عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

وماذا بعد؟


زكي شيرخانأحد عشر عاما مرت منذ آخر مرة رأته فيه. يومها، دخلت عليه مكتبه متألمة حزينة. كان يجمع مقتنياته البسيطة واضعا إياها في علبة من الورق المقوى. سكرتيرة رئيس التحرير تجلس على كرسيه تكتب ما يمليه عليها.

= حاسوب متنقل، هاتف نقّال، عشرة أقراص مدمجة، منضدة، كرسي متحرك...

= أستاذ لا داعي لذكر الأثاث.

= دوّني كل ما موجود في المكتب، حتى الستائر، كل شيء. لا أريد أن أُتهم بسرقة ولو بلاطة أرضية.
ضحكت.

= لست بالمازح معك. أطبعي القائمة بنسختين موقعتين من قبلك، نسخة لي، ونسخة لكم، واستلمي كل ما مدون.
انتبه لوجودها بعد أن رفع رأسه. أشار برأسه أن تغادر. غادرتْ.

على مدى الأعوام الأحد عشر، سألت عنه كل من عرفه. زملاء العمل، الأصدقاء، حتى جيرانه الذين أعلموها أنه انتقل منذ أكثر من عشر سنوات إلى مكان لا يعرفونه. هي متأكدة من أنه لا يستطيع ترك البلد العاشق له حتى النخاع. يعتبر نفسه نبتة في طينه إن أُقتلع مات. لم تجد له مقالا في أي صحيفة من الصحف التي انتشرت مثل فُطر طُحلُبيّ. كأنه ذاب في هذه الأوضاع الغريبة. لم تستطع تفسير إحساسها باستبعاد موته. ظل الأمل ملازما لها في لقائه ولو مصادفة، والصدفة خير من ألف ميعاد كما هو الدارج بين الناس.

ظهيرة أحد الأيام دخلت محلا لبيع الكتب التي اعتادتْ أن تتردد عليه لشراء ما تحتاجه. زبونة يوفر لها صاحب المحل حتى الكتب النادرة. بعد تحيات المجاملات بينهما سألته عن أربعة كتب. جلست على كرسي في انتظار جلبها من الرفوف. لمحت رجلا جالسا على كرسي يقابل كرسيها، منحنيا يقلّب أوراق كتاب على فَخْذه، يكاد ذقنه يلتصق بصدره. عاد الرجل ومعه الكتب. قبل أن تسأله عن الثمن، نهض الرجل من كرسيه وقد طوى الكتاب. بُهِتتْ عندما رأته.

= أستاذ معتز.

لم يجبها. نظر إليها مليا.

= أنا...

اكتفى بهز رأسه للأمام والخلف عدة مرات.

= وأخيرا، بعد أحد عشر عاما.

تناول عصاه. توجه إلى خارج المحل. تبعته، وسارت بمحاذاته. كان العرج واضحا على مشيته. سارا مسافة. بعدما لقيته من صدود في المحل، لم تشأ أن تحدّثه. أوقفته. أخرجتْ من حقيبتها دفترا صغيرا. كتبت رقم هاتفها، وعنوان بريدها الإلكتروني. اقتطعت الورقة، ودستها في يده.

= أنا بحاجة أن أفهم لماذا جرى لك الذي جرى، ولي أيضا، ولبقية الزملاء. اتصل بي هاتفيا، أو على الأقل دعنا نتراسل.
تذكرت أنها نسيت أن تأخذ الكتب، فعادت أدراجها. قال لها صاحب المحل:

= اعذري معتزاً، فمنذ الحادث الذي تعرّض له صار شخصا آخر. انزوى. قطع صلته بالجميع على ما أظن. أكاد أجزم أني الوحيد الذي يزوره. إن كنتِ مهتمة به، فعليك بالصبر.

* * *

بعد أسابيع استلمت رسالة نصية "عندما تجدين فرصة اتصلي. معتز". أدركتْ أنه لم يعد ذلك الرجل الذي عملت معه على مدى أربع سنوات كان فيها معلمها أكثر من زميل عمل. تذكرت نصيحة صديقه بائع الكتب. خمسة عشر عاما مضت مذ عرفته. أبدت اهتمامها به. أعجبت به. حلمت أن يكونا لبعض. كبرياء الأنثى منعها من البوح، أو حتى التلميح. راهنت على الوقت، لكنه غدر. بعدما انقطعت صلته بالصحيفة، لم تجد له طريقا. تزوجت من قريب لها. لم تنسجم معه. كل منهما من عالم متناقض مع الآخر. انتهت الزيجة بعد سنتين بالطلاق.
منذ رأته، استيقظ حلمها من سباته الذي طال. حلمٌ دفعت ثمنه مُسبقا. رسالته التي عصرها لتفقد اللياقة، جعلها تقرر

هدهدت حلمها ليعود لنومه. لم يطل ترددها. اتصلت به. بشكل حازم، وكأنها تفرض شروط استسلام منتصر، طلبت منه أن يلتقيا.

* * *

التقيا. لم يستطع أن يجد دافع الاتصال بها، ولم يستطع تفسير موافقته على لقائها. خلال عملهما معا، كان واضحا له أنها تحاول التقرب منه بشكل خجول، أو ربما بحذر كي لا يخدشها بقسوة ردة فعله التي لم ينجح في ترويضها. لم تكن غير مناسبة له حتى يتجاهلها. لم يعتقد أن الوقت مناسب للارتباط الذي يؤدي للذي لم يكن مستعدا له. يومها، كان رأسه مَلئاً بحلم مهني يحتاج لكل جهده ووقته لتحقيقه. بادرها:

= مما استغربتُ منه هو لا أنت ولا الزملاء فهمتم ما جرى. لم أعرف أنكم طُردتم من الصحيفة.

هل هي أمام معتز غير الذي عرفته؟ حتى إنه لم يجاملها بالسؤال عن أحوالها. الناس عرضة للتغير تحت ضغط الظروف التي يمرون بها، أو تقادم الزمن. هي الأخرى تغيّرت. فشلُ زواجها أثّر عليها، وغيّرها، ولكنها لم تفقد لياقتها كما هو عليه. هذا ما دار في ذهنها. لم تعلق.

= رئيس التحرير الجديد من مجموعة غير التي ينتمي لها السابق. أرجو أن تكوني قد انتبهتِ أني لم استخدم تسمية حزب أو تيار، لأنهم أبعد ما يكون عن هذه المعاني. ظن هذا الجديد أني من مجموعة رئيس التحرير المطرود، فأراد التخلص مني. لم أتوقع أن تشمل التصفية الكادر كلّه أو جلّه. هذه المجاميع، وبعد إعادة توزيع المناصب غِب كل انتخابات تجري، يبغون الفائدة لمن ينتمي لهم. هم لا يأبهون بالخبرة، والكفاءة، ولا بناء الكوادر. شعارهم "استفد من الفرصة، وحقق من المكاسب ما استطعت لك ولقطيعك".

= كنتَ أنت الأول ولكن ليس الأخير. طالت التصفية، تباعا، عددا كبيرا من الصحفيين وحتى الفنيين. وقبل أن يأتي دوري، قدمت استقالتي. وحسنا فعلتُ، فقد حصلتُ على وظيفة أفضل. أرجو ألا يزعجك سؤالي عن ساقك.
= بعد أشهر من عملي في الصحيفة، كان ذلك قبل أن تلتحقي بنا بسنتين تقريبا، انفجرت بي السيارة العائدة للصحيفة بعبوة لاصقة. نجوت بأعجوبة لم يصدقها أحد. بعد أن فصلتُ من العمل، كتبتُ مجموعة مقالات قاسية، هاجمت فيه الجميع، وأطلقتُ عليهم أقبح الأسماء التي يستحقونها بجدارة لا يدانيهم فيها أحد. أشرتُ لكل خطاياهم التي أكملتْ ما قام به من سبقهم للقضاء على الوطن. رد فعلهم كان أن اعترضني في مساء يوم وأنا عائد لمنزلي ثلاثة ملثمين. أطلق أحدهم أربع رصاصات. إحداها أصابت بطني من غير مقتل، وثلاث أصابت فخذي. لم أعد أستطيع السير من غير عكّاز. في فترة نقاهتي استلمت رسالة "في المرة القادمة ستستقر الرصاصات في رأسك". غيرت سكني. رقم هاتفي. اعتزلت الجميع. الموت نهاية المخلوقات، ولا يهمني أن أموت اليوم، أو غدا، أو بعد عشر سنوات؛ لكني لا أريد أن تكون خاتمتي على يد تابع معدم الوعي والعقل. مجرد آلة تُؤمر فتنفذ.

= أراك توقفت عن الكتابة.

= لا، لم أتوقف، وما أكتبه أبيعه. والمشتري ينشره باسمه.

دَهشة اعترتها.

= لا يحق لك أن تستغربي في ظل ظروفنا الغريبة، وزماننا الأغرب، وبلدنا العجيب، حتى نحن أصبحنا كائنات مُبهمة. عندي زبائن يطلبون موضوعا، اكتبه، أقبضُ الثمن، وهم أحرار في التصرف به، ينشرون بأسمائهم، لا ينشرون، هذا شأنهم. لا تسألي عن الأسماء. هم ما يوصفون بالسياسيين الذين يقودون البلد إلى الهلاك. وكذلك من يدّعون بأنهم محللون، واستراتيجيون، وخبراء.

= لكن.

= الطبيب يستوفي أجور فحص مريض. والحلاق يأخذ أجر قص شعر زبون، وهكذا دواليك. خدمة مقابل أجر. هذا ما افعله. أنا لا أخون ما أؤمن به. أسطري لا مدح فيها لهذا، ولا قدح بذاك. أحلل فقط. أضع أصبعي على جروح ملأت جسد البلد. انتقد خطايا ما زالت ترتكب بحق هذا الشعب. من يطلب مني أن أذكر فساد سياسي، أو وزير، أو نائب، فعليه أن يقدم لي أدلة موثّقة. بالمناسبة، ما أقوم به ليست بدعة ابتدعتها. هي موجودة في كل مكان. حتى خُطب الكثير من الملوك والرؤساء هناك من يكتبها لهم.

= إذن لم تعد مُعرّضا للخطر.

سَكَتَ، فأكملت:

= لم تعد تهاجم، ولا تشكل خطرا على أية جهة، فلم هذه العزلة؟

= تعودتُ عليها. أشعر براحة في ظل هذا الوضع، "لا أرى القرد ولا القرد يراني". لم أسألكِ عن أحوالكِ.
أطرقت برأسها. "أهذا الذي بحثتِ عنه أحد عشر عاما؟"، هذا ما دار في خاطِرها. تناولت حقيبة يدها. نهضت.

= سأجيبك في المرة القادمة، إن أتاحت لنا الظروف الغريبة فرصة ثانية للقائنا. اسمح لي. يجب أن أنصرف.
في طريق خروجها، حدّثت نفسها بصوت لو كان أحد قريب منها لسمعها بوضوح:

= كلّ شيء صار غريبا، نحن، زمننا، الأرض التي تجمعنا، ظروفنا، قيمنا، مفاهيمنا. وماذا بعد؟

D 28 آب (أغسطس) 2024     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات