عبد الغفور مغوار - المغرب
أين المبيت؟
تركت المدينة صباحا على أمل أن أصل إلى القرية مساء. عندما أقلعت الحافلة، كان همي أن أصادف سائقا يقلني إلى الدوار والسائقون كلهم كانوا في القرية من ممتهني النقل السري. عرباتهم المتهالكة كانت لا تصلح إلا لطرقات غير معبدة. ولم يكن لي أو لأي أحد سواي ممن تضطرهم الظروف للتنقل من وإلى الدواوير البعيدة بد منها.
أبطأت الحافلة أولا بسبب عطل ميكانيكي مفاجئ. وأبطأت ثانيا من أجل انتظار مسافرين قد يأتون وقد لا يأتون. وكنت مع ذلك التأخر أفقد الأمل في أني سأصادف أحدا من أولئك السائقين الذين أغلبهم يروحون لمساكنهم قبل مغيب الشمس بقليل.
حقيقة أن ما بين الجنون والوعي شعرة رقيقة، ومحق صاحب هذه المعادلة الصعبة: "أحب السفر وأكره الرحيل". عندما توقفت الحافلة في تلك القرية نزلت مسرعا وكان مناي أن يكذب حدسي ولن أضطر للمبيت في هذه القرية الكئيبة نهارا، فكيف سيكون منظرها ليلا؟ لقد نسيت حقيبتي لما نزلت من الحافلة ولم أنتبه لذلك.
تجاهلت من كان يمشي خلفي ويناديني لكوني لم أكن أفهم ماذا كان يقول ولا حتى على من كان ينادي بلهجة أمازيغية لم أحفظ منها إلا بعض العبارات القليلة جدا. لم أتوقف إلا عندما جذبني بقوة ذاك الشخص وكان شيخا في السبعين من عمره. نهرني بفظاظة ريفية وهو يناولني حقيبتي، أخذ يعاتبني ربما، فلم أكن أفهم كلامه غير أن من خلال حركاته وهو يدير سبابته على صدغه تأكدت أنه كان يعيب عليّ طيشي.
تسلمت منه الحقيبة وقبلت رأسه شاكرا دون أن أتفوه بكلمة وكان كل همي أن أغادر القرية هاته. ربت على كتفي وسألني فلم أفهم سؤاله تماما ولكن إيحاءه وهو يقلب كفه جعلني أدرك أنه كان يسألني من أين أنا قادم أو إلى أين أنا ذاهب، فلم أعرف كيف أجيبه.
وجاء الفرج حينما أغاثني بكلمات دارجة عربية، تبسمت وأخبرته أني أستاذ وعلي أن أجد عربة تقلني إلى الدوار الذي أشتغل به. هز رأسه وكأنه كان يقول لي من المحال أن تجدها. شكرته وقصدت مقهى متواضعا عادة ما تتوقف الحافلات بالقرب منه. أما هو فقد أسرع الخطى متوجها إلى مسجد صغير على الحافة الأخرى من الطريق.
دخلت ذاك المقهى وأنا محبط ليس لشكله العشوائي المنفر، ولكن لأني كنت متوجسا من المبيت في مثل هذه الأماكن.
كانت ليلة صيفية مظلمة، ورتيبة لا حياة بها إذا استثنينا المذياع الذي كان يبث موسيقى محلية. نغمات كانت تستعجلني للنوم باكرا، لكني قاومت وسرحت بخيالي، وزارتني في تلك اللحظات ذكريات الطفولة القديمة وخرافات الجن والغول التي طالما سمعناها في صبانا. ترى ما الذي ذكرني بها آنذاك؟ ربما خوفي غير المبرر، ربما كوني شخصية اجتماعية ولم أجد هناك من جليس يفهمني. حتى النادل الذي يتحدث العربية بطلاقة الذي أكد لي أني قد فوت فرصة الركوب بمدة قصيرة جدا، وأنه صار من الضروري أن أبيت هناك، تركني وانصرف لشغله بعدما سألته عن إمكانية وجود مأوى أبيت فيه، وبإيجاز رد عليّ بإشارة من سبابته رفعها إلى الأعلى.
لم تكن لدي شهية للأكل أو للشرب، ورغم ذلك استحياء طلبت بعض ما أسد به رمقي. وبقيت في مكاني صامتا ككرسي من الكراسي المهترئة في ذاك المقهى الريفي، وكان يفتقر لمواصفات مقهى، فالجدران كانت رمادية اللون بسبب غبار السنين وسبب عدم تجديد صباغتها، والأرضية بدون بلاط. كانت لا تختلف تماما عن شكل أرضية الشارع.
الإنارة الضعيفة القادمة من مصباح غاز قديم، ووعثاء الرحلة، عجلا بحاجتي للنوم، فقررت النهوض. لكني شعرت بارتخاء طرفي السفليين وكأنني صرت مشلولا. تسارعت دقات قلبي وعلت حرارة جسمي. تناولت كوبا من الماء ومن طعمه الغريب جزمت أنه ماء بئر وليس ماء صنبور. تماسكت قليلا مستجمعا قواي ونهضت بسرعة. ثم تقدمت بعض الخطوات وسألت النادل عن دورة المياه فأشار لي أنها خارج المحل على يساره أقصى ساحة صغيرة.
عندما وصلت إلى باب دورة المياه وجدت شمعة داخل فنجان مكسور موضوع فوق صندوق خضر خشبي قديم وبجانب الفنجان المكسور ولاعة بلاستيكية. أوقدت الشمعة وحملتها وأنا أدخل الدورة متعوذا. لما عدت إلى منضدتي، وجدت أناسا جددا قد حلوا بالمقهى وقد تعالى حديثهم، وضحكاتهم قد طردت رتابة المكان، فاستأنست بوجودهم، وقررت السهر وسطهم ربما لأكثر من ساعة إلى حين توقفت حافلة مسافرين وأقلتهم جميعهم وأفرغت المقهى البئيس ليعاودني القلق من جديد.
لم تكن معي ساعة لمعرفة الوقت، وأجزم أن الساعة كانت قد تعدت الثانية عشر ليلا بما يقارب الساعة حينما كنت أشاور نفسي أأمكث أم أطلب من النادل أين يمكنني أن أستلقي هذه الليلة. جاء ليستسمحني أن أدفع ثمن ما تناولته، وسبقني بالسؤال إذا كنت أرغب في النوم، فناولته النقود وأنا أهز رأسي معلنا حاجتي للنوم.
استل مصباحا جيبيا وطلب مني أن أتبعه. سلكنا سلالم إسمنتية بدون بلاط ولم يتوقف إلا عند الدور الثاني حيث كانت متكوّمة هنا وهناك بعض الأكياس والصناديق منها الخشبي والكرتوني. فتح بابا لبيت صغير جدا يكاد يكون خما لضيقه ورائحته. ترددت لحظة في الدخول. لم يسألني رأيي بل اعتذر وهو يقول لي بأن هذا هو المتوفر لديهم.
تفهمت الوضع وتقدمت خطوة في حين سألني إن كنت بحاجة لشيء ما وأومأت نافيا. سحب الباب وأقفله وكدت أصرخ عندما سمعت قلقة القفل وهو يدير المفتاح فيه. قطعة شمعة ثبتت على فم قنينة زجاجية لمشروب الكوكا كانت هناك على قطعة جذع شجرة صغيرة قد أوقدها النادل بنفسه قبل أن يغادر.
ما المصير الذي كانت تخبئه أقدار تلك الليلة؟
كآبة المكان والصمت العميق جعلا من ليلتي تلك ليلة عسيرة قضيتها وكأني ميت بات بقبره، ناهيك عن سهادي الذي أج الموقف وزاده من الشقاء إلى حد أنه كان يخيل لي أني محبوس ليس بزنزانة معتقلين ولكن بمأوى مجانين. حواسي أجبرتها العزلة في هذا الوضع على التسليم بأني صرت جسدا بلا روح وأني من المستحيل أن أصبح حيا يرزق بكامل قواي العقلية والصحية.
تمددت على فراش إسفنجي رقيق بسط على حصير بلاستيكي قديم. صناديق أخرى كانت تؤثث الحجرة وأدوات فلاحية ركنت بزاوية منها، كم معول ومشط ومجرفة ومسحاة وفأس، وقد وضع فوقها قبعة دوم جبلية (ترازة). المخدة كانت صلبة خشنة ولما حاولت أن أغمض عيني بعد أن تلحفت بغطاء مغبر، لم تطاوعني جفناي وسمعت صوت إقفال أبواب المقهى في الأسفل.
انتبهت للشمعة. وجدتها في دمعاتها الأخيرة. نهضت لأطل عبر نافذة صغيرة فبدا لي المكان خاليا من الحركة. تعوذت واستلقيت فكم كانت حاجتي لنوم عميق بسلام. لكن لحظتها شيئًا ما كانت تهيئه لي السماء. وميض متكرر حسبته من البرق لكنه كان غير ذلك إطلاقا. على الباب كانت مثبتة قطعة مرآة على شكل شبه منحرف. دققت النظر مع خفوت ضوء الشمعة التي سرعان من انطفأت، فميزت أن الوميض كان مصدره المرآة.
أغمضت عيني مرغما فشعرت بالفراش تحتي يتموج بقوة. تصلب جسمي وتيبست يداي على المخدة. لحظة هدأ التموج الذي حسبته بعد ذلك من أثر السفر. لكن انجذاب اللحاف من فوقي كاد أن يدخلني مباشرة في هلوسة جنونية. تلوت ما كنت أحفظه من آيات لكن لما سمعت طرقا تحت مخدتي شعرت بحاجتي للذهاب إلى دورة المياه فقفزت من مكاني أنادي بأعلى صوتي ولا من مجيب.
تكومت على نفسي كطفل صغير أشد ركبتي إلى صدري وقد وضعت جبهتي عليهما. سمعت طنين زنابير ولما رفعت عيني اتضح لي أن القبعة كانت تحوم حول رأسي وأن عظاية اتخذت من مقبض الباب متكأ. ارتجفت من الذعر لما سمعت نئيم بوم حط على الشباك مثبتا مخالبه على شيشه.
وعلى الجدار ظلت العظاية تتنقل على خط أفقي بفاصل متر واحد تقريبا وهي تحرك رأسها كأنها كانت تقول لي: "اخرج من هنا". وأنا أعيش هذا الكابوس الواقعي فاقدا للإرادة وللقوة، انهمرت دموع لم ألق لها أنامل لكفكفتها. قبعة الدوم كانت تحوم كالمروحة سرعان ما استقرت على رأسي ووجهي وصارت تضغط بقوة حتى اختنقت وفقدت وعيي.
في جزء بعيد من الطريق الترابي رأيت في منامي تلك الليلة أن كانت هناك عربة خفيفة يتقدمها حصانان تنتظر. توجهت إليها حبوا في لحظة قد اندفع الريح وهزت صدمة رعد متصدعة المكان، وفي ذهول جلست بهدوء تحت إحدى عجلتي العربة. سمعت صرخات غير مفهومة مرعبة ورأيت البوم قد تحول إلى نسر ضارٍ يضرب بجناحيه وكأنه غاضب. تسلقت العربة كما تفعل السحلية. وما إن تحرك الحصانان حتى انقض عليهما النسر وجذبهما إلى الأعلى وطار في اتجاه مجهول.
فتحت عيني. كنت ملقى على الأرض وكل ما في الحجرة قد انقلب عاليه سافله، ولأني استسلمت لما جرى لم يعد ذاك الرعب يهمني بل كنت أنتظر نهايته غير مبال بنوعها. دون حراك، متصلب الأطراف، متوقفا عن التفكير تماما كصنم. كنت أنتظر ما سيلي ذاك المشهد وأنا ملقى على الأرض في فوضى عارمة. طال انتظاري كميت ينتظر دفنه.
وفي رمادية الفجر أحسست بدبيب حياة في جسمي، جربت النهوض فنهضت كالسكران. جاهدا أعدت ترتيب الفراش وإذا بآذان الصبح يعلو في عنان سماء صافية، بعده بقليل سمعت أبواب المقهى تفتح فصرخت مناديا. بعد ثوان فتح الباب ولم أكن أكثرت بما كان يقول النادل نفسه الذي أقفله بالأمس. وضعت حقيبتي على كتفي وغادرت المقهى دون أن أجرؤ على رفع رأسي جهة نافدة تلك الحجرة اللعينة.