عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 35: شتاء 2025 » الكائنات المجهرية وأدوارها غير الواقعية

د. نادية هناوي - العراق

الكائنات المجهرية وأدوارها غير الواقعية


نادية هناويالإدراك العاطفي سمةٌ تواصلية، فيها تجتمعُ الحواس بالفكر، والذاكرة بالكلام، والذات بالموضوع، والجسد بالعقل، والأنا بالآخر، فيكون التماثل الذهني بين الوعي الحسي والتعبير عنه عاطفيا متحققا بين الكائن المدرِك والعالم المدرَك ضمن حقل إدراكي عام. وما دامت الحواس مصدر الإدراك العاطفي، فإن للتخييل قدرة على المساهمة في صناعة هذا الإدراك الذي من خلاله تعرف الذات نفسها وموقفها من العالم. ولقد تنوعتْ صور الإدراك العاطفي عبر التاريخ، فكانت أولا مبثوثة في الخرافات والأساطير، ثم تشذبت في المتخيلين الشعري والسردي، وغدت لها مواضعات تتفاوت تبعا لطبيعة المذهب المختار أو الفلسفة المتبعة، فتارة تكون العواطف مثالية رومانسية، وتارة أخرى تكون موضوعية أو رمزية أو واقعية.

ويكثر توظيف الإدراك العاطفي في الأدب الشخصي كمذكرات وسير ذاتية ويوميات واعترافات ورسائل، فيسود صوت الأنا وتكون الذات مركزية بوصفها هي الساردة والبطلة، وهو أمر لا يقتصر على السرد الواقعي، بل يشمل السرد غير الواقعي أيضا، وفيه تكون الذات غير حية أو غير آدمية، ومع ذلك تتكلم بضمير الأنا معبرة عن مشاعرها لا بقصد وصفها، وإنما بقصد تقديم نفسها كائنا فاعلا يمتلك إدراكا عاطفيا.

ولأهمية العواطف، سعت علوم السرد ما بعد الكلاسيكية، وبخاصة علم السرد غير الطبيعي، إلى دراسة الفواعل غير الآدمية كالكائنات غير العاقلة والأشياء الجامدة، والبحث فيما تمتلكه من مدركات وحواس، بها تعبر عن ذواتها بشكل غير واقعي. وكما أن قوانين الجسد العصبية وأجهزته النطقية هي التي تحدد صور الإدراك العاطفي للعالم الواقعي، فكذلك يكون للفواعل السردية غير العاقلة والجامدة مثل ذلك في تصوير عوالمها غير الواقعية قوة أو ضعفا، توترا أو انبساطا، وبمألوفية أو لا مألوفية.

ومن موضوعات السرد غير الواقعي السفر عبر الزمان والأوبئة وقصص الأطفال والخيال العلمي. وتتنوع فواعل هذا السرد، لكن أهمها الجوامد وغير العواقل التي بالتخييل تصبح شخصية مسرودة أو ساردة مؤنسنة بالإدراك العاطفي الذي به تتمنطق أفعالها وأقوالها فتغدو واقعية.

ولقد تأثر السرد ما بعد الحداثي بالتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات، فوظف الآلة التي تحاكي الإنسان جسديا وعاطفيا وتمتلك تجارب إدراكية شعورية ولا شعورية مثله، مما دفع منظري علم السرد غير الطبيعي إلى دراسة هذا السرد وفواعله التكنولوجية، واختبروا قدرة الكائنات السبرانية على إنتاج إبداع أدبي وفني بآلية ذاتية وهل يمكن للربوت أن يشعر ومن ثم ينتج أدبا إنسانيا؟ [1].

وما تزال الأبحاث في هذا المضمار جارية في مخابر كبريات الجامعات العالمية، وليست الروبوتات سوى مثال من أمثلة لا حصر لها، فالسرد غير الواقعي ميدان واسع للكتابة، ويمكن تسويغ خيالية فواعله غير الآدمية بما يسبغ عليها من إدراكات عاطفية، فتصبح قادرة على التعبير: تحب وتكره، وتلتذ وتتألم، وقد تكون سلبية أو إيجابية، هجومية أو دفاعية، حانقة أو منتشية. وفي ذلك كله دلالة قاطعة على أهمية "الإدراك العاطفي" في عملية التخييل السردي، ومن ثمّ صناعة واقع لا واقعي محبك تحبيكا فنيا وبوجهات نظر محددة إزاءه.

وفي المنجز القصصي العراقي، بخلاف مثيله الروائي، كمٌ لا بأس به من نصوص سردية فواعلها غير آدمية، لكن توظيف الفواعل المجهرية كالجراثيم والفيروسات بدا جديدا على هذا المنجز. وعُرف مع مطلع القرن الحالي، ربما بسبب التطورات العلمية المتسارعة، أو بسبب امتلاك الكاتب تخصصية معرفية دقيقة، أفادته في التخيل العلمي لحياة هذه الكائنات وهي في عالمها المجهري. ليس ذلك وحسب، بل تقصّد بدراية وخبرة إضفاء "الإدراك العاطفي" عليها، فجعلها ساردة بطلة تتواصل مع محيطها على المستويين: الداخل نصي/البنائي، والخارج نصي/التأليفي، فهي تمتلك ماضيا تحن إليه، وتشعر بالزمن الحاضر، وتفكر بالمستقبل، وتنقد وتتخيل وتناجي وتتذكر إلى غير ذلك من الأفعال التي بها تصبح العواطف بمثابة استدلال ذهني على مقبولية المتكلم في السرد غير الواقعي، وأنه غير معطل، بل له انفعالاته اللفظية، وبها يكون هو المبئر لمنظورات الحيوات الأخرى المبأرة في وعيه سرديا. وبتحبيك الأفعال والأقوال، يصبح السرد غير الواقعي منطقيا ومسببا تماما كالسرد الواقعي.

ولعل قصة "يمين العدم يسار النفي" القصيرة للقاص حيدر موسى 2005 أوضح مثال على انعطاف القصة العراقية نحو كتابة سرد غير واقعي بطله كائن مجهري هو "حيمن" يسرد بضمير الأنا رحلته السرمدية من البدء/العدم إلى المنتهى/المنفى. ويستلهم الكاتب في كل مفصل من مفاصل هذه الرحلة معلومة علمية من معلومات عملية التخليق الفسيولوجي للأجنة داخل الرحم. ويبدأ من لحظة تكوّن الحيمن وسيره المندفع مع آلاف الحيامن وما يمر به من مسالك عسيرة، لا ينجو منها إلا أقل القليل الذي ما أن يبلغ قنوات معينة حتى ينفذ منها إلى الكيس/الرحم الذي فيه يتمخض الحيمن جنينا، ثم يخرج إلى الحياة وليدا.

وأثناء هذه الرحلة الوهمية المتخيلة، يكون الإدراك العاطفي حاضرا في وعي السارد/الحيمن وهو يحكي قصة كفاحه الأزلي من أجل البقاء معبرا عن معاناته، أولا كأنثى ثم يتحول بعد عدة مخاضات إلى ذكر. وتصاحب هذا التحول تداعيات حرة ومفارقات واسترجاعات ومنولوجات، تارة بضمير أنا المتكلم، وتارة أخرى بضمير المتكلمين. وكلما زادت الرحلة تعقيدا، غدا الحيمن كائنا مدرِكا أكثر مما مضى، فترى العواطف على لسانه وتصبح أكثر تدفقا وبصورة غير طبيعية من قبيل شعوره بالحنين والحب والتحدي والاطمئنان والخوف وغيرها. وما أن تحتدم عواطف السارد حتى تتصاعد الحبكة: "تأسرني نداءات نائية تسبب طولا لذنبي يتحرك بخفة في كل الاتجاهات من فتحات صغيرة جدا، فتقفز في رأسي صور هلامية تجعلني شاردة الذهن وحالمة بعالم بعيد، يشق عبابه، كائن لابط نحوي سريعا لأبادله الرسائل"[2].

ولقد حرص الكاتب على تقسيم قصته إلى مقاطع في إشارة إلى أنها رحلة ذات محطات زمانية ومكانية، وحرص على إعطاء كل مقطع عنوانا زمكانيا؛ وكانت أولى المحطات هي "الزمن بعد العدم الأول قبل النفي، والمكان مستنقعات الكيس"، وآخرها "المكان أعماق التراب الأحمر، الزمان لحظة الشروع في النفي الأبدي". ويساهم الإدراك العاطفي في بلورة وجهة نظر تعبيرية، فيها الحيمن كائن ككل الكائنات الحية: يكافح في خضم جدلية أزلية هي الحياة/الموت، متخذا من عواطفه سلاحا في مواجهة المخاطر، واثقا من قدرته على الصمود، وتتداعى مشاعره النفسية المعبرة عن رغبته في تحمل المعاناة وبلوغ المقاصد.

وتجدر الإشارة إلى أن الروائي سليم بركات هو السابق في توظيف الحيمن بطلا، وبفصل واحد من فصول روايته "فقهاء الظلام" 1985، ولكن المقارنة بينه وبين حيدر موسى في طريقة جعل الحيمن مكافحا من أجل البقاء، ستؤكد لنا أن حيدر موسى أكثر توفيقا من سليم بركات في أنسنة الحيمن، للأسباب الآتية:

= اكتفى بركات بجعل الحيمن بطلا ولم يجعله ساردا متكلما، وحجته أن لا فم للكائن ولكن له ذاكرة "الحيوان الزاحف في الظلام مهتزا يمنة ويسرة في الزلال الدبق وآلاف من الحيوانات البيضاء التي تشبهه تماما برؤوسها المستديرة وأذيالها الناعمة كالخيوط"[3].

= اعتمد بركات نسق التناوب في تسريد رحلة الحيمن تزامنا مع تسريد قصة الرجلين عفدي ساري وبافي جواني وكيف تصارعا فدخلا السجن. وعلى الرغم مما في هذا التناوب بين السردين الواقعي وغير الواقعي من رمزية، بيد أنه أثّر في انسيابية تحبيك قصة الحيمن من جهة، وشتت من جهة أخرى الفاعلية التخييلية التي لو استمر سردها ولم تقطعه قصة الرجلين لأضفت على رحلة الحيمن درامية، ولكان أكثر قدرة على الإدراك العاطفي لطبيعة معاناته والمخاض الذي عليه أن يجتازه.

= لم يولِ بركات العواطف غير الطبيعية اهتماما ليس لأن السارد العليم هو الذي تولى الكلام حسب، وإنما أيضا نسقية التناوب التي فيها تزامنت الأحداث دراميا فقلّ، استعمال الحوار بأنواعه المباشر وغير المباشر أو المونولوج.

= انتهت رحلة الحيمن من دون أية خيبة في أفق التوقع، أي بلا مفارقات بسبب تدخل السارد العليم الذي كشف في نهاية الرحلة عن مغزاها: "لقد وصل الحيوان المنوي الآتي من صلب ملا بيناف إلى بويضة برينا أخيرا، والمضغة التي التأمت ستنسخ بآلاتها الحمراء شخصا يدعى بيكاس"[4]. كان بالإمكان الاستغناء عن هذا التوضيح وترك الأمر للقارئ يسد فراغه.

ومهما يكن من توظيف القصة القصيرة الراهنة للسرد غير الواقعي، فإن "الإدراك العاطفي" يبقى مستجدا من مستجداتها الفنية والتقانية. ولكن ماذا عن الرواية العراقية الراهنة؟ هل وظفت السرد غير الواقعي؟ وما طبيعة توظيف الإدراك العاطفي في بنية الفواعل الساردة غير العاقلة والجامدة؟

ليس يسيرا الإجابة عن هذين السؤالين، بل إن أية إجابة تظل غير قاطعة بالعموم، لسبب جوهري هو أن هذا النوع من الروايات غير معروف عدده على وجه الدقة. بيد أن المتابع المتفحص والدارس المهتم بالمنجز الروائي العراقي لن تغيب عنه نتاجات تؤشر على نفسها بنفسها بسبب فرادتها. ومن ذلك "محنة كورو"[5] للروائية رغد السهيل، وهي مكتوبة على لسان فيروس هو سارد ذاتي غير واقعي، يمتلك كل المجسات التي تجعله متمتعا بالإدراك العاطفي وهو يسرد رحلته الوبائية من موطنه في غابات الصين حتى عودته إليها.

وتلعب العواطف غير الطبيعية دورا رئيسا في تحبيك السرد وبناء بروتوكول السارد الذاتي بوجهة نظر تعبيرية، فيها الفيروس فاعل ناطق يبئر المسرودات الآدمية من خلال مداركه الحسية. وما يجعل وجهة النظر تعبيرية، مجموعة خصائص كلامية ووسائل تلفظية ثابتة يكررها السارد الذاتي وبها يعبر نفسيا عن مشاعره وطبيعة إحساسه بموقعه على المستويين الذاتي والموضوعي.

وما ساهم في بناء السارد لوجهة نظره التعبيرية هو حرص الكاتبة على جعل المعلومة العلمية والمختبرية إطارا مرجعيا لأحداث الرواية، مما أضفى على الكائن الفيروسي معقولية، وجعل ملفوظاته التعبيرية منطقية، متمتعا بقدرات بشرية. ورغم أنه غير قادر على رؤية نفسه بصريا، فإن ما يكتنفه من مشاعر الغربة وما يتعرض له من عنف البشر "العمالقة"، أعطاه هيأة طبيعية ككائن مسالم يريد أن يتعايش متصالحا مع نفسه والآخرين. وكان دائم الترديد لمقولة إنه يحب من يضيفه ويسميه "حبيب". أما العالم بالنسبة إليه فمدرَك بالحواس التي اتخذ التعبير عنها شكل تمثيلات لفظية تدلل على ما يمتلكه من إدراك عاطفي، به عرف كيف يختار موقعه الآمن من هذا العالم، فتجنب كثيرا من العنف والاضطهاد.

تمثيلات الإدراك العاطفي

على الرغم من أن السارد الذاتي/كورو لا شكل محددا له، فإن حواسه لا تنفك تؤدي دورها في توجيه أقواله وأفعاله مكيفا نفسه بحسب الظروف: "حواسي هي السبب في محنتي"[6]. ولأن لكل حاسة موجهاتها، يصبح مجموع الموجهات سببا في جعل الكائن الفيروسي مدرِكا لنفسه وما حوله، فهو كل له بعض، يتفرق في كل مكان، يحسن الالتصاق بكل شيء حي وغير حي، يملك كالبشر لسانا وذاكرة، يتكلم ويتعلم ويتأقلم ويدافع ويتكيف ويفكر ويحب ويكره: "أتقنت فن الفرار من كل حبيب لا يحقق غايتي أو يتعمد إيذائي لأعانق حبيبا جديدا لعله يعيدني إلى وطني ورفاقي وينتشلني من غربتي فتكف عذاباتي، بينما يظل بعضي بينهم يعاني من ويلاتهم"[7].

ولقد اتخذت حواس كورو أدوارا تمثيلية مختلفة كشفت عن إدراكه العاطفي لحاله وما يعانيه في سبيل البقاء على قيد الحياة، فنقل لنا تجاربه المريرة وما مر به من تحديات ومنغصات توجت في نهاية المطاف بالنجاة. ويمكن تصنيف تمثيلات الإدراك العاطفي في وعي كورو إلى ما يأتي:

1. التمثيل العكسي: حيث الإدراك العاطفي عبارة عن مرآة عليها تنعكس معاناة العالم كله، ولان كورو هو السارد يغدو العالم مبأرا من خلال وعيه، ومشتركا معه في مسار نفسي واحد سلبا وإيجابا، ابتداء وختاما، سطحا وعمقا. وبالتمثيل الانعكاسي للعواطف تغدو وجهة النظر تعبيرية، تتكرر فيها مشاعر الغربة، التوتر، العدم، العزلة، الاكتئاب: "أصابتني عدوى سعادته حين غادر حجرته في صباح خدرتني برودته، ولامسني التوتر والارتياب بما يحصل فيها ولم يخب حدسي"[8]. وحين سمع اسمه لأول مرة وعرف أنه رقم، شعر باستفزاز كبير، وعكس هذا الشعور في متلفظات قولية ارتدادية هي بمثابة ردة فعل نفسية وقائية: "عزمت أن أحدثهم باللغة التي يفهمونها وأرد أرقامهم عليهم"[9]. وبهذه الطريقة الانعكاسية يغدو الإدراك العاطفي وسيلة دفاعية، بها يقاوم الكائن محاولات محوه أو تشويه صورته.

ويعد هذا النوع من التمثيل الأكثر توظيفا في الرواية موضع الرصد، نظرا لانسيابية تدفق المشاعر التي من خلالها أعطى كورو لنفسه صورة حسية، فهو يسمع ويبصر ويشم ويكره ويحب ويقنط ويعاني: "أنا الذي يبصر من دون عيون؛ يسمع من دون آذان؛ ويخطط من دون دماغ؛ تنمو خبراتي من دون ضجيج. أنا الذي يرى ولا يرى"[10]. وساعد استعمال التداعي الحر في جعل الإدراك العاطفي عاكسا إيجابيا للتصعيد السردي، أي كلما تداعت العواطف، احتبكت الأحداث وتقربت من الواقعية، فكورو ما أن يتشبث بمخلب إبهامه بالأشياء حتى يعبر عن شعوره بالغلبة والتميز، فهو يجيد القراءة ويتعلم أسماء الأشياء ويكتسب معارف ويخزنها في جيناته. وإذا شعر أن مضيفه العملاق يقوم بسلوك يثير حفيظته، فإن ردة فعله عادة ما تكون سلبية، كأن يعلن عن امتعاضه أو يكشف عن هواجسه مكررا تعبيرات لفظية محددة مثل "استغربت؛ تعجبت؛ اندهشت".

وكثيرا ما تكون ردة فعله العكسية انتقادية، وبسببها يحن إلى عالم الخفاش هورشو، كما في مشهد حماية التمثال من قبل رجال الشرطة، أو موقفه من أهل المدينة وهم يفرطون بشروط الوقاية الصحية: "في لغتهم فيض من العاطفة؛ يعانون من شحة الأشجار؛ إن اختلفوا تصايحوا ". وعند كل انتقاد يتغير ضمير الـ أنا إلى الـ هو، ويمارس السارد الذاتي دور السارد المراقب، فيؤاخذ البشر على أفعالهم السيئة ويرصد سلوكياتهم المريضة: "عانيت من زلزلة معرفية متواصلة في جيناتي وأنا بينهم؛ أظنهم نوعا متطورا من العمالقة لأن مشاعرهم تفيض وتنقلب بين نقيضين"[11].

2. التمثيل المباغت: حيث الإدراك العاطفي وسيلة هجوم في حلبة صراع، طرفاها غير متكافئين: الأول هو السارد المجهري والآخر المسرودات الآدمية العملاقة: "لقد رأيت الخسة راسخة في جيناتهم، وعفن النذالة يفوح من أنفاسهم، فالأوغاد أعداء لكل ما حولهم وإن تباينوا في مستويات الدناءة وتدرجوا في الحقارة"[12].

ولا سبيل للمواجهة إلا بالمبادأة، فتغدو مجسات كورو الإدراكية متأهبة حسيا، وعلى استعداد دائم للانقضاض على العدو بشكل سريع وبدافع غريزي للبقاء: "استغربت زيادتي. امتدت سلاسل شلت حركتي ولونت طباعي"[13]. ويفسر علم النفس هذه المواجهة بالعدوان كسلوك "يعبر بوساطته الكائن عن مشاعره ودوافعه الداخلية بوسائل ظاهرة مباشرة وغير مباشرة في إلحاق الأذى بالوسط مِن حوله أو بالانكفاء إلى نفسه"[14]، فالعدوان فعل نفسي به تعاقب الذات نفسها وتدمرها بالعنف، وهو ما اتضح تمثيليا في ملفوظات كورو الوصفية المحتشدة بعواطف الكره والمقت والنفور والحنق إزاء البشر الذين هم في نظره عمالقة بلهاء وأوغاد وأغبياء: "غرقت في الضحك حين اكتشفت أنهم عمالقة. فكرت كيف لي أن أتعايش وأحب هؤلاء الأغبياء"[15]. وأعطى لكل عملاق اسما ورقما مثل العملاق مازن 2014 والعملاق نجيب 1990 والعملاقة خلود 1980 التي وصفها بقائدة موكب الحقراء. وكرر وصف أربعة عمالقة بأنهم من "جنس الباندا ينقصهم الذيل". وأطلق على الزوجة اسم معزاة مسلوخة وخنفساء محروقة ولعينة.

وبالتدريج تتأكد نوازع كورو السايكوباثية في الهجوم والمباغتة، مواجها التهديد بالعدم ومعبرا عن مدركاته الحسية العاطفية، فيشتم ويتبرم ويحنق مستهينا بعالم البشر وبمخيلة طفولية تبتعد عن الواقع حينا وتقترب منه حينا آخر. وما جعل وجهة النظر التعبيرية واضحة شعوره بالعظمة وأنه متطور جينيا بشكل لا شعوري. تدلل على ذلك تساؤلاته التهكمية التي فيها يوجه نقدا واتهاما للبشرية أنها السبب في خلخلة التوازن الطبيعي للحياة وتخريب الأرض: "لم افهم لماذا يتصورون أن الموت مؤامرة ويتوهمون أنهم كائنات عصية عليه" [...] "لماذا لا يخترعون الكسا أخرى خاصة بالتحكم في الموت عن بعد"[16]، إلى آخره من التساؤلات الناقدة والمتهكمة التي تجعل تعبيراته هجومية وغايته الانتقام من البشر قاطبة.

ولا يعني تعبير كورو عن إدراكه العاطفي بهذا الشكل التمثيلي الهجومي، أنه كائن شرير وإنما هي غريزة حب البقاء التي تحمله لا شعوريا على المواجهة. ولأنه كائن متلفظ ورحلته عبارة عن سردية لفظية، تغدو وجهة النظر التعبيرية متمحورة حول سؤال: من قال؟ وليس: من فعل؟ ولقد فرّقت كافاريرو في كتابها "السرديات الرابطة" بين السؤال: من تكون؟ والسؤال من فعل هذا لمن؟ [17]، لأن الإجابة عن السؤال الأول تعني قدرة المرء على تقديم ذاته بوجهة نظر تعبيرية، في حين تعني الإجابة عن السؤال الثاني وصف الذات لنفسها بوجهة نظر أيديولوجية.

3. التمثيل الانقلابي أو المقلوب: حيث الإدراك العاطفي نتاج تناقض الواقع وتضاده، ولذلك قدّم كورو ذاته بكل إيجابياتها وسلبياتها، غير مستقر على حال، يفاجئنا دائما بالانقلاب، فتارة نجده حكيما وعالما، وتارة أخرى يكون مجنونا وخطيرا يتلفظ بالبذاءة ويستهين بالقيم، ولكن قصده في الأساس هو التعبير الحسي عن إدراكه العاطفي لما يتعرض له ويواجهه من معضلات حياته غير الطبيعية، فهو حين ينتشر مع الرذاذ في المتروات والمقاهي وصالات الألعاب، لا يرى في ذلك ذنبا، بل المهم هو شعوره بالحرية وهو ينفث الملايين من أبنائه حديثي الولادة ويكون سعيدا ومنتشيا بهذا الصنيع: "ابتسمت لأبنائي وهم يقفزون ويقبلون الأنوف ويمرحون بين الأفواه والعيون. التصق بعضهم على الأيادي واختار آخرون المقاعد. حمدت الله أنهم لا يرونني وإلا طلبوا مني وثيقة السفر"[18]. وهو سريع التبدل في العواطف: فمن التذمر إلى التوسل، ومن السقوط إلى الخلاص. لكنه في الوقت نفسه متفائل وواثق أن الغلبة ستكون له في النهاية. وهو ما دعم وجهة نظره التعبيرية، فحين رأى نفسه صغيرا ومهانا، انقلب شعوره فجأة إلى إحساس بالعظمة والاعتداد، وصار العمالقة بدورهم صغارا في سلوكياتهم السيئة، وأنانيين في لا أباليتهم تجاه الكائنات الأخرى من حولهم.

لهذا التمثيل الانقلابي تفسير نفسي. يقول ادورنو: "الشخص الذي يتعرض للإهانة والاستصغار يتوفر على تنوير له قوة الألم الممض عندما يتوهج في جسده يصبح واعيا. لقد أسيء إليه. لكن عليه في الوقت نفسه أن يتخلى عن حقه لأن ما يرغب فيه لا يمكن أن يمنح إلا في الحرية في مثل هذه المحنة يصبح من تعرض للصد إنسانا"[19].

هكذا اثبت كورو إنسانيته وأنه كائن تنويري يملك وجهة نظر تعبيرية، فيها الذات المفردة تواجه المجموع: "انخرطت في بيوتهم، وكشفت أسرارهم، وفهمت عاداتهم/ وأتقنت لغاتهم. ولكم ضحكت كلما صرخ هاتفهم النقال »ابتعد المنطقة موبوءة«"[20]، فكل شيء في كورو مقلوب ومتضاد، فهو الطائر الذي لا أجنحة له، وهو الواحد الذي تفرق بعضه عنه، وهو القوي الذي لا يملك سوى عواطفه.

وساهم التداعي الحر في تقوية التمثيل المقلوب للعواطف مكانيا وزمانيا، فأما مكانيا فلأن موطنه ليس في أنوف البشر وإنما في الغابة مع هورشو، ولذلك ظلت مشاعر الغربة تكتنفه والحنين إلى الموطن الأول يقض مضجعه: "أنا لي فلسفة خاصة بالجمال، فكل ما يمت بصلة إلى موطني هو الجميل؛ ما لا آلفه هو القبيح"[21]. وأما زمانيا فلأن اليوتوبيا زمن ولى إلى غير رجعة وحل محله زمن الروبوتات والمخترعات التي جهل كورو أسماءها، فالمترو يسميه علبة معدنية، والطائرة كبسولة مجنحة. وبسبب تضارب مشاعر الحنين والفقد يتذكر: "حين كان ملتصقا بغصن شجرة مانجو عتيقة تسأله أغصانها عن أحوال بنات جنسها"[22]. وتضطرب حياة كورو ولا تستقر إلا بعودته إلى موطنه محمولا في أنف عملاق انتهازي سماه "العملاق حاكم 2003": "ها أنا أخيرا أجني ثمار تجلدي في عالم الحقراء. ليس أجمل من العودة إلى أبناء هورشو إلى الغابة التي جئت منها"[23].

ما عضّد وجهة النظر التعبيرية في التمثيل الانقلابي، ممارسة السارد الذاتي دورا مضادا لدوره؛ هو دور السارد العليم، وصار الإدراك العاطفي يبدأ من الآخر وينتهي بالذات، فمثلا يكون كورو ساردا عليما وهو ينقل محاورة نجيب 1990 ومازن 2014: "اقسم لك كلما راجعت أرقام المرضى"، فإن كورو يظهر فجأة كسارد ذاتي، ويقطع تلك المحاورة بالقول: "أنا أيضا أرفض الرقم الذي يضعونه مع اسمي. أيها العملاق سنكون على وفاق إذن"[24]، ثم يتوجه إلى هذا العملاق مباشرة وخاطبه قائلا: "حطم مرآتك، فتخرس البلبلة "[25]. ومثل ذلك مخاطبة كورو المباشرة للابن الصغير وهو يقول لأمه: "متى امتلك شاربا كثيفا مثل والدي؟" فيرد كورو عليه قائلا: "لكم تمنيت حينها لم تعكس المرأة صورتي فربما لدي شارب وأنا لا اعلم، لكن جميع المرايا التي واجهتها لم تعكس شكلي، إلا مرآة واحدة زلزلت كياني"[26].

وبانقلاب الإدراك العاطفي، يرى كورو البشر في نفسه ويرى نفسه فيهم، فيثور ويغضب ويشمئز ويتذمر ويكيل الشتائم ويسخط على كل البشر. وكثيرة هي المشاهد السردية التي تصور هذا الانقلاب: "يا خزانة الغباء: لسنا من صنف الحيوانات. نحن كائنات لسنا مؤنثة ولا مذكرة. عليكم اختراع ضمير خاص بنا. حتى لغتكم ناقصة الكفاءة وعاجزة عن كشف عوالمنا. تجاهلته فقذفها بحجر اندفع من صفحتها وهشم شاشة حاسوبها وطار كقذيفة دمار شامل باتجاه نافذتها/ فتشطرت شظايا الزجاج حولها"[27]. ويعبر عن مشاعر باهتة والكريات البيض البلعمية والخلايا الجذعية تبتلع أبناءه فلا يكيل لها الشتائم لاقتناعه أن هذا فعل الطبيعة وليس فعل البشر، مما يعني أنه كائن مدرك لطبيعة الحياة وقانونها البيولوجي: "قتلت بعضي فوقع في قبضتها ثم ابتلعته في جوفها وقطعته إلى أجزاء متناهية الصغر في باطنها"[28].

وتكون مفارقة هذه التمثيلات الثلاثة للإدراك العاطفي أن نقمة كورو تتحول من البشر إلى نفسه ويدرك أنه مثل البشر متلون، لا يستقر على حال، فمادته الوراثية من النوع الذي يتحول باستمرار، وأنه في حالة ولادة جديدة دوما، فيشتم نفسه ويندم على وضعه غير الاعتيادي وهو دائم التنقل عبر الرذاذ من فم إلى فم، يناور ويهاجم ويصيب ويدمر ويتحول. ولذلك لملم بعضه في كله وقرر العودة إلى موطنه في الغابة ليكون حرا حيث لا وباء يفزعه ولا بشر يهدد حياته، بعد أن أدرك عاطفيا أنه ليس الضحية والإنسان ليس الجلاد، إنما هي دورة الحياة البيولوجية العجيبة: "يا إلهي، أهذا أنا؟ أنا السيد المتلون السميك". ويتزامن هذا التعجب من نفسه مع تعجبه من المدينة التي تركها وهي تغور في نهر أحمر وجبل من النفايات، في إشارة رمزية إلى أنه والإنسان سواء بسواء، فقد يصالح الطبيعة ويساهم في جمالها، وقد يكون عدوا لها وسببا في تخريبها.

مؤدى القول: إن للإدراك العاطفي دورا في بناء السرد غير الواقعي وبتمثيلات خاصة ومتنوعة بها يوجِّه السارد منظوره على وفق بروتوكولات تعطي للجوامد والكائنات غير الناطقة منطقية وتجعل السرد غير الواقعي محتبكا بالخيالية ومفعما باللامحاكاة.

= = =
الهوامش

[1] سئل أحد الروبوتات إن كان قادرا على الشعور؟ فأجاب: إنه سعيد لأنه عاجز عن الشعور أي أنه من دون العواطف أفضل من البشر الذين تتحكم العواطف فيهم وتؤثر في قراراتهم. ينظر: البشر بين الحروب والذكاء الاصطناعي مقال، سعاد فهد المعجل، صحيفة القبس، الكويت، 22 تموز 2023.

[2] يمين العدم يسار النفي قصة، حيدر موسى، مجلة الأديب، السنة الثانية العدد 91، تشرين الأول، 2005.

[3] فقهاء الظلام. سليم بركات. كتاب الكرمل 2، 1985، ص 43.

[4] الرواية، ص 72.

[5] محنة كورو رواية، رغد السهيل "بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، ط1، 2023".

[6] الرواية، ص 5.

[7] الرواية، ص 6.

[8] الرواية، ص 28.

[9] الرواية، ص 8.

[10] الرواية، ص 19.

[11] الرواية، ص 36.

[12] الرواية، ص 7.

[13] الرواية، ص 5.

[14] النفس والعدوان، ريكان إبراهيم. الأردن: دار الكندي للنشر والتوزيع، ط1، 2013، ص 8.

[15] الرواية، ص 28.

[16] الرواية، ص 20 و21.

[17] نقلا عن كتاب الذات تصف نفسها، جوديث بتلر، ترجمة فلاح رحيم "بيروت: دار التنوير للتوزيع والنشر، ط1، 2014 " ص 78.

[18] الرواية، ص 31.

[19] الرواية، ص 182.

[20] الرواية، ص 21ـ22.

[21] الرواية، ص 60.

[22] الرواية، ص 10.

[23] الرواية، ص 218ـ219.

[24] الرواية، ص 51.

[25] الرواية، ص 55.

[26] الرواية، ص 53.

[27] الرواية، ص 81.

[28] الرواية، ص 101.

D 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024     A نادية هناوي     C 0 تعليقات