عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
أخفقت صحف ومجلات أجنبية وعربية في الصمود في وجه سيل النشر الرقمي الجارف، فتوقفت عن الصدور، أو اضطرت لتقبل الواقع فلجأت إلى الصدور الرقمي. ولكن جرت محاولات لتحدي التيار الرقمي الطاغي بخوض مغامرة الصدور ورقيا. ومن هذه المجازفات محاولة صحيفة "الاتحاد" في لبنان في عام 2017، لكنها توقفت عن الصدور بعد شهرين تقريبا. وفي عام 2012، صدرت دورية فصلية باسم "بدايات" واختارت الصدور ورقيا، وصمدت في الميدان عشر سنوات.
وبمناسبة إتمام السنوات العشر، أعلن رئيس تحرير الدورية، فواز طرابلسي، "تعليق الصدور مؤقتا"[1]. ويرد في تعليل أسباب الاضطرار لتعليق الصدور أمور معروفة بشأن الإصدارات الورقية، منها عدم التمكن من دخول كل الدول العربية، وتكاليف الشحن والبريد، ومبيعات واشتراكات ذات مردود صغير مقارنة بتكاليف الصدور.
ولكن العامل الحاسم في قرار تعليق الصدور وثيق الصلة بمسألة التمويل، الذي انتظم أربع سنوات من خلال "شراكة" بين "بدايات" ومؤسسة روزا لوكسمبورغ، التي قدمت للمجلة 120 ألف يورو سنويا. لكن المؤسسة قررت خفض المبلغ الذي تقدمه إلى سبعين ألف يورو، فكان لذلك تأثير كبير على المجلة، فأصبحت الأعداد السنوية ثلاثة بدلا من أربعة، وتم تخفيض أجور العاملين. إنها علامات بدء المعاناة التي عرفتها الإصدارات الورقية الأخرى.
وجود منابر ثقافية متعددة أمر يستحق الترحيب به، ولكن اختيار المنبر الثقافي أن يكون ورقيا في العصر الرقمي أمر لا يبدو أنه يتحلى بالحكمة. ويزيد الطين بلة اعتماد الصدور على تمويل من مؤسسات أوروبية أو غيرها، فهذا يعني أن مواصلة الصدور يظل مربوطا باستمرار التمويل. واستخدام صفة "شراكة" بدل العبارة الأصح، أي تمويل، وصف دبلوماسي.
مئة وعشرون ألف يورو مبلغ ليس صغيرا، ورغم ذلك تلتهمه بسرعه التكاليف المختلفة للنشر الورقي. وعندما انخفض التمويل إلى سبعين ألف يورو (وهو مبلغ غير صغير أيضا) حدثت هزة كبيرة أدت إلى تقليل الأعداد السنوية (وهي قليلة أصلا) وتخفيض أجور العاملين، وغير ذلك من أمور متصلة بصدور المجلة بمحتوى جيد.
"تعليق الصدور مؤقتا" يذكر بتجربة مركز الأردن الجديد للدراسات، الذي كان بدوره يحصل على تمويل من "شركاء" أوروبيين، وأعلن مديره، هاني الحوراني، في عام 2012 قرارا مشابها ولأسباب مشابهة:
"إن توقف مركز الأردن الجديد المؤقت يعود إلى القناعة التي ترسخت لديه بأن الوقت قد حان لمراجعة رسالته وأهدافه واستراتيجية عمله، في ضوء الظروف الجديدة [الانتفاضات الجماهيرية العربية]، وكذلك للبحث عن مصادر تمويل مستدامة، لا يمكن تحقيقها بالاعتماد على آليات التمويل الدولية الحالية لمنظمات المجتمع المدني والمؤسسات المستقلة للأبحاث، والتي باتت تحد من ملكيتها لهويتها ومنتجاتها، وتأكل من رصيدها ومصداقيتها وتهدد قدرتها على الاستدامة والاستقلالية المؤسسية"[2].
بكلمات مختلفة ومعنى عام واحد، أعلن رئيس تحرير "بدايات" قرارا مماثلا:
"اتخذنا القرار المؤلم بتعليق صدور المجلة خلال العام المقبل والبحث عن مصادر تمويل لسد متطلبات النقلة الضرورية المذكورة أعلاه. ونحن هنا أمام خيارات ثلاثة: تطوير إنتاج المجلة الورقية؛ البحث في الانتقال إلى الصحافية الرقمية؛ وفي حال عدم التوفّق في الحالتين، اختتام عقد من هذه المغامرة، غير آسفين إلا على عدم التمكن من متابعتها[3].
الخيار الأول في الفقرة أعلاه يعني الإصرار على عدم التكيف مع الواقع. الصدور ورقيا خيار غير مجد، حتى لو تم بتطوير المحتوى، لأن ما أرغم المجلة على التوقف ليس المحتوى، بل عقبات أخرى. وأكاد أجزم أن النسخة الورقية من مرجع ما ليست الخيار الأول للباحثات والباحثين لأسباب تحدثت عنها بضع مرات في افتتاحيات سابقة. أما خيار الصدور الرقمي فهو متأخر عشر سنوات، وسيكون صعبا الاستمرار فيه إذا اعتادت المجلة على مبلغ مالي مكون من عشرات الآلاف من الدولارات أو ما يعادلها من عملات أخرى. أما الخيار الثالث، فهو ما يبدو أن الافتتاحية تريد قوله، ولكن ليس بصراحة.
الحصول على تمويل والسعي إلى رعاية شركات من بينها بنوك وشركات هاتف وخلافه أصبحا أمرا شائعا. وكلما شاع أكثر، زادت درجة القلق على الجهات التي تفعل ذلك. وكلما زاد التمويل، ازدادت فخامة الأماكن التي تقام فيها النشاطات. وتزيد عزلة "النخبة" عن باقي المجتمع، ويقل تأثير المؤسسات رغم أن المال يساعدها على زيادة إصداراتها ونشاطاتها.
خلاصة القول: الجمع بين الصدور ورقيا والاعتماد على تمويل غير التمويل الذاتي يقصّر عمر الدوريات.
= = =
الهوامش
[1] فواز طرابلسي. "بدايات" تختم عيدها العاشر وتعلق الصدور مؤقتا. بدايات. العدد 36 (2023). الرابط التالي شوهد في 5/2/2023.
https://bidayatmag.com/node/1460
[2] صفحة مركز الأردن الجديد للدراسات في فيسبوك، على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/UJRCJordan/posts/377707342265963
[3] مصدر سبق ذكره.
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 27: الموارد الرقمية بين المكتبات والمواقع المفتوحة: مقارنة
- [...]