عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هبة محمد الآغا - فلسطين

إلى مدينة مختلفة


هبة محمد الآغاشتاء مجنون، وبردٌ هرم، يتسلل إلى بيوتنا الحالمة بالدفء، الخالية من المصابيح، المحترقة بينها وبين نفسها، والتي _رغم كل شيء_ تغني في آخر الليل أغنية النوم الطويل، وتحلم بكلام غير مفهوم.

لا يعرف أهل مدينتي رجل الثلج أبداً، فهم منذ أن خلقوا في هذه المنطقة، وهم لا يرون إلا الريح والمطر، وإذا ما حالفهم الحظ فهم ينظرون من نوافذهم إلى "البَـرَد" الذي يطرق أسطح "الزينكو" فلا يستطيعون فتح الباب للضيف المتعب. إنهم لا يملكون إلا حماية أنفسهم من البلل، لكنهم يعيشون على صخب المطر طيلة الشتاء، فصوت طرق المطر، يعني لهم موسماً حافلاً بالماء والزرع والحصاد.

يقطع هذه المدينة شارعان كبيران يمتدان من شمالها حتى جنوبها، ثم يلتقيان في منتصفها حيث تتفرع الحارات والزقاق والشوارع الصغيرة، وتتقاسم البيوت أنفاس المدينة ومصابيحها المتعبة التي تقف طيلة الوقت في انتظار القليل من الكهرباء، كي تستمد طاقتها مجدداً.

إنني أسأل نفسي دائماً: كيف تستطيع مصابيح الشوارع الصمود طويلاً؟

لا شيء يقلق هذه المدينة إلا أن تبحث عن طفلها الصغير فلا تجده، ثم تأتيها أخبار من هنا وهناك، أنه يقف على حدود البلاد، يحمل بندقية، ويرافقه أصدقاؤه الذين يمدونه بالشجاعة، ويحفظون له جميل المخاطرة، إن سقطت عليه قذيفة حمقاء لا تدري طريقها.

إنها مدينة تحسب حساب كل شيء، تصحو من نومها مبكرة، تفطر من عند "سليم" الفلافل والحمص، وتوصل أطفالها إلى مدارسهم، وموظفيها إلى أعمالهم، ثم تعود لتنام قليلاً حتى يستيقظ من تأخر عليهم الليل فناموا صرعى لأحلامهم، تصحو معهم من جديد، لتخبرهم بأنها اليوم نشيطة جداً، لدرجة تسمح لنفسها فيها بسؤالهم أسئلة أكبر من حجمهم.

أيتها المدينة العائمة على بحر من أحلام البسطاء، كم تحتاجين من الوقت لتحملي إلينا بشريات تخفف عنا وطأة الأسى، ومرارة الانتظار؟ كم من الوقت تحتاجين لتغلقي شبابيك الاثم في وجوهنا، ونقترب معاً من معبد نعتكف فيه من أجل البقاء أخياراً، لا نحمل في نفوسنا سواداً مغلفاً لجيراننا، ولا لبني عمومتنا؟
إن الكلام عن مدينة تعيش فينا، يختلف كثيراً عن مدينة نعيش فيها، إنها رغم شوارعها المتكسرة، وسوقها الذي ينتهي بكل أنواع القذر، ودكاكينها التي لاتجد فيها إلا بضاعة مغبرة، وخبزاً يابساً، تبقى مدينتنا "الأحب".

لماذا يقود الكلام دائما للحديث عن المدينة التي كنّا فيها ذات يوم، ولما نشعر بالحب تجاهها دون أن نفكر. أيصنع الحب فلسفة فيي معرفة المدينة؟

ألا تكون المدينة التي نغرق في حبها الآن هي ذاتها المرأة التي نحب؟ السيدة التي قاتلنا العالم لأجلها؟ ألا نكون مبالغين بعض الشيء إن قلنا إن مهر المدينة أغلى بكثير من مهر امرأة؟ أم أن السيدة التي ستدخلنا في عوالم جديدة، تستحق مهراً اكثر بكثير من مدينة اعتدنا وجهها وصمتها ونحيبها، وشقاءها، وما عادت تدخلنا في "دنيا" كما تفعل أي امرأة فيها؟

حين سألتهم آخر مرة عن بحرها في الشتاء، قالوا لي : إنه يرقص كل ليلة على وقع الريح، ويغازل السفن الآتية إلى شواطئه، إنه يتفلسف دائماً ويقضي معظم وقته مترنحاً متمدداً متفرجاً على آهات الناس.

وبينما يفتش في دفتره الأزرق عن رسائل حبه القديمة، وجد الحبيبة الأولى قد خطت مكتوباً بيدها المكسورة، على ضوء الشموع، والحبر المنسكب، كتبت فيها "إنني أحترق".

لم وعد البحر مدينتي بالزواج؟ هل كانت تعرف أن زواجها منه تتويجاً لأمان طال انتظاره، أم هل كان انتظار البحر لمدينتي سنيناً طويلة كي تنضج وتصبح فتاة المكان الأولى، مبراً لوعده بالزواج؟ إنه لم يعد يعرف الآن كيف يمكن أن يبرر لها صمته الطويل، ووعوده المؤجلة، ومسرحياته الهزلية.

أمام عينيه سقطت في البحر الأحمر القاني، وأمام عينيه وقفت من جديد، وأمام عينيه غرقت في الظلام.

المجنونة صارت تحبُ رجال المدينة كلهم، ليس لعهر فيها، إنما انتقاماً لرجل أهمل أنوثتها وانتظارها الطويل. وصار كل الرجال يهيمون فيها، ويضحكون عليها أحياناً، ويبتسمون لها بخبث، و"هي" تحترق وتضيع ملامحها الأصيلة في ثورة الماكياج وظلال العيون.

وحين كان الوطن يشنق الوطن، وحين كان يقتل الوطن الوطن، كانت تختبئ خلف كومة من الأحلام، وتستر جسدها بثوب شتوي مهترئ، وفي اللحظة التي كان يجمع فيها كل رجل ما تبقى من أحلامه السياسية، كانت مدينتنا تنظر بعينها الواسعتين إلى ذلك الرجل الواقف هناك بعيداً، وترسم في فضائه لوحة الدماء المشهورة.

D 25 آذار (مارس) 2012     A هبة محمد الأغا     C 5 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • المدن لها فلسفة عجيبة، فهي تعيد تعريف الحب والعشق كما تشتهي هي لا كما نشعر نحن. المدن تقسو وتحنو بنفس اليد وبنفس القلب، كالام. وكذلك لا نملك سوى ان نحب مدننا أكثر كالام كذلك.
    سلمت على هذه اللوحة الرائعة التي رسمتها بالكلمات.


    • صدقت يا محمّد فكما أنشد المطرب الأصيل محمّد عبده الأماكن كلّها مشتاقة لك .. الأماكن اللي التقينا احنا فيها عايشة بروحي وأبيها.. الخ.. للأماكن صدى يلحننا وننشده بقصدأو على سهوة ومن سخريّة الأقدار أحيانا حنيننا لأماكن ماظننا اننا سنطيق العيش فيها وفجأة يطرق باب العقل والقلب والروح مجهول ما يجعلنا ننشّد اليها شئنا أم أبينا, نص جميل وتعقيب جميل.. تحيّاتي

  • مدننا وعبقها الذي يجتاح مشاعرنا ليترجم العلاقة الحميمة التي تربطنا بها، وتلصقنا بارضها.
    تستهوينا الاماكن التي تستنشق ارواحنا فيها اريج الزمن الماضي و الحاضر الذي لا تنتهي تفاصيله.
    قد نتافف احيانا من نواقصها، ننتقدها، نهجرها، لكن ابدا الحنين اليها لايأفل.
    فصدق انتمائنا للأرض، بنكهتها، ببصماتها، بخصوصيتها، يحكي قصة حبنا الحقيقي للمكان..فالمدينة هي الوطن..


  • هبة محمد الآغا من مدينة مختلفة حقاً..؟ لغةٌ راقية، محبوبة ومُعَبِّرة كثيراً، خاصة حينما يأتي الكلام أواخر الليل، ويعرّي مشاعرنا.. هي باقة جميلة من عذب الكلام


  • الأخت الفاضلة هبة الآغا: جمعت مدينتك المختلفة بين لوحة كلاسيكيّة مألوفة ولوحة سيرياليّة متعددة الأوجه لكنّها تمس الوجدان بشفافية عالية وفكرة التعامل مع المدينة كامراة اعجبتني جدا فيها لفتة غير مسبوقة بالطريقة التي طرحتها النص بمجمله رائع لكن أكثر ما أعجبني المدينة التي نعيش فيها والمدينة التي تعيش فينا فهذه الجملة يحكى فيها وعنها الكثير, كذلك مرورك السهل الممتنع بالحبكة السياسية التي لاتخرج القارئ من نشوته بالنص اتمنى لك النجاح والتوفيق دوما وان تكوني في مدينة تحيا بك وحياتك لاتكون الاّ بها..


في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 70: الإعجاب الإجباري

ابنُ الخَطــيب الأندلسي وإحاطــته

الارتحال عبر ذاكرة الاعتقال...

الشخصية في صيادون في شارع ضيق