عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 35: شتاء 2025 » حكايات البحث عن شقة

فنار عبد الغني - لبنان

حكايات البحث عن شقة


فنار عبد الغنيلم يكن في استطاعتنا أنا وزوجي شراء شقة جديدة في وسط المدينة، لذلك عزمنا على البحث عن شقة مستعملة، مساحتها معقولة وحالتها جيدة ولا تحتاج إلى الكثير من أعمال الصيانة.

وبعد أن اتفقنا أنا وزوجي على بعض الأمور، كلفنا أكثر من سمسار لمساعدتنا في ذلك. وكنت أنا بدوري أتعمد المشي في الأحياء القريبة من مسكني المؤقت في وسط المدينة بهدف البحث أيضا عن شقة، وقد وجدتها طريقة نافعة لأنني كنت أعثر بسهولة على شقق للبيع من خلال تصوير اللافتات الموضوعة على الشرفات والتي تتضمن عبارة «شقة للبيع» مرفقة برقم هاتف.

وخلال عملية البحث عن منزل حدث معنا عدة قصص غريبة، أحببت أن أكتب عن بعضها، وإليكم القصة الأولى.

شقة القاضي

وصلنا قبل الموعد المحدد من قبل السمسار الذي باشر عمله فور وصولنا. قلت له: «أنا التي هاتفتك على الرقم الموجود على اللافتة». هز رأسه وأشار لنا بيده كي نتبعه نحو مرآب البناية، ورفع عنقه بعد أن أنهى سيجارته الأولى وأشار بإصبعه: «هذا الموقف الخاص بالشقة المعروضة للبيع».

تفحصت المكان الغارق بالمياه والفوضى، ولفت انتباهي عبارة على الجدار الإسمنتي القديم: «موقف القاضي فلان الفلاني». المظهر الخارجي للمبنى يبدو أفضل من داخله.

بعد ذلك صعدنا إلى الشقة. كان المصعد ضيقاً لا يتسع إلا لشخصين فقط. صعدت أنا وزوجي وانتظرنا وصول السمسار الذي لا يضيع وقته أبداً.

فتح لنا باب الشقة الحديدي ثم الباب الخشبي. وكان خلال ذلك يسرد لنا مميزات الشقة الواسعة والمفروشة. مدخل الشقة كان عبارة عن ممر قصير يتوسطه كونسول كلاسيك عن يمينه حمام للضيوف حالته جيدة، وفي آخره قاعة كبيرة تضم طقمي صالون وغرفة سفرة تبدو غير مستعملة على الإطلاق، عكس طقمي الصالون. والقاعة الواسعة ليس لها إلا شرفة صغيرة واحدة تطل على الشارع العام حيث قرأت عليها لافتة «شقة للبيع».

دخلنا إلى المطبخ. كان ضيقاً وخزائنه الخشبية قديمة وألوانها قاتمة. أما محتوياته فقد افترسها الصدأ. لكن السمسار كان مصراً على أن المطبخ بكل ما فيه بحالة ممتازة. وقد ذكرني حاله بالمثل القائل: «من يشهد للعروس». لم نناقش الأمر معه، وتوجهنا لغرف النوم. كان عددها ثلاثا: غرفتان بحال جيدة، وغرفة رئيسية تحتوي على حمام خاص. والغرف الثلاث كانت مكتظة بشكل كامل حتى بأدوات التبرج وصور أصحابها وملابسهم.

سألت السمسار: «لماذا ترك أصحاب البيت ثيابهم وحاجياتهم؟»

أجاب: «الأولاد تزوجوا وكل واحد منهم في مدينة. والقاضي بعد تقاعده عاد وزوجته إلى ضيعته الجبلية حيث الهدوء والهواء العليل».

كان القاضي على صواب. لقد اختار مكاناً هادئاً غير مطل على شارع عام من الشرق، وعلى مستشفى ملاصق لبيته من الغرب حيث أصوات سيارات الإسعاف ومولد الكهرباء المركزي للمستشفى.

لقد انقطع الهواء عني بعد ذلك. لم أتمالك نفسي من الهروب بعد أن رأيت أسراب الحشرات الزاحفة تخرج من قيعان الأبواب الخشبية المهترئة، ومن ثقوب الجدران حيث اتخذت منها أوكارا. يبدو أننا اقتحمنا عليها وحشتها.

أومأت لزوجي بالمغادرة فوراً من البيت بعد أن شعرت بإعياء شديد، وأغمضت عينيّ وسددت أنفي من رائحة الرطوبة وهرولت نحو الباب.

كان صوت السمسار لا يزال يتغزل بمزايا الشقة التي حدد القاضي سعرها بشكل يستطيع تقسيمه بين أولاده حسب الشريعة الإسلامية، ويقول إنه لن يقبل بأي تخفيض في السعر لكيلا يؤثر ذلك على حصص الأولاد، إضافة إلى مبلغ خمسة آلاف دولار أمريكي ثمن أثاث الشقة المستهلك الذي هو شرط أساسي لبيع الشقة.

ونحن في الردهة، سمعت السمسار ينصح زوجي بالاستعجال بشراء الشقة، وأن عليه أن يتدبر أموره ويبيع سيارته وأن عليّ أن أطلب قرضاً من المؤسسة التي أعمل بها خوفاً من أن تباع الشقة لأحد غيرنا. وأضاف أن هناك مغترباً في ألمانيا يريد الشقة.

وظل يتحدث ويتحدث وأنا كنت أنتظر وصول المصعد بفارغ الصبر لأهرب من صوت المولد الكهربائي وأسراب الحشرات ورائحة الرطوبة ورائحة السيجارة العشرين للسمسار.

إلى اللقاء مع قصة شقة أخرى.

D 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024     A فنار عبد الغني     C 0 تعليقات