مختارات: غالب هلسا
الخبز المر
أدناه مقتطف من مقالة لغالب هلسا تعلق على مجموعة قصصية عنوانها "الخبز المر" وهي لماجد أبو شرار، وكان كتب قصصها في الستينيات قبل التفرغ للعمل السياسي في حركة فتح، التي أصبح عضوا في لجنتها المركزية. المقالة منشورة في مجلة "شؤون فلسطينية" (ص ص 112-121)، العدد 121، كانون الأول (ديسمبر) 1981، أي بعد نحو شهرين من اغتيال أبو شرار في العاصمة الإيطالية روما.
.
.
القصة القصيرة فن شديد الصعوبة، فقلائل جدا على المستوى العالمي استطاعوا أن يتميزوا فيها. وبالنسبة إلى الأديب العربي، تصبح المسألة أشد صعوبة، حيث لا تقاليد راسخة لهذا الفن، ولا نماذج مميزة، إلا ما ندر، يحتذيها القاص ويتعلم منها. ولهذا لا نتوقع معجزة من قصاص ناشئ.
تلك هي مأساة ماجد [أبو شرار] في هذه المجموعة، فلقد أكد تميزه في هذا المجال، ثم فرضت عليه الظروف أن يتوقف. كما فرض عليه استشهاده نهاية مشروعه في أن يعاود كتابة القصة القصيرة.
وعندما أتحدث عن تميز هذه المجموعة [الخبز المر]، فما أعنيه هو مجموعة من المؤشرات الواعدة، فهو قد استطاع أن ينفذ إلى التكوين النفسي العميق للفلسطينيين — ذلك التكوين الذي يرتد على الذات فيدمرها، أو يتحول إلى فعل، فيجعل منه (أي الفلسطيني) فدائيا.
في هذا يفترق ماجد عن المفهوم المشوه والشديد السذاجة للواقعية الاشتراكية، الذي كان سائدا في تلك المرحلة. إننا نكتشف بعض التشابه السطحي في هذه المجموعة مع ذلك المفهوم، ففي قصة "النجار الصغير" مثلا، نشهد ثورة الصبي الناجحة على واقعه، وتحقق انتصاره من خلال تركه للمطعم الذي كان يعمل فيه، واتجاهه إلى دكان النجار ليتعلم الصنعة.
وفي قصة "سلة الملوخية" تنبعث الحياة في الجثة (كومة الملوخية) عندما يقرر الراوي أن يضحي بالثلاثين قرشا، وهي آخر ما يملك، ليحول الجثة إلى نسغ للحياة. وفي قصة "الخبز المر" نجد أبو خميس يموت ببطء ولا يرى في نفسه إلا وسيلة لحياة الآخرين.
ولكننا نلمس على الفور حدود هذا التمرد وهذا الانتصار. إن اقتفاء أثر الأب بالنسبة للنجار الصغير، ليس اتّباعا لنصر حققه الأب بكونه نجارا، بل لاندراج الأب في سياق الاستشهاد —الموت الذي يملأ حياة الأم— والذي تسرب منها إلى الصبي.
وشراء اللحمة لتحويل الملوخية إلى نسغ للحياة يبشر بأربعة أيام من الجوع. كما أن موت أبو خميس لم يكن الوسيلة المثلى لإنقاذ زوجته وبناته، فها هو يموت، وتظل الزوجة والبنات في مواجهة حياة بلا معيل.
ففي حين كانت تقدم الواقعية الاشتراكية بمفهومها الساذج المشوّه بطلا ينتصر، وينخرط بعد ذلك في سكونية وفي استرخاء سعادة كاذبة، نجد الانتصار هنا يقودنا إلى الغوص أكثر في مواجهة الموت.
ومسألة أخرى تفترق فيها هذه المجموعة عن قصص الواقعية الاشتراكية، وعن "حكايات" البطل الفلسطيني المطلق، فباستثناء شخصية جبر في قصة "مكان البطل" لا نجد أبطالا إيجابيين. إن أكثر الشخصيات إيجابية هو بطل قصة "وانهار الجدار". إنه في أعماقه يدرك ذلك الخيار الصعب المفروض على الفلسطيني: الخيار بين موتين: الموت التافه لإنسان لم يحقق شيئا في حياته، والموت البطولي، الذي نلمس إرهاصاته في هذه المجموعة، دون أن يتحقق.
إذا كان الإنسان يحقق ذاته في ظروف البشر الآخرين، عبر مجموعة من الانتصارات تتوالى وتتجمع، لتخلق الانتصار الأكبر، فالفلسطيني سيظل مهزوما حتى لحظة نصره النهائي. لهذا فهو يظل وسيلة لهدف كبير، ولن يصبح غاية في ذاته إلا عندما تنغرس جذوره في أرضه، أي عند عودته النهائية إليها. وهذا يعني أنه لا يحمل ذاكرة معبأة بالموت وحسب، بل يحمل الاستشهاد في ذاته كمصير.
هذا هو المشروع الصعب، المعقد والمؤلم، الذي حاولت هذه المجموعة [الخبز المر] الوصول إليه. وهذا مشروع فريد، عليه أن يتجاوز، أو يتفادى المشاريع الجاهزة: الواقعية الاشتراكية، الوجودية، القصص العربية التقليدية، إلى آخره، ليحرث في أرض جديدة بكر، وهو مشروع يحتاج إلى مران طويل وإلى اكتشاف متواصل.
= = =
- لا بد أن يعود كتاب ماجد أبو شرار
◄ عود الند: مختارات
▼ موضوعاتي