عدلي الهواري
كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك
من الواضح أن الدول الغربية لا تحترم أرواح أو عقول الجماهير العربية تحديدا، وجماهير عموم ما يعرف اصطلاحا بالعالم الثالث أو الدول النامية أو الجنوب العالمي. لذا يريد الساسة والعسكر والإعلاميون والتجار وغيرهم أن نصدق أنهم الخبراء في كل شيء، حتى ما يتعلق بما نعيشه ونعايشه ويؤثر علينا، وما تراه أعيننا. وصلت الصفاقة حدا لا يقبله عاقل فيما يتعلق بما يجري في غزة، إذا لا مجال لوصفه وصفا صحيحا سوى أنه حرب إبادة أعلن الساسة والعسكر الإسرائيليون النية على شنها، وهي لا تزال مستمرة حتى وقت نشر هذه الكلمة.
وهنا أدعو كل قارئ وقارئة إلى التعرف على ما تقوله "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، وهي اتفاقية سارية المفعول منذ عام 1951. واستخدم في التعريف ترجمة إلى العربية منشورة في قسم وثائق حقوق الإنسان في موقع جامعة منيسوتا الأميركية[1]، ولكن نصها متوفر في مواقع أخرى. تعرّف الاتفاقية الإبادة الجماعية في المادة الثانية على النحو التالي:
::
"تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة،
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة،
(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا،
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة،
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
الأفعال الثلاثة الأولى واضحة وضوح الشمس في غزة. والفعل الرابع ينطبق جزئيا أيضا، فالحوامل من بين ضحايا القتل، ومن لا تُقتل فإنها والجنين في خطر نتيجة عدم توفر الرعاية الطبية، مثلهن في ذلك مثل بقية أهالي غزة.
والمشاركة المباشرة ليست وحدها ما يستوجب العقاب في الاتفاقية، فالمادة الثالثة تعدد خمسة أفعال تستدعي معاقبة من يرتكبها، وهي:
::
(أ) الإبادة الجماعية،
(ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية،
(ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية،
(د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية،
(هـ) الاشتراك [التواطؤ] في الإبادة الجماعية.
وتحدد المادة الرابعة من الاتفاقية الفئات التي تستحق العقاب نتيجة انطباق أحد البنود الخمسة عليها:
::
"يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية أو أي فعل من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة، سواء كانوا حكاما دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادا."
من خلال بنود المادة الثالثة أعلاه، بوسعنا كمواطنين عاديين أن نحدد من يمارس الإبادة الجماعية بشكل مباشر، ومن يتآمر من أجل ارتكابها ومن يحرض على ارتكابها. ترجمة البند (هـ) أعلاه لا توصل المعنى الدقيق لنص البند بالإنجليزية وهو (Complicity in genocide)، والأدق أن يقال التواطؤ في الإبادة الجماعية. وبناء على هذه الترجمة الأدق بوسعنا كمواطنين عاديين أن نحدد من يتواطأ في الإبادة الجماعية.
ليس لدى أي مواطن في غزة ذرة شك في أن ما يتعرض له أهالي القطاع هو إبادة جماعية صار التضور جوعا جزءا منها. وكان معروفا قبل بدء المجاعة أن الجوع والمرض سيكونان من أدوات الإبادة الجماعية نتيجة الإعلان عن حرمان غزة من الماء والمواد الغذائية والكهرباء والوقود، إضافة طبعا إلى تدمير وقصف البيوت والمدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد بالأسلحة المختلفة، وإطلاق الجنود والقناصة النار على العزل حتى في حالات رفع الراية البيضاء، وإرغام المعتقلين على نزع الملابس إلا قطعة واحد تستر العورة رغم أن فصل الشتاء لا يزال في ذروته.
وليس لدى أعداد لا تحصى من أصحاب الضمائر الحية في مختلف أنحاء العالم أن ما يجري في غزة هي إبادة جماعية، فالمظاهرات والأشكال الأخرى من الاحتجاج والمطالبة بوقف إطلاق النار لا تتوقف رغم مرور أكثر من أربعة أشهر حتى الآن على حرب الإبادة.
مثلما ظنت إسرائيل أنها بمنأى عن اتهام إحدى دول العالم لها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وإذ بها تفاجأ بدعوى جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية في لاهاي، واقتناع المحكمة بأن هناك أسسا تكفي لقبول النظر في القضية، هناك حاليا "حكام دستوريون أو موظفون عامون أو أفراد" يظنون أنهم بمنأى عن اتهامهم حاليا أو في المستقبل بانطباق أحد البنود الخمسة أعلاه عليهم.
إن تهمة الانتماء للحزب النازي في ألمانيا لا تزال وصمة عار تلاحق من تنطبق عليه، مع أن الحرب العالمية الثانية انتهت في عام 1945. في شهر أيلول (سبتمبر) 2023، استقال رئيس البرلماني الكندي، أنتوني روتا، نتيجة استضافته نازيا في إحدى جلسات البرلمان [2]. وفي عام 2020 رحّلت الولايات المتحدة إلى ألمانيا أحد حراس المعسكرات النازية مع أنه كان وقت أمر الترحيل تجاوز عامه التسعين[3]. وفي عام 2021، حاكمت ألمانيا نازيا رغم بلوغه من العمر مئة سنة[4].
هذه الدول التي تعاقب النازيين بعد كل هذه السنوات تمارس حاليا النفاق وازدواجية المعايير، فهي لم تسارع إلى الحيلولة دون وقوع الإبادة، أو وقفها بسرعة. ويريد حكامها أن يقنعونا بأن هناك إبادة مقبولة، وأخرى مرفوضة.
الدول والمسؤولون والأفراد الذين من المحتمل أن تنطبق عليهم أحد البنود الخمسة أعلاه عليهم أن يفكروا في المستقبل، وألا يعولوا كثيرا على بقاء أحوال العالم كما هي عليه الآن. في أوج انتشار الفاشية والنازية يظن المنتمي إليها أنه منتم إلى تيار يستمد منه قوة وعظمة وأهمية. وبعد أن هزمت الفاشية والنازية، تحول الانتماء إلى وصمة عار لها أحيانا عواقب مثل الخضوع إلى محاكمة والسجن والترحيل.
على مستوى الأفراد، قد تكون مسؤولا كبيرا الآن، ولكنك بعد عشر سنوات قد تكون تقاعدت وربما هاجرت إلى بلد آخر لتعيش فيه، فتجد نفسك مدعوا لمحاكمة نتيجة انطباق أحد البنود الخمسة عليك.
ورد في الأنباء أن الشركة اليابانية العملاقة (Itochu) أوقفت التعاون مع شركة الأسلحة الإسرائيلية (Elbit) بعد قبول محكمة العدل الدولية الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا. هناك في اليابان من فكّر في المستقبل بعد بضع سنوات. لعنة الفاشية والنازية لا تزال فتاكة. وعار ارتكاب الإبادة الجماعية والتواطؤ في ارتكابها في غزة لن يكون أقل فتكا في المستقبل.
= = =
[1] نص "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها".
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/subdoc.html
[2] خبر استقالة رئيس مجلس النواب الكندي بسبب استضافة نازي.
https://www.cbc.ca/news/politics/speaker-anthony-rota-resignation-1.6978422
[3] خبر ترحيل نازي سابق من الولايات المتحدة.
https://edition.cnn.com/2021/02/20/us/nazi-guard-deported-trnd/index.html
[4] خبر محاكمة المسن النازي في ألمانيا.
https://www.cbsnews.com/news/germany-nazi-trial-camp-guard-josef-schutz-oldest-ever-convicted/
[5] خبر وقف شركة يابانية التعاون مع إسرائيل بعد قبول محكمة العدل الدول قضية الإبادة التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل.
https://www.reuters.com/business/japans-itochu-end-cooperation-with-israels-elbit-over-gaza-war-2024-02-05/
◄ عدلي الهواري
▼ موضوعاتي
- ● كلمة العدد الفصلي 34: أعذار التهرب من المسؤوليات السياسية والأخلاقية
- ● كلمة العدد الفصلي 33: تنوير أم تمويه؟
- ● كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها
- ● كلمة العدد الفصلي 30: النقد والمجاملات
- ● كلمة العدد الفصلي 29: عن الذكاء الصناعي (والغباء الطبيعي)
- ● كلمة العدد الفصلي 28: الورق والتمويل: وصفة الانتحار البطيء
- ● كلمة العدد الفصلي 27: الموارد الرقمية بين المكتبات والمواقع المفتوحة: مقارنة
- [...]
1 مشاركة منتدى
كلمة العدد الفصلي 32: حكّم/ي عقلك وأصدر/ي حكمك, منال الكندي / اليمن | 27 شباط (فبراير) 2024 - 06:51 1
الدول الغربية لا تحترم عقولا أو لا تعترف أساسا بأن في العالم الثالث من لديه عقل. هي تعتبرهم وحوشا بشرية. أمّا الإبادة فهي تقوم بها منذ الحروب الصليبية. الغرب اخترع أبجديات حقوق الإنسان، والمحكمة الدولية، ومجلس الأمن، والأمم المتحدة ومنظماتها. كلها تحمل شعار وقوانين إنسانية بأهداف حق يراد به باطل. رغم هذه القوانين والشعارات والمنظمات، اشتعلت الحروب، وتاجروا بالإنسان ونهبوا الثروات.