د. فراس ميهوب - سورية
بین سیف نیرون وعیني جوستينا
غرقتَ من جدید في بحر ذاكرتك القریبة جدا، انتبھتَ أخیرا إلى جوستینا، ھذه الجمیلة.
كانت فعلا أجمل مما توھمتَ، وكعادتك ترى التفاصیل متكوّرة في حضن النظرة العامة. وكنتَ قد أھملتَ أي اھتمام مفرط بأي إنسان ولو كان أنثى بھذا الحُسنِ، لكن تجاھل جوستینا كان ممكنا لأعمى أو أطرش فقط، فقدرتْ بعد أیام قلیلة على أن تأسر منك العین والأذن.
نظراتھا وھي تحدق في داخل عینیك، وترمي في وجھك المتعب كل ھذا التحدي القاھر، إن كنتَ قادرا على الإفلات فافعل.
جریئة بتلقائیة، دون أن تواري خجلا عمیقا یطفو إلى السطح مع كل محاولة منك للاقتراب من غموضھا الساحر.
مزیج غریب من ملكات تدفع للأمام بلا وجل، وإعاقات صغرى غائرة في النفس، فلا یمكن نسیانھا.
شعرھا الخرنوبي أو الكستنائي، لا تعلم على وجه التحدید، تھتَ في تحدید لونه الدقیق، أملس متروك قسمه الأمامي إلى ما تحت الصدر الأیسر، ویبتعد في الجھة الیمنى إلى الخلف، نظراتھا العمیقة من عینین لا تعلم حقا لونھما: أھوَ أخضر أم أزرق فاتح؟ وجه حاد القسمات لامع مع شفتین رقیقتین دون إفراط، أنف ینحدر ویندمج بأناقة مع الخدین البرّاقین.
ما فوق العینین حاجبان متناسبان مع تضاریس الجبھة، یبتعدان في المنتصف لتبدو عالیة موحیة بسحر أخّاذ، وذكاء أنثوي متجاوز لكل عادي أو متوسط.
أكثر ما یستفز في وجه جوستینا ذقنھا المدوّر كأنه یدفع عنھا العین الناظرة بفضول.
توقفتَ لتستذكر تفاصیل جسدھا، وقامتھا المائلة للطول التي تفضح ولا تخفي سحر المرأة المؤھلة باقتدار لنفض غبار المعاناة عن قلبك المنھك. صرتَ وحیدا أمام جوستینا وھي غائبة، ویا لیتك ما صرت!
تسللت جوستینا إلیك، انسقتَ إلى أحادیثھا، ھي تتكلم، وأنت تصغي، أطالت واسترسلت، ومرتِ الساعات.
في ذلك المساء، سرت كھرباء حارة في جسدك، انقلب الإحباط المقیم إلى طاقة ھائلة، اجتاحت باطنك كله. إن لم یكن ھذا حبّا فما ھو؟
وصلتَ إلى منزلك، واجھتَ المكتبة، بحثت عن كتاب تقضي معه ما تبقّى من لیل، أصابكَ الإنھاك، تذكرتَ الكتب التي اشتریتھا من معرض الكتاب الأخیر، أعدتَ استعراض العناوین، تجاوزتَ كتابین إلى ثالثھما.
عنوان الكتاب «شھداء المسیحیة». باشرتَ كعادتك قراءته بتفاصيله من اسم الناشر إلى سنة النشر، الكاتب، الغلاف الجلدي السمیك، المقدّمة، وانتبھت إلى مضي أكثر من عشرین عاما على طبعه. توقفتَ أمام شھداء نجران، رمزیة القصة، وشھرتھا الكبیرة في التاریخ. قرأت عن بولس، والشھیدة تقلا.
تصورتَ نیرون في ساعاته الأخیرة، وھو في غایة الإنكار لمصیره المحتوم، الموتُ الذي ما فتىء يهديه للآخرین بكلمة بسیطة منه، دانى عنقه، والحرائق التي أشعلھا في قلوب الثكالى قاربت ثوبه، وكادت تلامس جِیده.
اجتاحه داء المستبد الذي يظن أن عقارب الزمن تحت أقدامه للأبد، ولم یخطر له أنھا في لحظة غفلة منه، قد تفلت وتحقن في أوردته مصل الفناء المذل.
فكره الضحلُ الموزّع كالأقدار على عقول البشر، ملزم لھم بالطاعة العمیاء. لیس لھم إلا حق التعبیر عن الولاء بطرق شتى، ولمن یأبى السجن والموت.
انفعلتَ مع المنفعلین، ورأیتَ نفسكَ تفر من الموت الطافر في أحیاء روما، توشك سنابك الجیاد العالیة أن تدوس ظھرك. تلتفت ذات الیمین فیأسرُ بصرَك مشعل وحید مضيء، یُفتح لك الباب، تطل منه شابة، قدّرْتَ عمرھا بثلاثین عاما أو أقل بقلیل، ترتدي ثیاباً سود، تنتھي على الرأس بقلنسوة واسعة، تنسدل على الوجه الأبيض خصلات شعر، تتموج ألوانه بین الأشقر والأسود الفاتح.
نادتَك الصبیّة باسمك السري الذي لا يعرفه إلا أمك وأبوك، دعتك للدخول إلى البیت المشعشع الأنوار، طغا نور وجھھا على أضواء الحجرة الأولى فاستحال كل ما فیھا إلى خلفیة خافتة.
رأیتَ فیما رأیت صلبانا، وغصن زیتون أصفر. تخیلت وجود قرآن مفتوح على سورة مریم، على قاعدة من خشب فینیقي محفور.
اختلطت في عینیك التخاطیط والصور، الأمكنة والعصور، غزتك طمأنینة مفاجئة، لولا أن أصبحتَ بعد ھنیھات وحیدا.
اختفتِ الشابة الوادعة، خرجتَ من المنزل، كان جنودُ نیرون قد ابتعدوا، والفجر قد أرسلَ خيوطه الأولى فوق المدینة المحترقة. رأیتَ رجالا بثیاب بیض بأیدیھم أجھزة إطفاء كبیرة، ینظرون إلى جھة النار. خرجتْ من الصنابیر الطویلة تیارات ماء، شعرتَ بالرذاذ البارد، أحال الحرائق وركامھا إلى بقایا صغیرة، فاضمحلّت واندثرت.
خرجتَ من روما، وعدتَ إلى كتابك، ھالتكَ كثرة الشھداء الأطفال والنساء: بوتامنیا، بربیتوا، ثیئودورة، فبرونیا، بربارة، رفقة، صوفیا، وأخیرا جوستینا.
شكّكتَ بدقة الأوصاف الطائرة عبر التاریخ لأناس عاشوا وماتوا قبل مئات السنین، لكن یقینا رسخ في قلبك مع نظرة أخیرة لوجه جوستینا. أغلقتَ الكتاب، ونمت، والغد لا بد آت.
◄ فراس ميهوب
▼ موضوعاتي