخة من سائق متهور يقود عربته بسرعة جنونية يسب عابرا للطريق فجأة.

التقطت حجرا فألقته في الماء. صنع دائرة صغيرة. غاصت أحلامها. كانت الدوائر تحاصرها وتخنق كل شيء بداخلها.

نظرت إلى الجبل ثم تساقطت بقايا دموع من العيون المجهدة.

كل الأعمال من نصيبي أنا، لا أختار أشيائي، فستايني، أوقات راحتي. قطعة خشب بالية أنا، فمن يكترث؟

أدور كترس في ساقية العائلة. محرم حتى البوح بما في داخلي. أحاول أن أخرج من الشرنقة التي صنعتها أمي لي وحبستني بداخلها إلى الأبد.

الشمس وحدها في نهاية الأفق تقاتل جيوش الظلام. استلت آخر سيوفها اللامعة، ولكن الأسود يحاصر كل شيء. يطغى شيئا فشيئا. اقتنعت الشمس أنها معركتها الأخيرة فآثرت الانسحاب واختفت خلف الجبل.

التقطت حجرا القته في الماء.

حين تسلل أشهر لص في العالم وسرق قلبها الغض وأحبت فتى من أهل القرية المجاورة، علموا بالأمر. كانت عاصفة متسلسلة. كرة ثلج تتدحرج من أبيها لأمها فتنتهي عند أخيها. العيون تطفح بالقسوة. الألفاظ تخرق أذنيها فتصيب النفس بجراحات لا اندمال لها. وجهها الغض وجسدها الطري لم يسلما من الصفعات والركل.

ضاع الطريق. لقد عبر من هنا. اقتلع جميع اللافتات ونزع العيون من الأحذية فتاهت الأقدام في الليل الملعون. تلاشى كل شيء. لم تعد تسمع شيئا سوى الصوت الذي يتردد صداه في أعماق نفسها.

الذكريات الأليمة تهرول فوق صفحة الماء. لا تتذكر يوما واحدا جميلا، ولا حتى ذكرى واحدة جميلة.

فجأة تتراقص صورته على صفحة الماء فتهرب كل الذكريات الأليمة. تنجح الابتسامة في الوصول إلى شفتيها، ويشع النور من عينيها، ويبدأ صدرها في الهبوط والصعود في إيقاع متسارع. تمد يديها إليه، ثم ترجعهما خائبتين.

وقفتْ على حافة الحاجز المعدني. القت نظرة على الشارع الصاخب، فعلا وجهها الحزن، ثم استدارت ببصرها نحو الجبل الصامت فابتسمت.

كان جسدها يتمايل في الهواء كورقة صغيرة في مهب الريح، وحين سقط واختفى خلف الصفحات الزرقاء صنع دائرة، ولكن الدائرة هذه المرة كانت أكبر.

D 25 آذار (مارس) 2012     A ناصر خليل     C 6 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • لا أدري ولكن اشعر ان من وراء كلامك مغزى اكبر من مجرد قصة فتاة. عاى العموم امتعتنا بكلا الحالتين.


  • الآستاذ *ناصر
    دوائرك شكلت فى ذهنى عدة دوائر استفهامية
    هل الخطاء يقع على الأم التى ماعلمت ابنتها من تحب وكيف ومتى ؟
    ام على الأب الذى حرمها من التعليم واحاطتها بسياجه النورانى ؟
    ام على الأخ الذى استحل على نفسه ما حرمه عليها بلا دوائر ؟
    ام على المعشوق الذى ربما استغل كل هذة الدوائر ولم بابه بها ؟
    لكن الذى استحق ان يعاقب نفسه على تفكك هذة الدوائر هى !
    حتى متى ونحن نتفرجعلى هذة الفقعات فى قاع الزمن !
    حقيقة ان ليس للأدب وطن ولازمن وتتلاشى كل الآشياء عند تفهمنا الى مغزى الجنس القصصى , وهو مبجمعنا
    اشكرك على هذا العمل الرّائع والى اللقاء *
    سعد المصراتى /*كانب وقاص ليبى **


  • مرحبا استمتعت جدا باستخدامك للمفردات والجمل بتناغم نثري رائع واستوقفتني المقدمة فكم منا ينتظر ببلاهة بزوغ شمس لاترينا الاّ ماقد يكون أسوء من شواهد القبور؟أما عن المحتوى فلا أدري في عصر الانفتاح والتقنيات هل مازال هناك من يتعامل مع من حادت عن جادة السراط المستقيم كما قال يوما الممثل الكبير يوسف وهبي: شرف البنت زي عود الكبريت ... الخ... طبعا أنا مع معنى الجملة وقد أكون دقّة قديمة كما يقال لكنّي تحدّث اجمالا ,وربما كما عقّب الأخ التميمي هناك مغزى ومعاني تتوارى حتى خلف مابين السطور؟


  • نهاية القصة تذكرني بنهاية فلم ابيض و اسود، لا يحضرني عنوانه، بطولة عمر الشريف وسناء جميل. في قضية شرف، يسوق الاخ اخته الى الجسر، ويامرها برمي نفسها. تنظر الى صفحة الماء فترتعب، وتنظر الى اخيها تتوسل منه الرحمة فينتابها منه رعب اكثر قسوة، فتحزم امرها وترمي بنفسها في النهر. بعد لحظات، يقع الاخ تحت وطأة عذاب الضمير فيرمي بنفسه خلفها. وفي كلا المشهدين هناك دوائر تولد على صفحة الماء، تكبر وتكبر لتفسح المجال لميلاد دوائر اخرى، تكبر بدورها وتتلاشى كما الاحزان.
    استمتعنا بنصك، والى مزيد من التالق والابداع- من الجزائر


  • الماء بسمكه الذي سيلتهم جسدها احن عليها من آدميتهم


في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 70: الإعجاب الإجباري

ابنُ الخَطــيب الأندلسي وإحاطــته

الارتحال عبر ذاكرة الاعتقال...

الشخصية في صيادون في شارع ضيق