عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » أرشيف الأعداد الفصلية: 2016- » أعداد السنة 17 » عود الند: العدد الفصلي 28 : ربيع 2023 » لماذا يكتب الكتّاب تنوين النصب فوق الحرف لا على ألف التنوين؟

فراس حج محمد - فلسطين

لماذا يكتب الكتّاب تنوين النصب فوق الحرف لا على ألف التنوين؟


فراس حج محمدأعتقد أنّ الأصل الذي يسير عليه الكتّاب في هذه المسألة لا يعرفونه، إنّما اتّحد المشارقة والمغاربة والمصريّون والشاميّون في فعل واحد يجلب لي "العلّة" كلّما رأيت ذلك وقرأته. أتصدّقون أنّني كلّما قرأت مقالاً فيه تنوين النصب على الحرف السابق للألف، ألوم هذه الألف المسكينة التي أفقدوها قيمتها، وأنعى على الكتّاب سوء صنيعهم، وما فعلته أيديهم.

تنوين النصب في القرآن الكريم كُتب على الحرف الذي تنتهي به الكلمة، مع وجود الألف، كقوله تعالى: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا"، (سورة يونس، آية 90)، ولا أظنّ أنّ الكتّاب، وهم، في مجملهم ربما، لا يقرؤون القرآن الكريم ولا يعظّمونه، ولا يعرفون هذه الحقيقة- يقلّدون القرآن الكريم فيما يرسم، إنما يفعلون ذلك بحثاً عن تأكيد المخالفة.

الآن، انتهت المخالفة، فالكلّ اتّفق إلّا إيّاي وقليل ممّن معيَ من المَدْرَسِيّين الأوائل، فنصرّ وحدنا على أن نكتب تنوين النصب على الألف التي أوجدها الإملاء لحمل التنوين مع كلّ اسم منوّن تنوينَ نصبٍ إذا لم يكن آخره تاءً مربوطة أو همزة مسبوقة بألف. إنّنا ونحن نصرّ على طريقتنا المنطقيّة حتّى لا نشوّش الطلّاب الذين نعلّمهم القاعدة المقرّرة في الكتب المدرسيّة، يأتي هؤلاء الكتّاب فيعصفون بنا وبما نعلّم. إنّهم يدفعون الطلّاب إلى التخبّط في الوقت الذي لا نوفّر أيّة فرصة من أجل بناء منظومة تفكير متّصلة ومنطقيّة لدى هؤلاء المتعلّمين.

لا يعوّل على إملاء القرآن الكريم لنكتب به كلامنا العاديّ والإبداعيّ، لمن يحتجّ بالقرآن إملائيّاً، إذ إنّ للقرآن ورسم كلماته طريقةً خاصّةً به؛ ما زالت تسمّى "رسماً قرآنيّاً"، لا يخضع للقاعدة التي تعلّمناها ونعلّمها للجيل الجديد. على ذلك، يجب أن نغيّر إملاءنا كلّه، لو أردنا أن نكون "قرآنيّين" إملائيّاً، ومعاذ الله أن نفعل مثل هذا. ربما لم ينتبه القوم إلى أنّ المعوّل على القرآن الكريم ليس رسمه الإملائيّ، وإنّما قراءته. لذلك، فإنّ اسمه الأوّل العلم الخاصّ به هو "القرآن" مشتقّ من القراءة، وكلّ أحكام تجويده وتلاوته هي قرائيّة الطابع والتكوين والتحقّق إلى درجة أنّ الكتابة لا تستطيع التعبير عن حقيقتها دون القراءة، كالروم والإشمام والإمالة والإدغام بغنّة وبغير غنّة. الكتابة في القرآن الكريم ليست أساساً كما هي القراءة؛ فالمتعبّد به هو قراءته وليس كتابته. هل فطن القوم لذلك؟ لا أظنّ أنّهم سيمنحون هذه الفكرة مجالاً للتفكير؛ ليراجعوا أنفسهم، ويتدبّروا ذلك ويتأمّلوه على وجه من الصحّة والمنطق العقليّ البحت. لقد تعلقت -في الحقيقة- أحكامٌ فقهيّة كثيرة بقراءة القرآن الكريم لا بكتابته.

أعود إلى ألف تنوين النصب، هذا هو اسمها، وهذه هي فائدتها؛ حمْل تنوين النصب تحديداً، لأنّ هذا التنوين صوتيّاً عند الوقف في كلّ الحالات عدا الاسم المنتهي بتاء التأنيث أو ما يشبهها من تاء تأكيد المبالغة في آخر صيغة المبالغة كالتاء المربوطة في كلمة "علّامة". عدا هاتين الحالتين، فإنّ التنوين عند الوقف يلفظ كأنّه ألف (حرف مدّ)، فتقرأ هذه الآية مثلا: "إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا" (سورة الإنسان، آية 22)، عند الوقف على "جزاءً" تلفظ: جزاءا، كما هي الحال مع "مشكوراً"، تقرأ عند الوقف "مشكورا". من أين أتى هذا المدّ؟ ولماذا نحقّقه في القراءة؟ ولماذا يُحذف المدّ مع "وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا" (سورة الإنسان، آية 14). إنّه لمن المتعذّر أن يتحقّق التنوين ألفاً عند الوقف بعد التاء المربوطة وهي ساكنة، كما تحقّقت في "جزاءا، ومشكورا". لقد غدت هذه الألف المرسومة من أجل حمل تنوين النصب محقّقة لبيان التنوين الذي يصرّ على حضوره في الوقف، مخالفاً بذلك تنوين الضمّ وتنوين الكسر اللذين يموتان عند الوقف تماماً.

تختفي الحركات جميعها عند الوقف، وتصبح أواخر الكلمات ساكنة إلّا مع الكلمات التي فيها ألف تنوين النصب وما تنتهي بالهمزة المسبوقة بالألف، وغالب الظنّ أنّ حذف الألف خطّاً لا لفظاً مع الأسماء المنتهية بهمزة مسبوقة بألف من مثل (جزاء، سماء، ....)، ربّما هو اجتهاد لم يعد له ما يبرّره، أو خطأ دارج شائع، لم يسائل أحد صحّته. فما الفرق بين "جزءاً، وجزاءً"؟ هل كرهت الذائقة البصريّة العربيّة وقوع الهمزة بين ألفين؟ "جزاءاً" ما بها؟ ما الذي يجعلها نافرة؟ إنّهما عندي في الاعتبار-جماليّاً- واحد، ولذلك لماذا لا نفكّر بتوحيد القاعدة ونحقّق بالرسم كتابة ألف تنوين النصب في قولنا: كان هذا جزاءاً عادلاً، كما نقول: "كان هذا جزءاً واضحاً من المسألة"؟

لماذا شرع أجدادنا هذه الازدواجيّة التي تكسر انتظام القاعدة، بين الخطّي واللفظي، لتكون هذه الألف محذوفة خطّاً لا لفظاً؟ ربما ذهبتُ في هذا إلى ما هو أبعد؛ فلماذا نحذف الألف في مجموعة من الكلمات مثل: هذا، لكن، إسحق، الرحمن،..." ولم نحذف الألف والياء والنون من "ياسين"، ونحذف الألفين من "طه"، وهما علَمان يتسمّى بهما الناس كثيراً، ونُقِل كلاهما عن القرآن الكريم؟ أيّ منطق يجمع هذه الكلمة مع تلك؟ علينا أن نعيد هذه الحروف إلى إملائنا، لأنّ بعودتها إلى الإملاء فيه الكثير من تحقيق انتظام القواعد، وإزالة التباسها، وتأكيد منطقيّة اللغة العربيّة، ليخفَّ الاعتماد على حفظ الشواذ، ولنلغيَ مقولات لا طعم لها وليس لها حجّة علميّة: "الشاذّ يؤكّد القاعدة، ولكلّ قاعدة شواذّ، والشاذّ يُحفظ ولا يُقاس عليه".

لماذا لا نقول عن هذه الشواذّ إنّها أخطاء وقع فيها بشر مثلنا، ونتعامل معها على هذا الاعتبار، لتنتهيَ كثير من مشكلات الكتابة العربيّة والنحو العربي والصرف العربي والعقل العربي برمّته أيضاً. إنّنا بحاجةٍ اليوم إلى ما يجعل لغتنا العربيّة علميّة منضبطة أكثر من أيّ وقت مضى، اتّساقاً مع التطوّر العالمي في الفكر اللغويّ، ومن يظنّ أنّ لغتنا ستخسر من ذلك شيئاً فإنّه لا يعرف اللغات ولا منطقها، ولا يعرف لغته العربيّة حقّ المعرفة، إنّما يقوده خوفه إلى التكلّس والتحجّر والبلادة، ومنطق الترديد الببغاويّ ليس أكثر، عدا أنّ المنطق الرياضيّ يحكم اللغة العربيّة في كثير من جوانبها، وكنتُ بيّنت ذلك في مقال طويل تحت عنوان "خلود اللغة العربيّة ومنطقيّتها". (الموقع الإلكتروني لصحيفة الحدث الفلسطيني، نشر بتاريخ: 29/12/2021).

لا شيء علينا لو غيّرنا بعض قواعد الإملاء، فقد تمّ تغيير بعضها بالفعل لصالح انتظام المنطق، كما هو مع كلمة "مئة"، فقد أقُرّت كتابتها على هذه الصورة مخالفة كتابتها القديمة "مائة"، منعاً من التباسها بسبب التصحيف مع كلمات أخرى، لها الهيأة الخطية نفسها قبل التنقيط، فلو كتبت "مئة" في زمن النسخ اليدوي وتآكل النسخ هكذا لالتبست مع كلمة "منه" على سبيل المثال. ولتعلّق كلمة "مئة" بحقوق العباد وللتشديد فيها، وحرصاً على عدم المنازعة في ذلك، فكانت هذه الصورة من الكتابة "مائة" لاغيةً لكل احتمال للمحاججة الباطلة والتشكيك إذا ما وقع تصحيف في نسخ العقود، فكتبت بالألف، فهي محذوفة لفظاً، وموجودة خطّاً، على العكس من كلمة "جزاءً" السابقة.

على الكتّاب ألّا يكونوا نعاماتٍ غبيّة جدّاً، في مثل هذه المواقف الواضحة، ويكفي استهتاراً بألف تنوين النصب، فهي الألف الشامخة، وعلينا أن نُكرم وجودها، وأن نشعرها بأهمّيّتها، فلا يحقّ لأحد أن يبطل فعلها ووجودها، لمجرّد أنّ لديه تصوّراً مغلوطاً. إنّ ألف تنوين النصب لا تفرحُ إلّا وهي تحمل ذلك التنوين الضعيف على رأسها لتزهو به في جملتها، وقفاً ووصلاً، فلا تحرموها هذه المتعة أيّها المفتونون بالفراغ والجهل.

D 1 آذار (مارس) 2023     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات