عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فداء زياد أبو مريم - فلسطين

فصول الدهشة ومحاولات النجاة

غزة: يوميات حرب الإبادة


فداء أبو مريميوم الجمعة السادس من أكتوبر [2023]

البيت على استعداد وفي حالة استنفار تامة. يستعد لحفل تخرج أول الأحفاد: زياد، المولود في البيت مساء يوم 17 أكتوبر عام 2001، وهو يوم تاريخي في احتفالات الذاكرة الفلسطينية، الحفل الذي كان منوي عقده مساء السبت، السابع من أكتوبر [2023].

زياد خريج كلية الإعلام من جامعة الأقصى، يحمل في رحلة نزوحنا روب التخرج، والبشت الخاص به، وكل أزيائه اللازمة لجلسة التصوير يومها.

الحرب لم تُتم الاحتفال بأول الأحفاد. بدأت، وقصفت الطائرة كل منصات الاحتفالات بالجامعة، وقتلت فرحة زياد وكل زملائه الذين استعدوا لأسابيع لحفل يجمعهم بأهلهم، وإن كان الطريق إلى سوق العمل صعبا، لكن الفرحة أقوى من أي منغص بهذه المدينة، أو كما أنصح أصحابي دائماً: «يا سيدي اشتروا الفرح بالعملة الصعبة».

مع نهاية يوم السبت، لم يكن هنالك فرح، ولا حتى عملة سهلة لمقايضته.

* * *

الثالث عشر من أكتوبر

همس لي أخي يومها: انهار كل البيت. لم أتمالك نفسي لحظتها. شعرت وكأن ركام البيت فوق رأسي. الشرط كان ألا نخبر أبي، فهذا شقاء عمره الطويل. بني بكل الحب الذي نبت في مخيم قبل سبعة وأربعين عاماً بينه وبين أمي.

لحظتها شعرت وكأنني خنت أمي. لم ألحق أن آخذ معي من البيت ثوبها الذي أعتز به، وصورتها المعلقة على حائط الصالون. ليست أصعب من الفقد سوى خيانة الفقيد.
وحين إغفاءة سريعة، زارني طيف أمي ولمست كتفي، كأنها تطبطب على جرحي الذي عاد، وكأنني فقدتها للتو.

صحوت من إغفاءتي وأنا أغني أغنية أمي المفضلة في كل عرس: «تعلى وتتعمر يا دار».

اتصلت بإخوتي وأبناءهم، وعاهدتهم أن أحكي عن أحلامهم وأحلامي ومسار حياتنا، وكنا نسميه «عش الدفء»، فجميع أصدقائنا، منذ نشأنا حتى صار لأبناء إخوتي أصدقاء، يقف بالباب حين الوداع ليخبرنا بجملة واحدة: «بيتكم مليان دفا».

وكأن هذه الجملة ميثاق حفاظ على رواية هذا العش، هذا البيت.

* * *

الثالث والعشرون من أكتوبر

تنافس إخوتي بتسمية أبنائهم على اسم أبي «زياد»، فصار في البيت ثالوث: زياد أبي، وزياد الحفيد الأكبر، والثالث هو زياد عبد القادر، حامل اسم أبي كاملاً، والمولود في البيت ذاته يوم العاشر من أيار عام 2018. أتم قبل خمسة أشهر عامه الخامس، واحتفلنا بعيده بأحد أيام التصعيد المكررة في غزة هذا العام، وقد أهدته إحدى عماته «سكوتر».

حين قررنا الإخلاء، لم يكن في الحقيبة متسع لحمل السكوتر. اتصل زياد بي بصوت باك. قال لي: «نسيت سكوتري تحت الدار المقصوفة».

أجبته: «مش مهم. رح نرجع نشتري غيره».

لكنني الآن أحفظ عهد روايتهم، وأني أحمي أحلامهم وأحكيها. أشعر بوخز لثالوث زياد: أبي الذي نحاول أن نصدّقه أن المال معوض؛ وزياد الحفيد الأول، الذي يحمل تفاصيل فرحه المؤجل في كيس إلى جانب حقيبة الإخلاء؛ وزياد الثالث حامل اسم أبي كاملاً ينتقل بين بيت وبيت دون لعبته المفضلة «السكوتر».

أريد أن يصدقوني وأن أصدقهم بأن هذا سيمر. المهم أن نكون، وبعدها نهيئ صفة التكوين «بخير».

D 1 آذار (مارس) 2024     A فداء أبو مريم     C 0 تعليقات