عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 36: ربيع 2025 » إطلالة على نشأة النحو العربي

فراس حج محمد - فلسطين

إطلالة على نشأة النحو العربي


فراس حج محمدمقدّمة

يرتبط علم النحو بعلوم اللغة الأخرى، لكنه هو العلم الأكثر بروزا في الحركة العلمية العربية، وخاصة في أوليّاتها، ولعلّه المعرفة الأولى التي تم الاهتمام بها وتقعيدها قبل أي فرع من فروع المعرفة، وما ذلك إلا لارتباطه بالشعر، فقد ورد أن الشعر علم العرب، "ولم يكن لهم علم أصحّ منه"[1]. فالنحو بمفهومه العام لا بد من أن يدخل في التركيب الكلي للجملة في اللغة العربية، وهو بلا أدنى شك المعيار الأساسي في جودة الكلام وبلاغته، فإن لم يكن المتحدث يتقن اللغة العربية لا يحفل بكلامه، فقد ورد عن يحيى بن خالد قوله: "ما رأيت رجلاً قط إلا هبته حتى يتكلّم، فإن كان فصيحاً عَظُمَ في صدري. وإن كان قصّر، سقط من عيني"[2]. كما انتبه الشعراء إلى هذا، فقال أحدهم[3]:

النحو يصلح من لسان الألكنِ = = والمرء تكرمه إذا لم يلحن

وإذا طلبت من العلوم أجلّها = = فأجـلّها منها مُقيم الألسنِ

انتقال العربية من الشفوية إلى الكتابية

لم تكن اللغة مكتوبة في أصلها، وفي أغلبها، ما خلا نصوصا معينة من مواثيق ومعاهدات عربية جاهلية قديمة، فاللغة- إذاً- كانت متداولة بين الناس، على نهج معين، ولم تدوّن بشكل منهجيّ إلا في عهد الإسلام، عندما بدأ كتّاب الوحي بتدوين القرآن الكريم، وكان التدوين الأول للقرآن خاليا من التنقيط، ومن التشكيل، إنما هو رسم للكلمات، ويعتمد في قراءتها على المعنى والسياق، وهذان أمران كانا سببين رئيسيين في اختلاف القراءات بين الرفع والنصب والجر لبعض الكلمات، وحتى بين كيفية نطق الكلمات واختلاف حروفها بين منقوطة أو مهملة كما في قوله تعالى على سبيل المثال: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا"[4]، وقرئت أيضا "فتثبتوا" لأن الكلمة كانت خالية من التنقيط فجازت فيها القراءتان[5]. ولورود هذه الظاهرة في اللغة العربية عقد لها صاحب كتاب المزهر بابا خاصا أسماه "معرفة ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف"[6]. وإن الاختلافات بين القراءات القرآنية ذات المنشأ النحوي كثيرة، وتشكل ظاهرة فيه. ولكن ما علاقة كل هذا في نشأة النحو العربي؟

كثير من الباحثين يرجعون تطور علوم اللغة العربية إلى الاهتمام بالقرآن الكريم، بل إن بعضهم قد جعل علوم القرآن في قسمين؛ الأول ما يتصل بالقرآن الكريم مباشرة من تفسير ورواية وقراءات وفقه، والآخر ما اتصل بالقرآن الكريم لأنه يلزمه فهمه، كعلوم اللغة كلها بما فيها علم النحو. فعند هذا الفريق من العلماء كان القرآن الكريم سببا جوهريا لا في حفظ اللغة العربية فقط، بل في تطورها وتقعيدها على النحو التي سارت عليه بعد ذلك. لكن ثمة إشارات في العصر الجاهلي تشير إلى أن العرب قد انتبهت إلى ما قد يقع فيه المتحدث من لحن، وإن تم رصد تلك الشواهد في بداية الإسلام، إلا أنها تشير إلى وقوع العرب في اللحن أيام الجاهلية[7].

انتشار اللحن وبداية الدرس النحوي

إذاً فإن السبب الرئيسي في الاهتمام بعلم النحو كان اللحن، وانتشاره شيئا فشيئا حتى فشا، فوجد من العلماء من اهتم به، واستوى على سوقه في ما بات يعرف بالمدارس النحوية الكبرى، البصرية والكوفية والبغدادية، ومن ثم المدرسة المصرية.

لكنّ اللحن في القرآن الكريم والخشية من أخطاء القراءة لم تكن العامل الوحيد لنشأة علم النحو، بل إن الناظر في كتب التراث يلحظ بعدا قوميا في الاهتمام بهذه اللغة، خوفا عليها من أن تلتبس بلغة الأعاجم، فسار الأمر بمسارين متوافقين، الأول تنقية اللغة من الدخيل، وألفت فيها الكثير من الكتب، والأمر الثاني سلامة النطق والكتابة، وسلامتهما، تعني فيما تعني سلامة الكلام من اللحن، وقد جعل ابن قتيبة في كتابه أدب الكاتب بابين، أحدهما "تقويم اليد" والآخر "تقويم اللسان"، وناقش في هذا الباب قضايا مختلفة بين الكلام العامي والكلام الفصيح[8].

على الرغم من أن اللحن يشمل اللغة والنحو معاً، فاللفظ الأعجمي المستخدم في كلام العرب كان يعد لحنا فيها، لأنه ميل عن استخدام العربية إلى غيرها، ويعد نقصا في لغة المرء المتحدث والكاتب، لذلك حرصوا دوما على أن تظل اللغة سليمة من الدخيل، وإن اضطروا إلى ذلك عرّبوا اللفظ، فوجدت كتب تعالج هذه الظاهرة اللغوية "المعرّب والدخيل"، وبناء عليه جاء النحو وتمت مناقشته في مرحلة تالية للبحوث اللغوية المتجهة إلى الألفاظ أولا قبل الإعراب والتركيب اللذين هما محل النحو أو وظيفته الأخيرة، وهي وظيفة عملية.

ويذكر ابن سلام الجمحي أن أهل البصرة كان لهم قدمة في العربية، "وكان أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلى"، بعد أن "اضْطربَ كَلَام الْعَرَب فَغلبَتْ السليقية وَلم تكن نحوية فَكَانَ سراه النَّاس يلحنون ووجوه النَّاس فَوضع بَاب الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ والمضاف وحروف الرّفْع وَالنّصب والجر والجزم"[9]. إن في هذا إشارة مهمة لمن يدقق في المعنى حيث أن لحن الخاصة هو المقصود وليس لحن العامة، لأن الخاصة الذين عبّر عنهم بقوله "سراة الناس" هم من بدأوا يلحنون، كما سجل على الحجاج لحنه في القرآن الكريم[10]. فإذا بدأ سراة الناس- وهم خاصتهم- باللحن، فمعنى ذلك أن اللحن أكثر شيوعا عند عامة الناس، وفي أسواقهم وفي معالجة شؤون عيشتهم، بل إن المنطق يقول إنهم لم يكونوا يعربون الكلام؛ أي لم يحققوا الرفع والنصب والجر.

بالمجمل فإن ما شاع من توسع لغة العرب، من خلال اختلاطهم بشعوب البلاد المفتوحة جعلهم يلتفتون إلى أهمية المباشرة في تقعيد النحو، ولكن قبل أن توجد المدارس النحوية كانت هناك جهود نحوية اتصلت بنقط المصحف على يدي أبي الأسود الدؤلي، ثم وضعه لعلم النحو الذي أخذه عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه[11]. ويرى الباحث حسن عبد الجليل العبادلة أن "نقط الدؤلي هو نقط إعراب -يدل على الحركات الإعرابية- وليس نقط إعجام"[12]. بمعنى أن جهود الدؤلي كانت جهودا نحوية، وليست جهودا لغوية تتعلق بكتابة الحروف العربية، ولا يريد منها التفريق بين الحروف المتشابهة التي تلتبس في القراءة معجمة أو مهملة كما هو الحال في (ح، ج، خ) على سبيل المثال.

يرى الناظر في المصادر ذات الصلة بموضوع الدرس النحوي واستقرار مذاهبه أن البصرة كانت المنشأ الأصلي لهذا العلم. ومن أبناء البصرة المساهمين في نشأة النحو العربي غير الدؤلي، ابن أبي إسحاق الحضرمي، الذي يصفه شوقي ضيف بأنه "أول النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة"[13]، وتبعه أيضا في ذلك كل من عيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب.

بدأت تتشكل المدارس النحوية، ونشأت مسائل الخلاف بين العلماء، وفي بداية أمرها لم تكن قاطعة في حديتها، فتجد أن بعض البصريين يوافق بعض الكوفيين في مسائل الخلاف، أو العكس، وبقي الأمر كذلك حتى ترسخ المفهوم المذهبي المدرسي النحوي بين أتباع المذاهب، فكان البصري بصريا لا غير والكوفي كوفيا لا غير، ونشأت المدرسة البغدادية التي تحاول التوفيق بينهما، وهكذا حتى امتد الأمر إلى وجود المدرسة المصرية والأندلسية، ولكل رأيه ونحوه وتفسيره.

وكان لهذه الجهود النحوية التي أسس لها البصريون الأثر الكبير في إزهار الدرس اللغوي والنحو الذي أخذ يستقلّ تدريجيا عن الدرس القرآني ليخط له مسارات في علم المنطق والفلسفة، وقد ناقش هذه المسألة الباحث صلاح عبد الكريم المبروك عمر في بحثه الموسوم بـ "العلاقة بين النحـو العربـي والمـنطق دراسة وصفية تطبيقية"، ويرى الباحث "أن المنطق ليس سبباً في نشوء النحو العربي، وليس إحدى ركائزه، ولكنه في طور من الأطوار استخدمه بعض العلماء لرسم حدود المسائل النحوية"[14]، ومناقشتها، وحتى مصطلحاتها الأساسية والفرعية، وطريقة الجدل بين العلماء التي ابتعدت عن السماع، ودخلت إلى باب القياس، والقياس نفسه هو طريقة منطقية استخدمها الفلاسفة في مناقشة بعض قضايا العقدية الداخلة في علم الكلام.

= = =

الهوامش

[1] الجمحي، ابن سلّام، طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001، ص 34

[2] التوحيدي، أبو حيان، البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1988، ج 5، 207.

[3] القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري، أدب المجالسة وحمد اللسان، تحقيق: سمير حلبي، دار الصحابة للتراث، طنطا، ط 1، 1989، ص 61.

[4] القرآن الكريم، الحجرات، آية (6)

[5] يُنظر الخلاف في تعليل القراءتين كتاب: الخالدي، صلاح، القرآن ونقض مزاعم الرهبان، دار القلم، دمشق، ط 1، 2016، ص 644.

[6] السيوطي، جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1998، ج 1، ص 415 وما بعدها؛ الباب السابع والثلاثون.

[7] ينظر: الأفغاني، سعيد، في أصول النحو، المكتب الإسلامي، بيروت، 1987، ص 7

[8] ينظر: ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، أدب الكاتب، تحقيق: محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1985، ص 307، ص 431.

[9] الجمحي، ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، مرجع سابق، ص 29.

[10] ينظر: ضيف، شوقي، المدارس النحوية، دار المعارف، القاهرة، ط 7، د. ت، ص 12.

[11] ينظر: العبادلة، حسن عبد الجليل، أبو الأسود الدؤلي وجهوده في نقط المصحف، مجلة دراسات، علوم الشريعة والقانون، المجلد 34، العدد 1، 2007.

[12] السابق، ص 142.

[13] ضيف، شوقي، المدارس النحوية، مرجع سابق، ص 22

[14] عمر، صلاح عبد الكريم المبروك، العلاقة بين النحـو العربـي والمـنطق دراسة وصفية تطبيقية، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الإنسانية، المجلد 28، عدد 1، 2020، ص 313.

::

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

الأفغاني، سعيد، في أصول النحو، المكتب الإسلامي، بيروت، 1987.

التوحيدي، أبو حيان، البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1988.

الجمحي، ابن سلّام، طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001.

الخالدي، صلاح، القرآن ونقض مزاعم الرهبان، دار القلم، دمشق، ط 1، 2016.

السيوطي، جلال الدين، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1998.

ضيف، شوقي، المدارس النحوية، دار المعارف، القاهرة، ط 7، د. ت.

العبادلة، حسن عبد الجليل، أبو الأسود الدؤلي وجهوده في نقط المصحف، مجلة دراسات، علوم الشريعة والقانون، المجلد 34، العدد 1، 2007.

عمر، صلاح عبد الكريم المبروك، العلاقة بين النحـو العربـي والمـنطق دراسة وصفية تطبيقية، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الإنسانية، المجلد 28، عدد 1، 2020.

ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، أدب الكاتب، تحقيق: محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1985.

القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري، أدب المجالسة وحمد اللسان، تحقيق: سمير حلبي، دار الصحابة للتراث، طنطا، ط 1، 1989.

D 1 آذار (مارس) 2025     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات

بحث



5 مختارات عشوائية

1.  تتويج حب

2.  نصوص قصيرة

3.  إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية

4.  تقديم لرواية نجيب محفوظ الشحاذ

5.  دار الآداب: موقع جديد

send_material


linked image to oudnad.net pdf_xive
linked image to oudnad.net/dox