زكي شيرخان - السويد
عَجزٌ
.
يوم كان الجنود الأمريكان يحتلون شوارع بغداد والمدن العراقية
.
.
= هل أنتِ في عجلة من أمركِ؟
= لا أدري ما الذي أقوله لكَ، ما كان عليّ أن ألتقيكَ. إلحاحك جعلني أوافق على ما ندمتُ عليه ما أن انتهت مكالمتنا الهاتفية.
اكتسحني الغضب. نهضت من مقعدي وبصوت منخفض يتناسب والمكان، وبنبرة عانيت كثيراً كي أجعلها هادئة، قلت لها:
= تفضلي، سأوصلك إلى بيتك.
ألجمتها ردة فعلي غير المتوقعة. اغرورقت عيناها بالدموع. في هذه اللحظة كان النادل قد وصل وبيده قائمة الطعام.
= إن كنت لم ترتح للمنضدة فأقترح، بعد إذنك طبعاً، أن تنتقلا إلى المنضدة الموجودة في تلك الزاوية. إنها محاذية لشباك مطل على النهر مباشرة، يا أستاذ.
= الآنسة تحس بصداع، ربما من الأفضل أن تأخذ قسطاً من الراحة في البيت.
التفت النادل إليها وهو يقول:
= بعد إذنك يا سيدتي، حبتا أسبرين، وقدح من الليمون، ومنظر النهر أعتقد أنها ستكون كفيلة بإزالة الصداع. مثل هذا اليوم الرائع لا يعوض.
بالكاد استطاعتْ أن ترسم على شفتيها ابتسامة مجاملة مفتعلة. وجهتُ كلامي للنادل وأنا أنظر إلى وجهها الذي طالما أجببت أن أتطلع إليه كلما كنا نجلس سوية:
= مرة أخرى، إن سمحت الظروف.
أخرجت محفظتي.
= هل عليّ أن أدفع شيئاً ما؟
= لا، يا أستاذ.
أخرجت ورقة نقدية مددتها له.
= هذه لك.
= آسف يا أستاذ، لا آخذ مقابل شيء لم أقم به.
حاولت أن أدسها في جيب قميصه، ولكن كفه كانت قد أسرعت بالإمساك بأصابعي.
= أرجوك يا أستاذ، لا تحرجني، كما قلت لك لا أقبل مالاً بلا مقابل. في المرة القادمة سأتقبل منك إن أعجبتك خدمتي.
أحسست صدقه وهو يزيد الضغط على أصابعي. تنحى جانباً ليفسح لنا الطريق.
= رافقتكما السلامة، وأرجو أن تعودا قريباً لتذوق طعام طباخنا الماهر.
= شكراً.
ما أن ركبنا السيارة وقبل أن أترك موقف المطعم، قالت:
= أنا آسفة، لم أقصد أ...
قاطعتها:
= اربطي حزام الأمان أولاً، ولا داعي لأسفك. لم يكن عليّ أن أطلب منك أن نلتقي.
= لكن ما...
قاطعتها بشيء من الحدة:
= لم أكمل كلامي بعد.
كنت ما زلت تحت تأثير سورة الغضب التي أخذتني في المطعم، ويبدو أني كنت أقود السيارة بسرعة. فجأت سمعت صرخة مرعوبة:
= توقف يا أمجد. توقف، سيمطروننا بوابل من الرصاص. أمجد أرجوك توقف. يا إلهي سنقتل.
صرختها أعادت عقلي للموقع الذي نحن فيه، فإذا بي أمام شخص طويل، ضخم يقف وسط الشارع ببدلة كاكية مرقطة وبسطال ثقيل وخوذة حديدية هي الأخرى مرقطة وقد علق بندقية آلية في رقبته. كانت يده اليمنى مرفوعة نحو الأعلى. ضغطت على الموقـف. اقترب آخران يرتديان نفس البدلة أحدهما من جهة اليمين والآخر من اليسار والذي قال بعربية ركيكة:
= ضع يدك على المقود.
= التفت إليه وقد ازداد غضبي.
= تحدث بلغتك الوسخة، فأنت لا تجيد العربية.
= حسناً، دعني أرى يديك، ولتضع السيدة يديها أمامها حتى أتمكن من رؤيتهما.
لم يكن أمامنا إلا الامتثال لأوامره، وهذا ما زاد من غضبي. اقترب من السيارة بحذر شديد جداً. فتح الباب.
= ضع يدك فوق رأسك، وانزل على مهلك.
الآخر فتح الباب الآخر، وبكل أدب قال:
= آسف يا سيدتي، يجب أن تنزلي من السيارة، ودعيني دائما الحظ يديك. لا أريد أن يحصل خطأ ما.
في هذه الأثناء كان جنديان آخران قد تقدما وفوهتي بندقيتهما موجهة نحونا. فتّشني القريب مني بدقة. قلت له محاولاً تخفيف حدة غضبي:
= لم ترتعش؟
تجاهل ملاحظتي قائلاً:
= والآن يا سيدي، أرني بطاقتك الشخصية.
أعطيته جواز سفري. قبل أن يفتحه قال:
= إذن أنت نرويجي.
= نعم ولا.
= لم أفهم.
= أقصد أنا عراقي أحمل جواز سفر نرويجي.
قرأ ما هو مكتوب في الجواز من معلومات، فقال مستغرباً:
= الجواز يثبت أنك مواطن نرويجي.
= لم أنكر أني حاصل على الجنسية النرويجية، ولكني أفضّل أن يقال عني إني عراقي.
= هذا شأنك. تفضل جوازك، هذا كاف لتفسير حدتك معنا.
= ما الذي تقصده؟
= أنت محمٍ من سفارتك، فلو صادف وأن اعتقلناك فإن سفارة بلدك ستقيم الدنيا ولن تقعدها حتى نخلي سبيلك مع اعتذار رسمي ملزمين نحن بتقديمه.
= الآخرون، أقصد العراقيين، كيف يكون رد فعلهم تجاهكم؟ أقصد كيف يتصرفون معكم؟
= الغالبية العظمى مطيعون لأوامرنا. البعض منهم يتوسل بأنه لم يفعل شيئاً. البعض منهم لا زال يتصور بأننا نشبه عناصر المخابرات والأمن الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، ويهينون آدمتهم.
كانت بي رغبة جامحة أن أدس فردتي حذائي في فمه. وصلتْ سورة غضبي مدى لم تصله منذ فترة طويلة، وطويلة جداً. كانت عيناي خلال الوقت لا تفارق مادلين. لو مسها ذلك اليانكي القذر، ماذا ترى ستكون ردة فعلي؟ كيف سأتصرف معه؟ لحسن حظي أو حظها لست أدري فإنه لم يفتش غير حقيبة يدها. بدأ أحدهم يفتش السيارة.
= قل لي، كيف يتصرف المسؤولون إن قبضتم على عراقيين بالخطأ؟
= من تقصد؟
= أعني أي مسؤول، لا أدري، رئيس الوزراء، رئيس الجمهورية، وزير الــ...، لا أدري، أي مسؤول.
= لا بد وأنك تمزح يا سيدي. كل من ذكرتهم مشغولون بتوزيع المناصب بينهم، وتأمين مستقبلهم بعد تقاعدهم.
وددت لو صرخت بأعلى صوتي، وددت لو لطمت راسي بزجاج السيارة، رغبت بالبكاء. صرخ الواقف وسط الشارع:
= روبرت، ألم تنته بعد؟
= على وشك، سيدي العريف.
أعطاني روبرت جواز سفري، وأعتذر مني. كانت مادلين قد عادت إلى السيارة.
= يمكنك يا سيدي أن تستدير وتختار طريقاً آخر غير هذا يؤدي إلى وجهتك.
= لماذا؟
= ألا ترى أعمدة الدخان أمامك، وأصوات سيارات الإسعاف والشرطة؟
بالفعل، لم أكن قد تنبهت لكل هذا.
= ما الذي حدث يا روبرت؟
= هذه بادرة حسنة أن تخاطبني باسمي. حدث انفجار قبل قليل على مبعدة ألف قدم. وقع عدد من الضحايا المدنيين وشرطي عراقي.
= ومنكم؟
= صفر قتلى. صفر جرحى.
= مقاومة شجاعة. هكذا تكون المقاومة وإلا فلا.
= هم إرهابيون يا سيدي.
= أتعرف يا روبرت، لم أجد من قومك من هو أغبى منك. أنا أتهكم، وبعدها سأضحك، فشرّ البلية ما يضحك.
لم أنتظر تعليقه. ركبت سيارتي. استدرت. سمعت روبرت يقول:
= مع السلامة، لا تقد بسرعة تفادياً لأي خطأ غير محمود العواقب.
طيلة الطريق، لم أقل شيئاً، ولم تقل هي أيضاً. وصلت قريباً من بيتها. قالت:
= توقف هنا. أمجد، أرجوك أريد أن أعود للمطعم يوم غدٍ. أرجوك هذه المرة أنا التي ألح، لا بل أتوسل إليك. أمجد، استدر أريد أن أتطلع إلى عينيك التي طالما افتقدتهما طيلة سنوات غربتك. لا إنها لم تكن غربتك. كانت غربتي في مكان يفترض أن يكون وطني. أجربتَ هكذا نوع من الغربة؟ أجربتَ أن تعيش غريباً في وطنك؟
استدرت. التقت نظراتنا. كانت تتطلع إلى عيني. مضت فترة قبل أن تدفن جبهتها بين رقبتي وكتفي. سخونة دمعها أعادت إلى ذهني ظهيرة يوم من أيام تموز وأنا أركض مع الراكضين لأرى تلك الجثة العارية، المشوهة المعالم وهي تسحل على الأسفلت الساخن. كان ذلك أول أعوام مآسينا المتلاحقة. أعادت رأسها إلى مكانه. أخرجت منديلاً ورقياً من حقيبتها. مسحت عيني ووجنتي من دمع غزير سال منهما، وقبل أن تمسح عينيها قالت:
= أعرف أن دمعك لم يتوقف حزناً على وطن بدل أن يشيّدوه بسواعد وعرق شيدوه بجماجم ودم، وها هم يكملون تشييده بسكاكين تحز رقاباً، ومتفجرات تمزق أبداناً. سأنتظرك في الغد، في نفس المكان ونفس الساعة.
* * *
شغَلنا الطاولة التي اقترحها النادل أمس. تطلعت لدجلة والنخيل على الضفة الأخرى.
= أتغير دجلة هو الآخر؟
لا أدري إن كنت قد وجهت السؤال لمادلين أو لنفسي.
= ما زال "دجلة الخير" الذي تغنى به الجواهري بخير يا أستاذي. هذه محنة ستزول.
أيقظتني جملة النادل، فالتفت إليه. لم أستطع أن أرسم على شفتي ابتسامة مجاملة كما فعلت مادلين أمس. وضع أمامها ثم أمامي قائمة المأكولات.
= مساء الخير، وأهلاً بكما.
= ما أسمك؟
= خالد. اسمحا لي سأعود حالاً.
عاد بعد قليل بقدحين كبيرين. وضع الأول بحرفية أمامها، والآخر أمامي.
= سمحت لنفسي بتقديم هذا الشراب لكما. إنه مكون من عصير برتقال وعصير نارنج بدون سكر. خلطة عراقية من حمضيات عراقية. إن لم تعجبكما فسأستبدلهما بما ترغبان.
= ما ميزة هذه الخلطة؟
سألته مادلين.
= أولاً، إنها طبيعية. بدون سكر. مهدئة. أخيراً، إنها فاتحة للشهية. تمتعا بوقتكما. سأعود إليكما، لكن هذه المرة عندما تحتاجان لي.
تبعته بنظري وسؤال، لا بل مجموعة أسئلة تدور في رأسي المثقل بكل شيء.
= أليس غريباً أن تجدي شخصاً مثل خالد في مثل هذا الزمن؟
= ما الذي أثار استغرابك بخالد؟
= أكاد أحكم عليه أنه متفائل إلى حد الإفراط. ودود. مرح. ما أن يبدأ الكلام حتى يحس مستمعه بشيء من الألفة قد امتدت بينهما.
= ربما كان يرتدي هذه الصفات في محل عمله فقط. ربما وجدته بشخصية أخرى، بشخصيته الحقيقية خارج أوقات عمله في المطعم.
= لا أظن ذلك. تستطيعين تلمس صدق وعفوية تصرفاته.
= في كل زمن تجد شخصاً مثل خالد وتجد نقيضه.
وجدت في جملة مادلين الأخيرة شيء من تبرم أستطيع فهمه. لم نأت إلى هنا لنقضي وقتنا في تحليل شخصية خالد.
= أرجو أن تكوني قد نمتِ جيداً ليلة أمس.
= عندي حبوب منومة للحالات الطارئة التي هي في تزايد، وأنتَ؟
= أرقي إن أصبت به يغلب على أقوى أنواع المنومات.
= ربما كان ينفعك كأس أو كأسين من الويسكي.
= أنا لا أشرب. أقصد تركت الكحول منذ فترة طويلة.
= منذ متى؟
= منذ رحلت عن الوطن. عشرون عاماً وأنا لم أذق أي مشروب كحولي.
= لا بد وأن أشياء كثيرة قد تغيرت فيك؟
= وأشياء بقيت، بل وازدادت تجذراً. مادلين، لِمَ لمْ تلتحقي بي؟
= أنت تعرف السبب. أنت تعرف أن أمي كانت تعلم بعلاقتنا، ولا بد أنها أخبرت والدي. لو كنت تزوجتك لتعرضت مكانة أهلي الاجتماعية للاهتزاز، ولكانت أخواتي الثلاث قد بقين بدون زواج حتى مماتهن. عندما كان أبي على فراش الموت، لم يطلب مني عدم الزواج منك، لكنه قال "أخواتك برقبتك، تذكري هذا".
= من كان سيدري لو أنك تزوجتني ونحن بعيدين كل هذا البعد.
= كرامتي وكرامتك كانت أكبر من أن أدعي بأني غير متزوجة. ثم ما كان سيكون موقف عائلتي لو اكتشف الجميع أني اقترنت بك؟ لا تقل كنا سنكون بعيدين. يوماً ما كان أحد ما سيعرف الحقيقة، وعندها لم يكن الأمر بحاجة لوكالة رويتر لانتشار الخبر. عندها سنكون قد وصلنا إلى ما كنا نخشاه.
= هل تزوجن؟
= جميعهن. أنا الآن خالة لأولاد وبنات يبلغ عددهم عشرة.
= إذن أصبحت الطريق سالكة أمامنا.
= أتهزأ يا أمجد؟ أصبحنا، أنت وأنا على أعتاب الستين. لقد حصلتُ على شهادة سن اليأس. أفكر جدياً بأن ألتحق بأحد الأديرة أقضي ما تبقى لي من عمر أصلّي للجياع والعراة والمهددين بالقتل في كل ساعة والمعانين من شح المياه والأمراض التي تفتك بالأطفال. لم أعد أملك غير الصلاة لكل هؤلاء.
مسحت دموعها التي سالت على خديها. قبل أن تمسح أنفها قالت:
= بعض الأحيان أتمنى الموت. ليس لأني فقدت الرغبة في الحياة، ولكن لأن الألم الذي يجتاحني جراء كل ما ذكرت لك بات أكبر من أن أحتمله. الحزن الذي يلفني صار كابوساً لا يطاق. يكاد دمعي ينشف من كثرة بكائي. أتدري، لم أعد أملك جهاز تلفاز. لم أعد أحتمل رؤية الأشلاء الممزقة. والأطراف المقطعة.
كانت تجاهد دموعها بدون فائدة. تذكرت دموعها التي انهمرت ذات يوم من كثرة ما ضحكت وأنا أروي لها نكتة. أكانت أياماً سعيدة؟ برغم كل مساوئها فقد كانت أحسن مما نحن فيه الآن. كان القتل مغلفاً لا يعرف به إلا القتلى. مدافنهم كانت تُنسى أماكنها حتى من قبل دافنيهم بعد حين. أعادني إليها سؤالها:
= متى تعود للنرويج؟
= لم أقرر بعد.
= هل وجودك هنا ضروري؟ أقصد هل يجب أن تبقى مدة أطول لإنهاء ما جئت من أجله؟
= لم أعد بسبب أعمال تجارية، أو لإنهاء معاملات رسمية. جئت فقط لأطّلع على ما آل إليه الحال، لألمس عمق المأساة التي نحن فيها. جئت لأرى بأم عيني بقايا بغداد. جئت أتفحص كم هو عمق جرح الوطن.
= لم لا تغادر غداً؟
= ...
= أمجد، ارحم ضعفي وقلة حيلتي. لم أعد أقوى على فقدان آخر. يكفي ما فقدتُ من أحبة. أتوسل إليك.
= دمي ليس بأغلى من دم الآخرين.
= أنت هناك في مأمن من مخاطر الكارهين لهذا البلد، الساعين لذبح كل أهله.
= أنا... أنت... أنا... ما أريد قوله هو...
وجدت نفسي عاجزاً عن الكلام. عاجزاً عن التفكير. عاجزاً عن الفعل.
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- ● إحباط
- ● فنجان الكابتشينو
- [...]
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ