زكي شيرخان - السويد
هو وصباح وجاسم
كيف يمكن لمن تدلى من سقف لأكثر من ساعتين، مربوطاً من رجليه ومقيد اليدين خلف ظهره أن يتذكر من بين آلاف الوجوه التي انطبعت في ذاكرته عبر مراحل حياته المتعددة هذه العاهرة التي لا يتذكر كم من السنوات مضت على لقائه بها لساعات معدودة هي ما تستغرقه الرحلة بين بغداد والبصرة؟
هوت، مُختارة من دون كل المقاعد، المعقد المجاور لمجلسه. لم تكن بحاجة للتأفف كي تعلن عن وجودها إلى جانبه، فما فاح من عطرها أدى المهمة بنجاح. حياؤه الذي لازمه منذ طفولته منعه وكالعادة من أن يستدير نحوها. تحيتها التي ألقتها عليه ردها وعيناه شاخصتان على الصحيفة التي يقرأ مقالها الافتتاحي. افتتحت تعارفها بسؤاله:
= كم تستغرق الرحلة؟
= لا أدري، يمكنك أن تسألي السائق عند بدء مسيره.
= أأضايقك إن دخنت؟
لم تنتظر إجابة منه بل استطردت:
= هذا سؤال غبي فعلبة سجائرك ها هي في جيب قميصك.
هذه المرأة شتت تركيزه. هذا المقال الافتتاحي المسلسل لا بد من قراءة ما بين سطوره لأنه قد يشي بنوايا وتوجهات النظام. الجزءان الأول والثاني أوصلا الرسالة بأن الشأن الداخلي ليس هو وحده محور اهتمام النظام. ما استوعبه مما قرأ من الجزء الثالث يؤكد أن على دول المنطقة أن تستعد للاعب جديد. عنوان المقال «المنطقة ماذا وإلى أين؟» يؤكد استنتاجه.
= يبدو أن مجاورتي لك قد ضايقتك.
التفت إليها دون أن يرفع عينيه إلى وجهها قائلاً بما يشبه الاعتذار:
= لا، لا، أبداً.
دفعت يدها باتجاهه مصافحة وهي تقول:
= اسمي صباح.
أدنت رأسها من رأسه. همسها اقترن بضحكة خافتة.
= طبعاً هذا اسمي الحركي، أو المهني.
ضغطة يدها شتت ما تبقى من تركيزه. مؤشر منتهى حرجه بان بسرعة من ارتجاف يده التي سحبها بسرعة وبشيء من عناء لتمسكها به. استدار بأسرع مما سحب يده. ترك الصحيفة ترقد على فخذيه خوفاً من أن يشي اهتزازها بارتجاف يديه. استجمع شيئاً من جرأة لم يستطع الخجل طمرها. قال بصوت خفيض:
= أرجو أن تأخذي بنظر الاعتبار أنك في حافلة كبيرة وأن الأنظار تتجه نحوك. النظرات والهمسات المتبادلة بين الجالسين سرعان ما ستتحول إلى...
قاطعته وهي تدني رأسها من رأسه ثانية:
= من أول صعودي الحافلة عرف الجميع من أكون، هذا من ناحية. أما من الناحية الثانية فأنا لا أحب أن أرتدي غير ردائي ومهما بالغت في إخفاء ما أنا عليه فعلاً فسأكتشف. لا بد وأن هناك عين مبصرة من بين كل العيون التي أصابها العمى. لا بد وأن يكون هناك عقل، من بين العقول التي تبلدت، يملك من الذكاء ما يميزني عن الأخريات. إضافة لكل هذا وذاك فأنا لا أحب الكذب والغش. أنا لست مثل من تقرأ لهم.
صعقته جملتها الأخيرة وهي تومئ برأسها نحو الصحيفة. تحول حرجه إلى خوف دب في أوصاله. استدار ينظر من خلال زجاج الشباك إلى ما تكدس على الرصيف من بشر وعربات وسلع معروضة للبيع. صُمّت أذناه ولم يسمع ما قالته بعد ذلك. تنبهت إلى أنه أصبح في واد آخر أو لربما في عالم آخر. استرجعته بوكزة من كوعها.
= زبائننا نوعان، مؤقت ودائم بدوام الظروف. لي من الصنف الثاني البعض الذي أقضي معهم بعض الوقت بين الحين والآخر. تبدأ الجلسة عادة قبل ملء الكؤوس بنكات لا تخدش الحياء، ثم تستحيل إلى نكات بذيئة عند الكأس الثانية، ثم يلي ذلك فقرة الغناء والرقص، وبعدها تبدأ جولة النقاشات السياسية. الخمرة تفك عقد الألسن وتعقل بقية الأعضاء. وغالباً ما تنتهي السهرة المحتدة النقاش بالطُهر وبقبضي كامل أجري. هؤلاء الأشخاص، أهم ما يجمعهم هو نقد الأوضاع السائدة. أحياناً يقررون في أول جلستهم أن يبتعدوا عن الخوض في السياسة. ولكن هيهات، فما يحدث في الواقع يجرهم مجبرين.
سكتت عندما أتخذ السائق مكانه خلف المقود، منبهاً الواقفين لسبب أو لآخر من الركاب اتخاذ أماكنهم جلوساً. نظرت إلى ساعة معصمها تريد أن تعرف كم ستستغرق الرحلة. لا يدري لم سألها:
= أهذه هي المرة الأولى التي تقومين بهذه الرحلة؟
= نعم، فقد اتصل بي واحد من المجموعة التي حدثتك عنها والذي اقتضت ظروف عمله مؤقتاً أن يكون هناك. دعاني مع البقية لقضاء عدة أيام بضيافته.
= أراك تسافرين وحدك.
= لم يرغب أحد منهم أن أكون رفيقة دربه والسبب لا أظنك تجهله. هؤلاء أيضاً مثل من تقرأ لهم، يقترفون من الفحش ما يقترفون معي ومع غيري ولكنهم يظهرون أمام الآخرين بمنتهى الطهر والبراءة.
ارتعب ثانية من حشرها الصحيفة وما وراءها كجملة اعتراضية قد تودي به. إلى ما ستنتهي هذه الرحلة المشؤومة؟ ود لو كانت له خبرة التعامل مع هذا الصنف كي يبتعد عما لا يُخاض فيه. تشاغل بقراءة الصحيفة. هذه المرة نشر أمامه صفحة الأخبار الداخلية. سكتت عنه لبضع دقائق، ظن أنه تخلص منها. لام نفسه عندما جاملها بعدم مضايقته من مجاورته. مدت سبابتها اليسرى تشير إلى خبر في أعلى جهة اليسار من الصفحة. قرأ «وزير التجارة: سنقوم باستيراد خمسين ألف طن من ...» قبل أن يكمل قراءة العنوان هتفت بصوت مسموع: «ابن ال ...».
أسكتها قبل تكمل. مالت برأسها نحوه وهمست:
= عندهم أضعاف هذا الرقم من الخزين.
= وما أدراك؟
= أحد أعضاء المجموعة، بالمناسبة سأسميهم شلة الأنس على الطريقة المصرية، لأن كلمة مجموعة قد تأخذ بعداً سياسياً. هذا الأنيس موظف في وزارة التجارة وعندما سأله أحد الأُنَساء عن سبب شحتها كانت إجابته عدم معرفة السبب بالرغم من وجود كمية كبيرة من هذه المادة في مخازن الوزارة، وحتى أن المشرفين على هذه المخازن رفعوا تقريراً لسيادة الوزير الكذّاب ينبهونه إلى أن مدة نفاذ صلاحية قسم من الكمية قد دنا.
= أراك تجيدين القراءة.
= لقد واصلت الدراسة حتى منتصف المرحلة الإعدادية. كان بالإمكان لو أن الظروف كانت مواتية أن أكمل الجامعة ولأصبحت إحدى موظفات حكومتك.
أشارت هذه المرة بيدها نحو الجريدة. لم يعد بإمكانه السكوت. استدار نحوها مقرباً فمه ما أستطاع من أذنها. ملأ أنفه عطرها. استرخت عضلاته بعض الشيء. مرت لحظات دون أن ينبس ببنت شفة. نظرت إلى وجهه من زاوية عينها. ارتسمت على محياها ابتسامة. قالت:
= أتدري، عيناك جميلتان.
= أرجوك عندي من المشاكل ما يكفيني.
قاطعته:
= الطريق أمامك سالكة، لك أن تقدم ولك أن تحجم.
= ما أقصده هو شتائمك، استهزاؤك، طعنك للسلطة. لا أريد الخوض في أمور السياسة.
= هؤلاء الأوغاد سيّسوا كل الحياة، حتى لعب الأطفال وأغانيهم وضعوها في إطار مصنوع من السياسة.
= سأضطر للنزول.
قالها وهو ينظر إليها بحيرة. بدأ الغضب يتصاعد في داخله. قالت:
= خوفك جعلك لا تستطيع خلاصاً مني. هكذا فعلوا معنا جميعاً. جعلونا نزرع الخوف وننميه في داخلنا فما عدنا نستطيع الخلاص مما فرضوه علينا.
تساءل عن ماهية هذا الكائن القابع إلى جانبه المتخذ شكل امرأة. مهنتها الدعارة، أو هكذا ينم تصرفها. اقتحمته خلال أقل من ساعة. تجيد الحديث السياسي. تمارس السياسة، و ... سألها:
= من أين اكتسبت هذه المعرفة؟
= من كثرة ما خالطت شلة الأنس واستمعت لنقاشاتهم. هم أناس بسطاء، عاديون في ممارستهم الحياة ولكنهم على دراية بحياتهم. يجيدون المقارنة بين ما هو عليه وما هو مفروض أن يكون. خبروا فترات سياسية متعاقبة أنضجت وعيهم. الوعي لا يحتاج بالضرورة إلى التعليم الأكاديمي العالي كما تروجون له أنتم المثقفون. الوعي لا يحتاج إلى غير بصيرة نافذة. الوعي لا يحتاج إلى مصطلحات لا يفهمها إلا القلة من الناس وليس بحاجة إلى لغو الحديث...
= رويدك، رويدك...
* * *
نهاية السفرة كانت آخر عهده بها، إذ لم يرها بعد ذلك. لم يسمع عنها. لم يلتق بأحد يعرفها. ابتلعتها الحياة مثلما تقيأتها الظروف في ذلك اليوم الذي استمر شؤمه إلى ساعته هذه التي وجد فيها نفسه معلقاً من قدميه في سقف هذه الغرفة التي لا يعرف أية بناية تحويها ولا في أية بقعة تقع.
افترقا عند آخر الرحلة دون أن تسأله عن اسمه. ودعته بقولها:
= وداعاً يا صاحب أجمل عيون.
أدى المهمة التي كُلف بها. عندما عاد كانت جعبة عقله معبأة بأسئلة ظل يطرحها رغم كل التحذيرات التي وجهت له «كيف يمكن أن نثق بمن أرتكب بحقنا أكبر مجزرة في تاريخ بلدنا قبل أقل من عشر سنين؟ وكيف نبرر تحالفنا معه؟ أكان كل نضالنا عبر السنوات من أجل مقعدين وزاريين أو ثلاثة؟ ألم تستوعب قيادتنا دروس الماضي؟ ألم تعي المرحلة؟ هم يدّعون الوطنية والحرص على الوطن لذلك يمدون يد مصافحة ويخفون الأخرى وراء ظهورهم، ألا يحق لنا مطالبتهم بأن يظهروا لنا اليد الأخرى بدل إخفاءها؟»
جُمّدتْ عضويته لأنه ما أنفك يتساءل. في سنوات ابتلعته الحياة كما صباح. ضُربت مجموعة انتمائه ضربة قاصمة لم تقم لهم بعدها قائمة. تشتتوا في المنافي يستذكرون الماضي ويمنّون الأنفس بأن يعودوا يوماً مثلما كانوا. تابعهم عن بُعد من بَعد ما أشتد الخناق على بقاياهم وعلى من والاهم. سلم هو من الملاحقة ولم يعرف سبباً. تسلل القادة واحداً واحداً.
ترامى إلى سمعه أن السلطة غضت الطرف عن هروبهم، وربما يسّرت لهم الأمر من حيث لا يعلمون حتى لا تظهر أمام العالم وكأنها باغية، متسلطة، قمعية. فُصل الرأس عن الجسد. ضموا أجزاءً من الجسد إلى تنظيماتهم بالأسلوب التقليدي، الترهيب والترغيب. من بقي من الجسد رافضاً فقد غيّب في ظلمات ما تحت الأرض خارج المكان والزمان بلا حياة تدب فيه أو نصف ميت. بقي هو يدب على وجه الأرض خارج كل شيء نصف حي. كان يشهد الفرحة في عيون السلطة وهي تحتفل بعرس انتصارها على أكبر منافس لها. ثقبت طبلة أذنه «نحن أبناء عصرنا هذا.»
حاور نفسه وبصوت مسموع في تلك الغرفة الرطبة التي استأجرها في فندق رخيص، قديم، متداع، في واحدة من أقدم أحياء العاصمة والتي ارتبط اسمها بالمبغى العام الذي كان يوماً عامراً ببضاعته وبزبائنه.
«ألم نكن نحن جزءا مما دفع بهؤلاء ليكونوا أبناء عاقين لهذا الزمن؟ ألن يحاكمنا يوماً ما أناس بسطاء، عاديون في ممارستهم الحياة ولكنهم على دراية بحياتهم، يجيدون المقارنة بين ما هو عليه وبين ما هو مفروض أن يكون، كما وصفتهم صباح؟»
تذكّر صباح، ومتى نسيها؟ هي منذ ذلك اليوم دائمة الحضور في ذهنه. ما زال يملأ أنفه عطرها ويرخي عضلاته المتشنجة كلما تذكرها.
«كيف أتى لها أن تكون على هذا القدر من الدراية بالحياة السياسية؟ ومن أين لها هذا الأسلوب في النقاش؟»
لقد جعلته ينكمش في ذاته ويعيد النظر بما يرتقي إلى مستوى المسلمات. أخذ نفسه بالشدة. جعل يبحث عما أوحى له بأن صباح وغيرها لا يفقهون من الحياة سوى ما يجعلهم يدبون على وجه الأرض، يأكلون، يشربون، ينامون، يتناسلون، يفرحون، يحزنون، يغضبون.
«أثقافتنا فرضت علينا هذا التقسيم اللامنصف إلى متعلمين أو مثقفين، كما يحلو للناس أن يطلقوها من لفظة، وإلى جهلة، كما يحلو لأمثاله أن يطلق على من لم ينل من التعليم ما يكفي؟ ألا يكفي ما قسّم المواطنون به إلى درجات ثمان، تسع، عشر، لا يدري؟ لماذا هذا التعالي على الآخرين؟ أليسوا بشراً؟ أليسوا يحملون نفس هوية الانتماء إلى بلد معترف به من الجميع إلا ممن يحكمونه؟ هم الوحيدون الذين محوه من الوجدان كوطن وجعلوه ضيعة من ضياعهم التي لا يملكون غيرها. هؤلاء الناس بشر، مواطنون يعيشون تحت ظل هذه المنظومة التي أفقدتهم مقومات الحياة ولكنها لم تستطع أن تفقدهم صوابهم، على الأقل لحد الآن. هم يمارسون السياسة بدون انتماء إلى أحزاب وتنظيمات. أجبروا على الخوض في السياسة في ظل أزمات اختلقها النظام كي يجعل من الناس بهائم منشغلون بالبحث عن الطعام فقط».
في الصباح، كان يجلس في المقهى القريب من الفندق الذي هو أحد أقدم نزلاءه. يشرب قدحه الأول من الشاي كي يفتتح ممارسة التدخين. لم يكن يستسيغ التدخين قبل قدح الشاي وأحياناً معه. يدفع ثمن شايه ويظل يرقب الرصيف المقابل انتظارا للحافلة التي توصله إلى محل عمله. أحياناً كانت أفكاره المتضاربة أو استعادته لحلم رآه ليلته يعميه عن رؤية الحافلة التي تظل واقفة في انتظار استكمال عدد راكبيها، فيرتفع صوت جاسم صاحب المقهى الجهوري الذي يشوبه شيء من بحة تذكره بقراء المقامات التي ظل وفياً لسماعها بعد أن غزا الإذاعة والتلفاز اللاهجون.
= حافلتك يا أستاذ. لا بارك الله بشاغل ذهنك وذهننا. لعنة الله على القوم الظالمين.
«أليس هذا ناقد آخر للأوضاع السياسية؟ إن كانت صباح قد كادت أن تنهي المرحلة الإعدادية، فجاسم هذا لا يفرّق بين حرف الصاد والباء. أليست لعناته التي يصبّها منذ ساعة افتتاحه مقهاه وحتى ساعة إغلاقها منشورات سياسية تنبه الغافلين والمتغافلين عما يكتنف البلد وأهله؟ أليست هي بيانات سياسية تحذيرية لما ستضعه من مسخ الأيام الحبلى من سفاح؟ أن البعض من رواد المقهى من رجال الأمن الذين ينتشرون في هذه البؤر المكتظة بالناس الذين لا رابط بينهم إلا العوز والبحث عما يؤمّن لهم وجبة طعام وعلبة سجائر ونزر يسير من خمر أو حبة مما يتعاطاها من أصيب بمرض نفسي تعينهم على نوم خاصمهم وتنسيهم ما أسهدهم؟ جاسم يعرف هؤلاء الرجال تماماً مثلما يعرفهم الكثير من رواد مقهاه دائمي الحضور ولكنه لا يعبأ بهم.»
= دعائي ينصب على شاغل البال، وكل منا عنده ما يشغله، وألعن القوم الظالمين مستشهداً بآيات قرآنية، فليمنعوا ذلك كما منعوا تداول حبوب منع الحمل لزيادة النسل، ولا أدري كم حرباً سنخوض بعد هذه التي استهلكتنا والتي تقتضي وفرة الأنجاب؟
قالها جاسم بعد أن حذره غِبَّ سنوات من تعارفهما ووصوله إلى درجة زبون مفضّل لانتظام تردده على المقهى. مع كل رجال الأمن الذين يعرفهم جاسم حق المعرفة، وكذلك هوبي العامل في المقهى إلا أنه لم يُودع يوماً في سجن أو معتقل ولا حتى في مركز شرطة. الكثير من الزبائن تعلم منه لعنة القوم الظالمين كلما تعكر مزاجه وما أكثر معكرات المزاج التي وصفها جاسم ذات يوم بقوله:
= إنها يا أستاذ، من القلة القليلة الباقية مما توزعه الحكومة مجاناً، بل أجزم بأنها حتى على استعداد لأن تدفع مقابله. رحم الله السابقين، كانوا لا يريدون لمزاج الناس أن يتعكر.
سكت طويلاً. أمتص كمية كبيرة من دخان سيجارته حتى خُيّل إليه أنه سينهيها دفعة واحدة، قبل أن يكمل حديثه:
= سامحكم الله يا أستاذ فقد ساهمتم في تمهيد الطريق لتمكين هؤلاء من التحكم بأخطائكم.
وجل. نهض. غادر المقهى بعد اعتذار. التقفه الرصيف. كيف تسنى لجاسم أن يعرفه؟ لا يتذكر أنه التقاه قبل ريادته المقهى. لا يتذكر أنه حاوره ذات مرة بأي شأن من الشؤون عامتها أو خاصتها. حتى أنه لم يجاوره جلوساً. كل تعليقات الحاج جاسم المقتضبة والتي يحفظها كان يتلقاها وهو يدفع ثمن ما شربه. في بعض المرات كان يتعمد التأخر في رد العملات المعدنية بعد استقطاع ثمن الشاي من ورقة نقدية دفعها إليه كسباً للوقت اللازم لقول ما يريد. انتبه إلى هذه فصار يدفع الثمن قطعاً نقدية يكون قد هيأها قبل ولوجه المقهى. هذه الحيلة لم تنطل على صاحب المقهى فقال له مازحاً ذات مرة وهو يضحك ملء شدقيه:
= سأسمعك قولي حتى وإن لم تدفع ثمن ما تشربه هنيئاً مريئاً.
أبِه ما يشي عن كنهه؟ حذره هوس أصابه. لا يقرأ في المقهى ساعة يكون فيها مساء غير الصحف الرسمية، أما المجلات المستوردة من قبل وزارة الإعلام فيقرأها على سريره قبل نومه. صباح، تخلص من محاصرتها في نهاية سفرته تلك. جاسم هذا، كيف السبيل للتخلص من حصاره الذي يشتد؟ هو لا يستطيع أن يمتنع عن المقهى لعدة أسباب. أولها، أن رجال الأمن المتسائلين عن الجميع قد أطمئنوا إليه بسبب تردده على المقهى وهذه كانت نصيحة ثمينة قدمها له صاحب الفندق، عندما قال له «كي يضعوك على قائمة غير الخطرين على النظام.» ثانيها، أن المقهى توفر له فرصة إحساسه أنه غير معزول حتى وإن لم يحادث أحد من روادها. وجوده وسطهم يشعره أنه ينتمي لفصيلتهم. ثالثها، أنها أرخص الأماكن التي يمكنه فيها قضاء الوقت، أو بالأحرى الفائض عن حاجته.
بعد مسيرة طالت، أحس بشيء من الهدوء يعود إليه. بدأ يلوم نفسه على الهلع الذي يصيبه من حين لآخر. تذكر أنه لم يصبه قبل سنوات ما أصابه الآن عندما سمع الحاج جاسم يتحدث لأحد أصدقاءه وكأنه يريد أن يسمعه هو:
= بعض الأخطاء خطايا. خطيئته هي ما شاهدناه من على شاشة التلفزة. رجل ساقته الأقدار ليكون على رأس قوة وطنية مشهود بتأريخها النضالي، البعض من أفراد قاعدته تعج بهم المعتقلات والبعض الآخر مطارد، يحضر ندوة يحضرها الزنيم. وعندما يأتي دوره في الحديث يستشهد بقول أحد زعماء فكره دون أن يذكر اسمه. الزنيم ومن موقع القوة والاقتدار وزيادة في تأكيد ضعف المتحدث يذكر أسم المُستشهد به، فيجيب الرجل بلا حياء أو خجل «بعض الأسماء تثير الحساسية.» ليلتها كدت أنفجر غضباً على ما إلنا إليه. إن كان هذا الرجل يخشى ذكر اسم أحد منظري فكره فكيف سيروج للفكر نفسه؟ ماذا سيكون غير تابع في جبهة ضمته وغيره تحت مظلة باسطي نفوذهم؟ ترى ما سيكون موقفه بعد أن أصبحت شعارات هذه الندوة سيفاً مسلطاً على الرقاب وقانوناً يُبعد ويُسجن بموجبه من يناوئهم ومن لا يؤيدهم؟
يومها لم يخف حد الهلع، ربما لأن جاسم لم يتحدث بلغة المخاطب لا مفرداً ولا جمعاً. ارتسمت على شفته ابتسامة إذ تذكر أن صديق جاسم علّق مستغرباً:
= زنيم؟
فكان رد جاسم قاطعاً مستنكراً استغرابه:
= أليس زنيماً؟
نبهته روائح التوابل المنبعثة من الدكاكين المنتشرة على جانبي هذا السوق. تيقن أن مسيره قد استغرق أكثر من نصف ساعة في سيره المتهادي. قرر أن يعود أدراجه من الشارع الآخر الذي يقع عند الطرف الآخر لهذا السوق الطويل. ما نبهه هذه المرة لم يكن غير صوت صاحب المقهى الذي مرق من أمامها:
= أستاذ صبري.
أدار وجهه ناحية المقهى، فما كان من صاحبها إلاّ أن يعيد:
= أستاذ صبري، تفضّل.
وهو يشير بيده إلى المكان الذي أختاره له. ما أن جلس حتى حيّاه وطلب من هوبي أن يقدّم شاياً للأستاذ. قال له جاسم:
= لم أقصد إحراجك في أي من المرات التي تحدثت فيها معك. ولست من الأوغاد الذين يتسببون في أذى الآخرين. أعرف أن هناك العشرات من الأسئلة التي تدور في ذهنك. سأروي لك جانباً من حياتي باختصار لعلك تجد فيها إجابة لبعض الأسئلة. بدأت عملي في مقهى كان يملكها أحد أخوالي وأنا في سن الثامنة. بسبب ظروف والدتي التي فقدت معيلها في حركة مايس. رفضتْ الاعتماد على أخوالي الذين تكفلوا بإعالتها. أصرت أن أكون معيلها على صغر سني. بدأت ساقياً للماء بأجر كانت تقبضه رحمها الله بالنيابة. ثم جامعاً للأقداح التي ارتشف الزبائن محتواها. ثم معداً للشاي وساقياً له. عملت في عدة مقاه. المقاهي كانت مدارس للوطنية ومنتديات للثقافة والفكر. فيها تعلمت أبجديات السياسة من خلال ما يتناقله الزبائن من أخبار وما يدور بينهم من نقاش وجدل. تعرفت على هتلر والنازية، ستالين والشيوعية، تشرشل والرأسمالية، ديغول والمقاومة. عرفت غاندي والعصيان المدني. كنت إذا غُم عليّ سألت، وإذا أجبت حفظت، وإذا حفظت تعلمت. أيقنت أن فرصة دخولي المدرسة قد ولت. وتعلمي القراءة والكتابة قد فات أوانه. إذن لا بد وأن أتـّبع طريقة السمع للتعلم. كان الكثير من رواد المقاهي لا يجيدون القراءة والكتابة ولكنهم اختلطوا بالمتعلمين والمثقفين والأدباء والشعراء والصحفيين والسياسيين فتعلموا منهم. ما زلت أذكر سيد مهدي، تاجر الحبوب الذي كان يرتاد إحدى المقاهي التي عملت فيها. كان الرجل لا يقرأ ولا يحسن كتابة حتى اسمه. كان يشتري ثلاث صحف يومياً قبل أن يصل محله. ظن من ساء الظن به أنه يفعل ذلك من باب استكمال وجاهته ولكن تبين فيما بعد أنه استأجر أحد الموظفين يأتيه بعد انتهاء دوامه ليقرأ له الصحف. كان للرجل باع طويل في النقاشات السياسية التي تحتد مساء عند اكتمال نصاب روادها. سيد مهدي، تعرض للتوقيف عدة مرات أبان الأزمات التي كانت تعصف بالبلد. في كل مرة لم تكن الشرطة تصدّق أن الرجل لا يجيد القراءة والكتابة إلا بعد أن يشهد عليه مختار محلته. ترى كم من أمثال سيد مهدي كان الغير يقرأ لهم ليعوا ما يدور حولهم. كثرة احتكاكي بكل هؤلاء علمتني حتى حفظ الشعر. علمتني مفردات اللغة العربية. منذ ما يزيد عن ربع قرن أصبحت مالكاً لمقهى. صرت أملك وقتاً أكثر. مكانك الذي تشغله الآن يشغله يومياً عدة أشخاص أتعلم منهم ما لا أعرفه. يقرأون لي ما يجّد في الصحف والمجلات والكتب. بعضهم يقرأ عليّ ما يكتبونه هم، ما ينشر منه، وما لا يتم نشره. أحث الخطى نحو السبعين من العمر. ثقل تجارب السبعين هذه تجعلني أفهم الناس. أقرأ دواخلهم. أسمع قولهم فأعيه. أرى صمتهم فأفهمه. أشم خوفهم. أحس فرحهم. قد يظن البعض أن هذه مبالغة لأنهم لا يستطيعون تفسيراً لها، ولكن ألا يمكن أن تكون فراسة موهوبة صقلتها التجارب؟
صَمتَ. كان كمن رمى أثقالاً حملها فوقف يلتقط أنفاسه قبل أن يستأنف سيره. هو أيضاً صامت، متلهف لمعرفة ما يريد أن يصل إليه هذا الرجل.
= لا يحتاج الأمر لعقل عبقري لاكتشاف الحقائق. أبناء جيلك ورثوا شغف العمل السياسي منا. ظنوا أنهم الورثة الشرعيون لنضالنا الذي امتد على مدى ما يقرب من أربعين عاماً. لم يعرفوا كيف يكون قطف الثمار. لم يكتفوا بما أتلفوه من حصاد الموسم، ولكنهم تسببوا في دمار البستان، كما ترى. أن تكون متعلماً، مهتماً بالأخبار السياسية التي تطالعها في الصحف التي لا تكاد تفارقك فهذا معناه أنك ممن خاضوا في السياسة، هذا ما لا يمكن للشك أن يجد ثغرة فيه. إذن والحال هذه فأنت إما أن تكون مع أو ضد. فلو كنت (مع) لما عثرت على مقهاي هذه ولما أصبحت من مدمني ارتيادها. فإذن أنت (ضد).
رغم قلقه مما توصل إليه الحاج جاسم فقد وجد الانشراح طريقاً إلى نفسه. أعجب بالأسلوب الذي أتبعه هذا الشيخ في الاستنتاج. ودّ لو حاوره، ولكن أنّى له ذلك وهو رهين خوفه. هذا الرجل مدرسة متكاملة. التفت إلى صاحب المقهى قائلاً:
= كما تعرف، فإن عليّ النهوض مبكراً. هلّا سمحت لي بالانصراف لأخذ حاجتي من النوم. نكمل، إن تهيأت الظروف، نقاشنا.
= رافقتك السلامة. لا تشغل نفسك بإكمال النقاش فقد أخذ الموضوع حقه فيما قيل، وأظن أن شوكة من أشواك القلق أو الخوف قد انتزعت، أو فلنقل إن جاسم أصبح موضع ثقة. ألستُ موضع ثقة يا أستاذ صبري؟
= كل الثقة. وداعاً.
لم يكن معتادا على استخدام مفردات تدل على المطلق من الأحكام. فكيف أستخدم (كل) في وصف الثقة؟ قرر ألّا يجّد في بحثه عن السبب وإلا أرق ليلته، فليدع الأمر على ما هو عليه.
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● عنق الزجاجة
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- [...]