عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. فضيلة بهيليل - الجزائر

بين وجع الغربة والحنين إلى الوطن قصص تيه وضياع

قراءة في رواية «الموج والحشيش» لحياة قاصدي


فضيلة بهيليلحين تحاكي الكلمات أوجاعنا الدفينة، وتروي أرواحنا بألم غربتنا عن الوطن، نحنّ إلى عالمنا الأول، عالمنا الأصلي، إلى الوطن الأم، إلى أول منازل تكويننا ونحن بَعدُ أجنة ننمو بأرحام أمهاتنا إلى أن تنطلق صرخاتنا الأولى فنغترب بطريقة أو بأخرى عن الوطن.

بين "الموج والحشيش"، حكايات تولد وأخرى تموت، بين الموج والحشيش قصص لم تُروَ بعد، ووجع يصرخ ممزقا أكباد الأمهات، في عمق البحر الذي لا أمان له أو على يابسة ماتت فيها حشائش الأمل والحياة... هنا... أو هناك، واحدٌ هو الألم؛ ألم الغربة والحرمان، ألم وطن جريح ينزف أبناءه. وعلى الضفة الأخرى أرض لا يعنيها ألم ذلك الغريب ولا حضارته، إنها فرنسا "مدينة الغرباء الذين يحاولون إخفاء إخفاقاتهم خارج أسوار وطن لم يجدوا فيه وطنهم بدل الوطن الضائع"[1].

"الموج والحشيش" رواية شيقة حبكت أحداثها الكاتبة حياة قاصدي، مزيج بين الحب والكراهية، بين الوفاء والخيانة وبين الرفاهية والشقاء. أبطال تمزقوا بين الغربة والحنين، أبطال رغم اختلاف مستوياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية جمعهم رابط واحد كان "حب الوطن"، فكيف إذا غدا الوطن عنهم غريبا؟

1. شخصيات في صراع

أبطال رواية "الموج والحشيش" شخصيات تيمّمت برائحة مطر قادم من الجزائر، بنسيم عبر العاصمة مسافرا نحو سواحل أوروبا، محملا بكل المشاعر الصادقة نحو الوطن الأم لتسكن قلوبهم، فيحيون لأجل حبها أو يفنون بدونها.

الجزائر... القلب النابض بالحياة والحب الأبدي الذي سكن أفئدة أبطال الرواية، بدءاً بالأستاذ نور الدين وزوجته فاطمة وصولا إلى ابنيهما نعيمة وسفيان، بل ويكبر حب الوطن لتحمل نعيمة مشعل نوره مغردة كطائر حر يصدح بصوته داخل المدرج كلما أتى الأستاذ على ذكر وطنها الجزائر، لنجدها تتحول إلى لبؤة شرسة تدافع بكل إيمان وصدق عن أرضها وأهلها هناك مهما أبعدتها عنه المسافات، هكذا هم أبناء الوطن الشرفاء والمخلصين.

تعتبر نعيمة أهم ركيزة في الرواية والشخصية المحورية التي تحرك مسار السرد ليبلغ ذروته، قدمها الكاتبة في صورة وطن هو الجزائر، اختارت لها الكتابة اسم نعيمة، وهو اسم يرمز للنعيم والخير الذي يزخر به الوطن، ذلك أن الشخصية ما هي في نهاية المطاف إلا ذلك الرمز الذي يسرب من خلاله الكاتب رؤياه منتقيا بذلك الأسماء الدالة والعاكسة لوظيفة الشخصية وطباعها وهدفها، تتجلى "بعدة طرق الأولى في اسم الشخصية الذي يعلن عن الخصوصيات التي ستمنح له"[2]، تماما كما هو الحال مع اسم نعيمة واسم فاطمة ونور الدين وكمال عيفة وغيرهم ممن شكلوا لبنة الرواية.

نعيمة ولدت في الجزائر، عاشت فرحة دخولها المدرسي هناك، لذلك كانت أكثر تشبثا بجذورها، "بين الوطن ونعيمة علاقة روحية عميقة جدا، رأت النور وسنوات عمرها الأولى في بلد الأجداد ولها بعض الذكريات من صباها الأول. دخولها المدرسي كان هناك. في المسجد الذي تعودت على ارتياده وهي ذات الثلاث سنوات حيث كانت كلما نجحت في حفظ وترديد سورة جديدة من القرآن إلا وصفق لها الجميع وتمنحها جدتها قليلا من المال لتشتري به ما تشاء من الحلويات"[3]. بينما سفيان فتح عينيه على أرض غير أرض أجداده، ولد بفرنسا وتربى فيها لكنه كان يدرك أن الوطن الحقيقي ليس ذلك الذي يسجل ميلادنا وإنما الذي يسجل انتماءنا، كان سفيان يعلم يقينا "أن الوطن الحقيقي هو أرض الأجداد وليست الأرض التي ولدتَ فيها لوحدك. ولغتها ليست هي التي يتحدث بها أهلك وأدرك أنه مجبر على وضع نفسه في الموقع المناسب. أدرك أن هناك بداخله وطنا لا يمكن أن نستبدله رغم ابتعادنا عنه ولا يمكن لوطن آخر وجدنا أنفسنا فيه أن يغير الخريطة الحقيقية لتموقعنا النفسي والوجداني الطبيعي. لكنه يتعطش لأصدقائه الذين نبتت روحه معهم. لا متعة توجد مع رفيق لم تعرفه في سنوات الطفولة الأولى. فهو بذلك له وطن أبدي وآخر نشأ جديدا ويظل ظرفي"[4].

بالاتجاه المعاكس كانت شخصية كمال الحاقدة على الجزائر تثير غضبنا وجنوننا كما فعلت مع نعيمة أيضا، يقول في إحدى مداخلاته: "إن فرنسا دولة حرة. كان الأجدر بالجزائريين أن لا يعلنوا العصيان ضدها، يا لهم من أغبياء، ما فائدة استقلالهم وقد أقاموا حربا لا قيمة لها، مات الملايين بدون فائدة، كان على الجزائر أن تظل فرنسية إلى الأبد"[5]، ثم يضيف بعد جدل دار بينه وبين نعيمه: "أنا فرنسيٌ لأن جدي ووالدي اختارا خدمة فرنسا، جئنا إلى هنا هربا من إرهابيي الجبهة المجرمة الذين قتلوا كل من آمن بقوة فرنسا. وأنا سعيد جدا أن الأيام أثبتت أننا كنا على حق"[6].

كمال عِيفة مَثَل للخائن الذي يُكن عداوة لوطنه وأهله ممجدا عدوه، جعلته الروائية ينحدر من سلالة غير نقية، فكان من عائلة باعت الوطن أيام الاستعمار (الحركي) واختارت فرنسا بديلا لوطنها الأم. وقد أدركت نعيمة ذلك لاحقا من خلال كلامه "في قرارة نفسها أدركت نعيمة أنه ابن عائلة حركيّة، الآن فهمت لماذا يصفق هذا الغبي للجزائر الفرنسية"[7]، ورغم ذلك نعيمة لم تترك فرصة أثناء النقاش بالمحاضرة إلا وردت على استفزازه وسخريته من الجزائر فقزمته أمام الطلبة بالحجة والدليل.

ثم إن الكاتبة اختارت له اسما ثنائيا يعكس حقيقته، فاسم كمال والذي يعني كمال الشيء وتمامه هو ما كان يعتقده حين يفاخر بانتمائه الفرنسي وكأنه يرى نفسه كاملا لا يحتاج لوطن، وأما اللقب الذي اختارته الكاتبة ووفقت فيه "عيفة" فكان دالا وبامتياز عن حقيقة كمال، ذلك أن معنى عيفة قد يكون قريبا من الفعل "عاف"، ونقول عاف الشي أي تركه، وهو كذلك بالنسبة لوطنه الحقيقي لا يعدو أن يكون أكثر من عِيفة وشخص مكروه متروك.

حياة قاصديأوردت الكاتبة صراعا حادا بين شخصيتين منتميتين لنفس الوطن، مختلفتين في الرؤيا والتوجه. جزائريان من بلد وأصل واحد الأول يذوب في حب الوطن ويذود عنه، يتنفسه كل لحظة ويعيش لأجله رغم البعد، مثلته شخصية نعيمة الوفية، والثاني يكره وطنه ويسخر منه علنا، بل يرفض حتى الانتماء إليه، مثّلته شخصية كمال الحاقدة. الهدف من وجود هاتين الشخصيتين هو أن الروائية أرادت أن تقول بأن الخطر لا يكون دائما من الغرب والأجانب وإنما يمكن أن يكون من الداخل أيضا، من أبناء البلد وضد مصلحة البلد وهذا العدو أخطر من الآخر، في إشارة منها إلى أن سلالة الحركى لا تزال موجودة، ومن صفق لفرنسا أيام الاستعمار وغدر بأبناء وطنه من المجاهدين والشهداء، لا يزال إلى اليوم يبدي لفرنسا الطاعة والولاء. في النهاية يظل خائنا حتى وإن منحته فرنسا الجنسية ومنحته حقوقه كفرنسي، غير أنها لن تأتمنه على بلدها، فالخائن يظل خائنا حتى في نظر سيده مهما كان له خادما مطيعا.

على العكس من ذلك، نجد الفرنسي الأصل، بيير، الطالب المسيحي، الذي أعجب بجرأة نعيمة ودفاعها عن وطنها ودينها، يقرر البحث في هذا الدين بمساعدة منها، ويصل في الأخير إلى نتيجة كانت مفاجئة بالنسبة لنعيمة وصديقتها صبرينة، يرُد بعد أن مازحته نعيمة كونه حريص على تعرف الإسلام أكثر منهم هم المسلمين قائلا: "ما في الإسلام أجمل مما يظهر على سلوكات المسلمين، إنهم للأسف لم يتوصلوا إلى القيام بتأدية رسالته. دينكم رائع آنسة نعيمة"[8]، فالكاتبة أرادت أن تنبه إلى أن تلك الأحداث التي تسببت في تشويه الإسلام والتي ذكرت منها حادثة مقتل الصحفيين كما ورد في الفقرة التالية: "الشارع الفرنسي يغلي صبيحة يوم 7 جانفي 2015، كل القنوات الإخبارية في العالم تنقل على المباشر خبر حادثة هجوم تعرض له مقر صحيفة شارلي إيبدو. تم خلاله قتل حوالي اثني عشر من صحفييها منهم بعض أشهر رساميها بعد اقتحام الإخوة كواشي سعيد وشريف المقر، وأمطروه بوابل من الرصاص. تسبب الحادث في صدمة للعالم بأسره. المهاجرون من أصول إسلامية يحسون بالإحباط، لقد أتعبت كاهلهم هذه الحوادث الإرهابية التي تحدث مرارا"[9]، مثل هذه الأحداث دفعت العديد منهم إلى البحث في طبيعة هذا الدين ومعرفة خباياه، ولماذا هو عنيف ودموي بهذا الشكل، ليكتشفوا بعد الدراسات العميقة والعلمية بعيدا عن المعارف السابقة، أن الدين الإسلامي دين شامل وكامل للبشرية وهو ما يفسر اعتناق الكثيرين للإسلام في السنوات الأخيرة بأوروبا.

بيير الذي صار بعد إعلان إسلامه أسامة ويصبح فيما بعد زوجا لنعيمة ومثالا للرجل المسلم الحريص على أداء واجباته الدينية عن رضا واقتناع. مثّل الاتجاه الذي يبحث في حقائق الظواهر والأمور، ولا يقنع بالمغالطات والأفكار التي يتم ترويجها، خصوصا تلك التي حاولت وتحاول تشويه الإسلام في نظر الشعوب بزرع الشخص الهمجي القاتل وإلصاقه بالدين الإسلام، ثم إطلاق مصطلح "الإرهابي" الذي يترسخ في عقول الغرب بالإسلام.

هكذا أوردت الكاتبة شخصياتها الرئيسية وقد كشفت للقارئ نوايا تلك الشخصيات، فلم يكن من الصعب علينا أن نتعرف على الشخصيات الخيّرة والشخصيات الخبيثة، بل في كثير من الأحيان جعلتنا نغوص بداخلها حين استعرضت لنا نفسياتها وتقلبات مزاجها، دون أن تهمل تصوير البيئة التي كانت مسرحا لتلك الأحداث، "فاكشفنا البطل" من خلال تعليق صريح، وعلى التحليل أن يتعرف على الأماكن التي يقوم فيها النص بطرح منظوره الخاص، وسمي البطل "بطلا"، والخائن "خائنا" وأن يقوم هذا الفعل أو ذاك كفعل خير أو كفعل شر"[10] وهو ما قادتنا إلى معرفته رواية "الموج والحشيش".

2. حضور التراث الجزائري في الرواية

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن توظيف التراث في الرواية مع أن الروايات السابقة لم تكن تخلوا من وجود التراث بنوعيه؛ مادي ومعنوي، إلا أن توظيفه في الرواية الجديدة اكتسب شكلا آخر وكان له الأثر الواضح في النصوص السردية بالأخص التراث الشعبي. والمقصود بالتراث الشعبي هو "عادات الناس وتقاليدهم، وما يعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلا عن جيل"[11].

حرصت الكاتبة حياة قاصدي على أن تزين روايتها بكل ما هو جزائري أصيل، فأثثتها بالتراث الجزائري ليكون حاضرا في المناسبات وفي غيرها. نحن ندرك حبنا لتراثنا كلما افتقدناه، بل إننا نزداد تشبثا به كلما شعرنا أننا صرنا غرباء في وطن يفتقد عبق ذلك التراث، فلا نملك إلا أن ننصاع إلى أوامر الحنين الذي يزيدنا تمسكا بتقاليدنا وتراثنا، ولا شك أن نعيمة واحدة منهم: "تتذوق كل الأنغام وتعشق كل الزغاريد، إنها فعلا نشوة عبق الشرق. لهذا الوطن مخزونه الجميل ولا يمكن لأحد أن يرى هذا الجمال على حقيقته إلا من حرم منه. سيشهد الشوق على هذا السحر ويجعل الروح تتقن الاكتشاف في أعلى مراتبه"[12]. إن الأنس الحقيقي هو ذلك الذي يكون مع الإخوان في البلد الأم، فقد "قيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان"[13] فكل فرحة خارج الوطن وبعيدا عن الأهل هي فرحة ناقصة. ورغم ذلك يحاول المغتربون في الرواية أن يحيوا تقاليد بلادهم حتى وهم بأرض غير أرضم.

يتجلى توظيف التراث في الرواية على عدة مستويات:

أ. على مستوى الحوار

أتت الروائية على استخدام الحوار العامي كنوع من الحنين والرغبة في الحفاظ على كل موروث سواء كان ماديا أو معنويا، وقد حرصت على ألا يؤثر هذا التوظيف على جمالية الرواية، فاكتفت بجمل قصيرة باللهجة الجزائرية وبشكل معتدل، بحيث يعكس مدى رغبة العائلات المغتربة في المحافظة على كل ما له علاقة بالوطن الأم؛ بدءا بالمحافظة على الشعائر الدينية، والتخاطب باللهجة المحلية، إلى العادات والتقاليد.

ومن أمثلة الحوارات التي تضمنت العامية، قول الأم فاطمة لابنها سفيان: "خلينا نشوفك زيدان الثاني"[14]، وعلى لسان الجدة لنعيمة: "الله يبارك بنتي لعزيزة. يا الشاطرة ربي يحميك"[15]، وعلى لسان عمة نعيمة: "جدتك كانت تحبك بزاف"[16]، وفي موضع آخر تقول نعيمة لأخيها سفيان: "تمام أخي، الله يخليك أخي الغالي"[17].

بالإضافة إلى الحوارات العامية نجدها تدرج أيضا بعض المقاطع من الأهازيج أو المدائح التي تردد في الأحزان وفي الأفراح كما ورد في المثالين:

"أغمضت عينيها لتتذكر صوت جدتها خديجة وهي تغني لها رائعة قولوا لأمي ما تبكيش.

فعلا قولوا لأمي ما تبكيش. مستحيل بنتك ما توليش"[18].

"تردده فاطمة بصوتها الرخيم والكل ينصت بشغف:

"محمد محمد صلوا يا أمة عليه. صلوا يا أمة عليه. سيدنا وحبيبنا يربح من صلى عليه"[19].

ب. العادات والتقاليد

حرصت الكاتبة إلى جانب توظيف العامية على حضور التراث أيضا تجلى ذلك وبوضوح من خلال العادات والتقاليد، أين استفاضت في وصف طقس من طقوس الأعراس الجزائرية، بكثير من الاعتزاز والحنين، تقول نعيمة: "وحده الزّٓي التقليدي الجزائري ما يسعدني، لا أريد شيئا آخر... لروح جدتي الغالية سأرتدي الزِّي الأمازيغي، ولجماله وأناقته سيكون العاصمي عنوان افتخاري، رسالتي هذه الليلة ثقافتي التي سيكتشفها أهل أسامة. أمي، أريد أن تكون ليلتنا جزائرية، أحلم بالحناء وموالها الجميل. كلما كنت أستمع إلى نساء العائلة يرددن موالها يقشعر بدني وهن يصلين على سيدنا محمد والعروس تمد يدها لتمتلئ بنور الحناء ووشمها الشرقي"[20]، هذا المزيج الجميل بين الزي التقليدي الجزائري والأمازيغي رمزت من خلاله الكاتبة إلى التراث المشترك الذي يحاول البعض أن يجعل منه فتيل خلافٍ بين العرب والأمازيغ، غير أن الجزائر بعظمتها تستوعب كل أنواع الطقوس وتضمها جميعا رغم اختلافها، بل على العكس من ذلك، فإن كل السر يكمن في هذا الاختلاف بحد ذاته.

ومن طقوس الأعراس الجزائرية إلى طقوس جلسات الشاي المسائية العبقة، كانت هي الأخرى حاضرة بديار الغربة، من خلالها يمتد شريان الحياة في جلسة كالتي وصفتها الكاتبة في هاته الفقرة: "على طبق المسمن، ذلك الملفوف المصنوع من العجينة الرقيقة تجتمع فاطمة بجارتها وصديقتها الوحيدة سيدة. بإبريق الشاي المشبع بالنعناع الطازج تتزين مائدة المرأة العربية في زمن الغربة، تفضي فاطمة بهمومها وأحزانها على مسامع هذه المائدة الشرقية"[21]، "على كأس شاي ساخن بالنعناع الأخضر تمر سهرة تستمر حتى منتصف الليل بين صديقتين جمعتهما الغربة لتشهد سماؤها على نعمة المحبة بين منطقة المغرب العربي الجميل بروحه وعاداته المتشابهة"[22]. مثل هاته الجلسات هي عنوان للمحبة بين الجيران والأهل، يتبادلون فيها أطراف الحديث، يتذاكرون الأخبار، يفرغون جعب همومهم ثم يفترقون وقد خففت الفضفضة كل تلك الأوجاع ونفضت بقاياها على تلك المائدة لتعود كل واحدة بروح أخف وأهنأ. عادةٌ لم تشأ فاطمة اندثارها أو التفريط فيها، فظلت تتبادلها هي وجارتها سيدة، بمناسبة أو بدون مناسبة.

الأمر نفسه على مائدة غذاء تقليدي، تقول صبرينة لصديقتها نعيمة: "أخبرتني ماما أنها حضرت لنا طبق الكسكسي بالخضار وهي تنتظرنا كي نتناول الغذاء سويا"[23]، الدعوة إلى الغذاء من خصال وتقاليد المغرب العربي ككل، ربطته الكاتبة هنا بمحاولة للصلح أو تخفيف النفوس، فسيدة كانت قد وعدت بمساعدة صديقتها فاطمة حين رفض والد نعيمة عودتها للمنزل، بل وطردها عندما عادت من الجامعة، كانت الدعوة على الغذاء بمثابة استمرار لتقاليد ألفناها، خصوصا لفك النزاعات الأسرية، وسيدة أرادت أن تجد حلا لصديقتها من خلال دعوتها على طبق عريق، طبق تشترك فيك الدول المغاربية وإن اختلفت طريقة إعداده، في إشارة ذكية حاولت الكاتبة أن تمد جسور التواصل بين البلدان الثلاث (تونس، الجزائر، المغرب) وبين شعوبهم التي تتداخل فيما بينها.

تعد "المادة التراثية بما تحمله من زخم معرفي وفني وأدبي، أهم رافد يتكئ عليه الخطاب الفني المعاصر عموما والسردي منه على وجه الخصوص، فباعتباره نتاج حقيقة زمنية ماضية، فهو يعكس سياقات فكرية تتنوع بين الفلسفية والدينية اللغوية فالأدبية، مما قد يحقق له صيرورة الانفتاح على أزمنة لاحقة تخافها عقول تعي ضرورة تأصيل الحداثة بالعودة المستلهمة لما صلح من التراث"[24] وهو ما سعت إليه الكاتبة من خلال توظيفها للتراث الذي لم يكن توظيفا اعتباطيا أو جزافيا وإنما كان نابعا من ذات تعي قيمة التراث وأهميته في بناء المجتمعات دون أن تضطر للانسلاخ عن أهم مكوناتها.

3. معركة الذات وتقرير المصير

تعيش الذات حالة من التشتت وعدم الاستقرار كلما أحست أنها في صراع حول مدى قدرتها على إثبات هويتها أو أنها تواجه خطرا خارجيا يهدد تلك الهوية فتلجأ إلى محاولة حمايتها والمحافظة على كينونتها وذلك من خلال المحافظة على مقوماتها الأصلية والتشبث بجذورها حتى النخاع.

إن الاغتراب عن الوطن كفيل بجعلنا نشعر باليتم والضياع، ونحن نقف وجها لوجه مع حضارة لا تشبه حضارتنا، مع أناس لا تربطنا بهم رابطة غير تلك الرقعة الجغرافية التي نتشاركها وتلك اللغة التي نجبر على التواصل بها معهم. لكن تظل جذورنا ممتدة نحو الوطن ويظل الحنين يقبع داخل أعمق مكان بالقلب وبالروح، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن البعد عن الوطن والحرمان منه يقوي صلتنا به أكثر، فنحب كل شيء فيه حتى تلك الأشياء والممارسات التي كنا يوما ما لا نهتم بها، سنشتاقها، نحاكيها، نستحضرها بحنين وحزن كشخص عزيز غيبه الموت، "ذلك أن تجربة الاقتلاع من الأرض الأم، والعيش في مكان آخر يدعّم الإحساس بالهوية، بل يحفز أكثر الشعور بالحنين، وبالحاجة إلى الاحتماء بالهوية الأصلية"[25]. غير أن الهوية أيضا قد تقع في بعض المطبات التي تجعل المغترب لا يستطيع استيعاب قوانينها، حين يحاول هذا الأخير تبني ثقافته الأصلية داخل وسط مختلف ثقافيا فلا يتمكن من السير بالطريق الصحيح، الأمر يتعلق بالموروثات التي نكتسبها بطريقة سلبية تعيق تقدم الفرد بدلا من تطويره، وهو أمر ورد في مواضع كثيرة من الرواية، سنكتفي بذكر مثال لذلك، حين راح الأب نور الدين يحاول تكبيل طموح أبنائه دون أن ينتبه إلى أنه بدلا من حمايتهم راح يضيق عليهم الخناق باسم هذا الموروث، تقول نعيمة: "قلق والدي علينا من الوقوع في دوامة الانحراف الخُلقي أوقعه هو بدون أن يشعر في ظلمة غول اسمه الخوف، لا أنكر أنه بذل كل ما في وسعه لتربيتنا أحسن تربية، لكن طريقته في التعامل معنا كانت قاسية، وتلك القساوة كانت قادرة على جعلنا نكره الشرق وثقافته لولا أمي التي تخرجت من الجامعة متحصلة على ثقافة واسعة في مجال التاريخ، ذلك الدور العقلاني الذي لعبته في منح ثقافتنا الوجه الجميل بهدوئها وقيمها النبيلة وحبها للدين هو الجسر الذي جعلنا نتعلق بعالم تمثله أمي في سلوكياتها وجمال روحها"[26].

نور الدين وفاطمة كانا غريبين في فرنسا، هذا الشعور جعلهما دوما في حيرة وقلق حول مصير أبنائهما، يحاولان دوما غرس الروح الوطنية الجزائرية والمبادئ التي تربيا عليها في بلادهما الأم "الجزائر"، وكأنهما بهذا يخوضان معركة حول تقرير المصير، ولا بد من التسلح لمواجهة ذلك. والتسلح كان بوسائل فعالة، انطلاقا من عناصر مهمة تحدد مصير الهوية، على رأسها:

أ. المحافظة على الدين الإسلامي

تقدم الروائية لنا هذا الصراع القائم بين هويتين؛ الأولى أصلية وهي الهوية الجزائرية، والثانية دخيلة وهي الجنسية الفرنسية، لم تغفل أبدا أن تبين لنا مدى حرص نور الدين وزوجته في المحافظة على الدين الإسلامي، رامية بإشارات وإيماءات تؤكد للقارئ ذلك، كقولها عندما أرادت نعيمة الذهاب لحضور حفل عيد ميلاد صديقتها: "كانت سعادة نعيمة لا توصف ووالدها يسمح لها بالذهاب لحضور عيد ميلاد إيزابيل. تحت وابل من الوصايا المتعددة والتأكيد على أداء الصلاة في وقتها"[27]، ففي هذا الظرف والمحيط الذي يطوق الأبناء المولودين بفرسنا لابد أن يكون هناك نوع من التكيف والوسطية في اتخاذ القرارات، لأن أي تزمت أو حرمان ستكون نتائجه عكسية، وبهذا لم يمنع الوالدان ابنتهما نعيمة من حضور حفل صديقتها، رغم تخوف الأم من إصرار نعيمة على الحضور الذي أشعرها بمدى الخطر القادم: "إصرار البنت جعل فاطمة تحس أن المعركة مع الحضارة الغربية قد بدأت. صراع سيأخذها إلى الواجهة التي تخاف فعلا أن تضطرها الظروف للوقوف على أعتابها. لقد رسمت أحلام عائلتها الصغيرة على حلة الشرق وكم هي خائفة من أن يهدم بريق الحياة الغربية هذا الحلم"[28]. غير أنهما وضعا لها شروطا على رأسها أن تظل محافظة على أخلاقها وتعاليم دينها الذي يدعو للطيبة في التعامل واحترام الشعائر الدينية ونبل الأخلاق، لتكون صورة صحيحة لدينها أمام صديقاتها.

في موضع آخر يرد الجانب الديني الذي غرسه الوالدان في نعيمة فتظل محافظة على صلاة الفجر حتى وهي بالجامعة، متخذة من الهاتف منبها يضبط مواعيد صلاتها: "بعد أداء صلاة الفجر، يتم تحضير فطور الصباح"[29]، ففي خضم الحياة الجامعية في باريس ورغم كل إغراءاتها تحافظ نعيمة وصبرينة على أداء صلاة الفجر في وقتها.

لا تغفل الكاتبة وهي التي تقطن بديار الغربة وتدرك جيدا مدى ضرورة المحافظة على ثوابت الفرد خارج الديار، لكن باعتدال فهي تدري أن "هناك مواقف في هذه الحياة تفرض علينا أن نغيّر بعض الأمور الثابتة في ذهنياتنا، معطيات تطفو على الواقع لنجد مبررا وأحيانا تسقط هذه المبررات أمام مسائل تتعلق بالثقافة والهوية والمنظور الديني، هذا المنظور الذي يقبل النقاش في جوهره لكن لدى البعض في محيطنا يظل هذا المنظور داخل إطار لا يقبل الحركة مهما تغيرت الظروف ومهما ارتبط المكان بذات زمن له من الخصوصيات ما يفرض فعلا فتح باب النقاش ووضع أسس جديدة لإطار علينا بتجديده كلما اقتضى الأمر"[30].

ب. حب الوطن والدفاع عنه

حب الوطن يظهر جليا لدى أبطال الرواية، لا سيما نعيمة التي سكنها حب الوطن فراحت تدافع عنه منذ نعومة أضفارها، حين أخبرتهم المعلمة أن الجزائر فرنسية، فردت على المعلمة أن الجزائر ليست فرنسية، ثم تخبر أمها التي أكدت لها ذلك قائلة:

"مصطلح الجزائر فرنسية مغالطة سياسية فقط، احتفظ الوطن بهويته وثقافته وتدينه، أخذوا الأراضي والخيرات لكننا احتفظنا بما في صدورنا من إيمان ولم نتخلَ عن أصالتنا أبدا. عليك بشرح هذا لجميع الجزائريين في قسمك ابنتي، لا تنسي"[31].

في الغربة على الجزائري أن يدرس، أن يجد، أن يثبت حضوره، هذا هو الحلم الذي حمله نور الدين وزوجته فاطمة، أن يحدث أبناؤهم الفرق بدراستهم، ألا يكونوا مجرد أرقام للآخر تشتغل بكنس أرضياتهم ومسح أحذيتهم، "تحقيق حلم نجاح الأولاد في أوروبا له طعم آخر، حلم سافر مع الروح ليحمل آهات السماء وعطش التراب وتاريخ استرداد الكرامة والعزة المسلوبة، على الجيل الجديد أن يكسر الفكرة الاستعمارية ويلغيها من الوجود، نحن لم نعد ملوك عربة اليد، لسنا من مروا من هنا ليحفروا الأنفاق ويكنسوا الشوارع ويغسلوا الأطباق ويجمعوا القاذورات، نبحث عن جيل يحمل النور ليعيد للجزائري كرامته"[32].

وفي ديار الغربة تصبح كل الأوطان العربية وطنا حتى وإن لم نقطنها، ففلسطين وطن الجزائري، وسوريا واليمن، ومصر، وتونس... كلها تغدوا أوطاننا. إن الغريب حقا هو ذلك الذي يسكن أرضا يدين أهلها بغير ديانته وثقافتها منقطعة عن ثقافته، وأما الأوطان التي تجري بها دماء العروبة وتنبض قلوبها بالإسلام، فهي وطن واحد على قول الشاعر "بلاد العرب أوطاني"، عكسته الرواية في تصويرها ليوم الصحفي أين راحت نعيمة تقدم في أحد أجنحة المعرض ما يقوم به الصحافيون لنقل الوقائع وفضح الطغاة في سوريا واليمن وغيرها عاكسة بذلك "كيف يساهم الصحفي بسلاحه السلمي في الدفاع عن الشعوب المظلومة وهو ينقل معاناتها، مثل الذي يحدث في سوريا واليمن، كانت نعيمة مع عدد من الطلبة يشكلون فريقا مهما في تسيير هذا الجناح الذي جلب العديد من الزائرين (...) وأما بيير بمجرد دخوله ساحة المعرض رابح يبحث عن الجناح الذي تشارك فيه نعيمة ليجدها تشرح صورا قام بتصويرها صحفي فرنسي تم قتله في سوريا سنة 2012، وهو جيل جاكييه الذي ساهم في نقل وتغطية أحداث الحرب والمآسي الإنسانية في سوريا والعراق وأفغانستان"[33].

هكذا حاولت الكاتبة أن تثمن روايتها بالجانب التراثي والديني والثقافي ليكون لها أثر بنفس المتلقي، وكي لا تكون مجرد سرد لأحداث تنسى فور انتهائنا من قراءتها، إن حب الوطن يسكن الكاتبة حد النخاع، ووجع الغربة ما ينفك ينخر القلب لينسكب عَبَرات على صفحات الرواية، فنقرأ حروفها ليزداد اعتزازنا بالوطن وبأبنائه الذين غادروه مكرهين لكنهم ظلوا له محبين مخلصين.

= = =

هوامش

1. الموج والحشيش، حياة قاصدي، دار الأمير، فرنسا،2021، ص 46.

2. تزفيطان تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة: عبد الرحمن مزيان، تحت إشراف ربيعة جلطي، الطبعة الأولى 2005، ص 78.

3. الموج والحشيش، ص 53.

4. الرواية، ص 54.

5. الرواية، ص 81.

6. الرواية، ص 84.

7. الرواية، ص 84.

8. الرواية، ص 153.

9. الرواية، ص 86.

10. سيميولوجية الشخصيات الروائية، فيليب هامون، ترجمة: سعيد بنكراد، تقديم: عبد الفتاح كيليطو، الطبعة العربية الأولى 2013، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية سورية، ص 76

11. استدعاء التراث في رواية "شبح الكليدوني" لمحمد مفلاح، إعداد الطالبتين أسماء لكلوكة وهدى محرم، إشراف فضيلة بوجلخة، كلية الآداب واللغات، جامعة الشهيد حمة لخصر، الوادي 2017-2018، ص 20.

12. الرواية، ص 55.

13. الحنين إلى الأوطان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، دار الرائد العربي، بيروت. لبنان، الطبعة الثانية، 1982، ص 38.

14. الرواية، ص 48.

15. الرواية، ص 54.

16. الرواية، ص 57.

17. الرواية، ص 70.

18. الرواية، ص 65.

19. الرواية، ص 222.

20. الرواية، ص 220.

21. الرواية، ص 129.

22. الرواية، ص 199.

23. الرواية، ص 132.

24. استدعاء التراث في رواية "شبح الكليدوني" لمحمد مفلاح، المذكرة السابقة، ص 31.

25. المحكي الروائي العربي، أسئلة الذات والمجتمع، كتاب جماعي تحت إشراف: منى بشلم، تقديم سعيد بوطاجين، دار الألمعية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2014.ص 141.

26. الرواية، ص 38.

27. الرواية، ص 22.

28. الرواية، ص 22.

29. الرواية، ص 155.

30. الرواية، ص ص 32-33.

31. الرواية، ص 19.

32. الرواية، ص ص 49-50.

33. الرواية، ص 124.

= = =

غلاف رواية حياة قاصدي

D 1 أيلول (سبتمبر) 2023     A فضيلة بهيليل     C 0 تعليقات