غانية الوناس - الجزائر
ثـرثـرة
وجَدتُني مَساءً أَجْلس في غُرْفتي المعتمة تلك، مقابل تلكَ المِرآة التي لا تكُفُ ترقُبني كلّ لَيْـلَة، لعلّها تَفهمُ مَا يجُولُ برأْسِي، أنَا الّتي لمْ أعَوّدِهَا على وجهِي كَثيرًا حتّى لاَ تحفظَ تقلُبَاتي، فالمرَايَا تفضحُ كلّ شيْء، حين تنظرُ إليهَا بصدقْ، ولا يمكنُ بأي حالٍ من الأحوالْ إقنَاعهَا بعكسِ ما ترى.
قرأتُ مرّة، أو رُبما خُيِّل إليّ أني قرأتُ، أن المرايَا لاَ تكذبُ مطلقًا، لذلك يصعبُ عليكَ خدَاعُها، أو الكذب عليهَا، ولذلكَ كنْتُ أتجَنبَّها قدْرَ المُستَطاع، فقد كنت بيني وبين نفسي أجبنَ من أن أُواجه ذاتي في مرآة. أشعلتُ سيجارةً كانت معي، ورُحت أتأمل نفسي مع سيجارتي وهذياني. يا للجنون! ماذا أفعل؟
أجلسُ بأناقة الأدباء إلى طاولةٍ صغيرةٍ، في غرفة نصف معتمةٍ، مع نورٍ خافتٍ لمصباح يُحتضر، بيدِي سيجارةٌ مترددةٌ، خائفة، تهتزُ بين أصابعي، أمامي فنجانُ قهوةٍ مرةٍ، ودفترٌ أنيقٌ وقلمٌ أزرق، للمصادفة كانَ أزرق على غير العادة.
تمامًا كما نتصور دائمًا في مُخيلتنا الموروثةِ الضيقة، صورَةَ كاتبٍ أو أديبٍ، دون أن أنسى نظارتي التي باتت مزعجةً جدًا في آخر فترةٍ، وهي ليستْ "بريستيجا" لكاتبٍ على الأرجحْ، ولكنها كانت وصفة من طبيب.
رُحتُ أسحبُ دخان السيجارة بعنفِ مدمنٍ يدخنُ سيجارةَ الحياة الأخيرَة، سيجارةَ النفس الأخيرْ، سيجارةَ الانتحارِ صمتًا. كنتُ أحاولُ أن أُخزّنَ دُخانهَا في صدري قدرَ ما أستطيعْ، أوْ لعلّي كُنت أُحاولُ أن أَخنُق بذاك الدخان كلّ التعبِ المتراكمِ في نفسي. كنتُ أُحاولُ أنْ أُحرق ما تبقى في قلبي من نبضٍ كان يتسارعُ مع كلّ شهقةٍ، ويصرخُ بي.. اقتليني، اقتليني أخيرًا وانتحري بعدي.
مرهقةٌ كنتُ ربّما، و فنجانُ القهوةِ المرّةِ تلك زادني مرارةً، زادني إرهاقًا وتعبًا، طعمها المأساويُ ذاكَ، كنتُ أرتشفُ منها رشفاتٍ مرّة، لعلّي بذلك أختزلُ كلّ المرّ الّذي يجتاحُني كلّ مساءٍ على أُهبةِ الكتابَة.
أشعرُ أنّي أهوٍي إلى سحيقِ أفكارٍ تجرفُني معها، كما السيولُ تفعلُ بقشّةٍ لم تعد بها قوةٌ للمقاومةِ، فاستسلمت راضيةً بقدرٍ ليستْ تملك معه شيئاً.
إنّي أتحولُ في اللحظة آلافَ المرّات، أُصبحُ بوجهٍ وأُمسِي بوجهين، وثلاثةِ أوجه وأربع، وأجلسُ أعُدُّ الأقنعة التي أرتديهَا واحدًا تلو الآخــرْ.
وأنا بين كلّ ذلك أتفقدُ صفحاتِ الدّفتر الّذي أسطر على هوامشِهِ عناوينًا لقصصٍ أكتُبُها، وأوقعها بأسماءِ الّذينَ أحبّهُمْ. إنّي أنفصمُ عن نفسي كل مساء، أصبٍحُهّن جميعًا، أولئك اللّواتِي أكتُبهّن سطورًا منثورةً على صفحاتْ، فأغدو وأنا ما بين حدّ القلمِ والألمْ، على شفيرِ هاويةٍ قد أَقَعُ فيهَا بين لحظةٍ وأخرَى.
فجأة، تُحرقُني السيجارَة المشتعلة، تُحرقُ أصابعي احترقت هي، استهلكت نفسها، ودخّنتْ تَبغَها، وأنَا ما دخّنْتُ منها سوى السرابْ.
حائرةٌ كنتُ، كأن قدمايَ تغُوصَان في رمالٍ متحركةٍ، كانتْ تسحبُني إليهَا، أكادُ أختنقْ، أحاولُ عبثًا التنفس مجددًا، أسحبُ أنفاسًا كأني أسرقُهَا من الهواء.
فجأة، تُحرُقنِي السيجارةُ المشتعلةُ بين أصابعي، تُحرُقنِي وما كنتُ قد لامستُهَا، كانتْ تلكَ أصَابعَ بَاسِمَة التي جلسَتْ تُسْندُ ظهرهَا إلَى جِدارِ الانتظار، تُدخنُ سيجارتهَا الأخيرَة قبلَ أنْ ينطِقُوا أخيرًا بالحكم.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
ثـرثـرة, إبراهيم يوسف- لبنان | 25 نيسان (أبريل) 2012 - 06:17 1
غانية الوناس- ألجزائر
يا للغـُــــــــروبِ وما به من عَبْرَةٍ للمستهــامِ وَعِبـْـــــــــرَةٍ للرائي
وكأننــــي آنَسْتُ يومــــي زائـــــلاً فرأيــتُ فـــــي المرآةِ كيفَ مسائي
بوحي مما تقولين، فلا ضير يا سيدتي أن تتفرسي جيداً في مرآتك وفي وجوهِ الناسِ من حولكْ..
نرسيس فتى جميل، تاهَ مرةً في الغابةِ وحادثَ ربَّةَ الصدى فافتتنتْ به، وهَرَعتْ إليه من قلبِ الغابةِ فاتحةً ذراعيها، لكنّه لم يعبأ لها لأنه باردُ القلبِ ومغرورْ. أخفقتِ الجنيَّةُ وحَزِنتْ حينما لم يستجبْ لها، فآثرتْ أن تحتجبَ عن الظهور، ونرسيس أوصدَ قلبَه فتجاوزَ غُرورُهُ رَبَّة الصدى، لينالَ من قلوبِ الكثيراتْ من عرائسِ المروجِ والغاباتْ.
أصابَه العطشُ وهو في رحلةِ صيدْ، وحين انحنى على الجدولِ ليشربَ تلألأ وجهُه بكلِّ بهائِه على صفحةِ الماءْ، وإذ ذاك بدأتْ رحلةُ العقابِ الأليمْ، فعافتْ نفسُه الأكلَ والشربَ والنومْ، وحكمَ على حالِه بالقنوط.
وقعَ في هوى نفسِه، وخانتْه قواهْ، فشحبَ لونُه وتغيرتْ أحوالُه، وشعرَ بدنوِّ أجلهْ، وتشهدُ ربّةُ الصدى الجنية التعيسة عذابَ نرسيسْ، فتتأوه وتتحسرُ على حالِه لأنَّها لا تزالُ تحبُّهْ. هكذا مالَ نرسيسْ على الأعشابِ وأغمضَ عينيهِ إلى الأبدْ، وحيثما هوى برأسِه على الأعشابْ، نبتتْ زهرةٌ "النرجس".. زهرة شذية تألقتْ فتنتُها بجمال نرسيس.
تشكيلُ أواخرِ الكلماتْ في نهايةِ الجملة، بحركةٍ ساكنة، أحببتُها ووددتُ لو استخدمتُها مراتٍ كثيرة.. وأنتِ يا صديقتي تستحقينَ الشكر وعنايةَ أكبر.
1. ثـرثـرة, 30 نيسان (أبريل) 2012, 06:14, ::::: غانية الوناس- ألجزائر
ربّما بعد أن كتبتُ هذا وانتهيت ، أكتسبتُ بعض الشجاعة للنظر إلى المرآة ،،
لكنّي لازلت عند رأيي بأن المرايا تفضحنا ، وتعرفنا أكثر ممّا يجب،
أعجبني كثيراً هذا الربط الذي أسردته ها هنا ، ربما أستطيع لحدّ ما تفهم ما فعله نرسيس ، لكنّه ربما قد بالغ حين وقع في هوى نفسه، بالنهاية هو كان الخاسر الأكبر،، العزاء الوحيد له انه قد ترك شيئاً ما سيدل عليه دائماً،وهي تلك الزهرة الساحرة..
التشكيل طقسٌ من طقُوس الكتابة لدي ، لا أدري ولكنّي أشعر أنه يضيفُ شيئاً ما للنّص،سحرٌ يقعُ في نفسي حين أقرأ، اتمناه أن يقع في نفوس كل من يقرأ بعدي ..
سعدتُ كثيراً برأيك أستاذ ابراهيم ، وأتمنّى أن أكون دائماً بمستوى كل من يمرّ من هُنا..وبمستوى القلم الذي لا يكتبُ إلا ما يجب. وما يستحق القراء.
شكراً جزيلاً.
ثـرثـرة, زهرة-ي-الجزائر | 21 أيار (مايو) 2012 - 13:02 2
الأخت غانية الوناس
لا شك تعرفين قصة "خداوج العمياء" صاحبة القصر الاثري العتيق بالجزائر العاصمة و الذي يعود للعهد العثماني و مازال يعرف باسمها الى اليوم.
تروي الاسطورة ان الاميرة خديجة التي اشتهرت ب" لالة خداوج العمياء" ابنة احد البشوات، كانت فتاة باهرة الجمال و الحسن مما جعلها لاتفارق المرآة. تغير تسريحة شعرها الحريري، وتبدل فساتينها عدة مرات في اليوم، وتفرط في استعمال الكحل و المساحيق، وتنفق الساعات الطوال تتملى جمالات وجهها في المرآة حتى فقدت البصر. هذه قصة خداوج والمرآة اللعينة.
سلمت غانية وسلمت عيناك. اذا كانت نظاراتك طبية وليست "برستيجا" فان السيجارة "برستيج" مضر وقاتل، أتمنى تدخينك اياها في الخيال فقط وانت تتقمصين دور باسمة في احدى قصصك.
1. ثـرثـرة, 29 أيار (مايو) 2012, 15:15, ::::: غانية الوناس.الجزائر
عزيزتِي الزهرة،
خداوج كانت مأخوذةً بجمالها لذلك كانت لا تفارق مرآاتها،
، فيما أنا لم أكن على وفاقٍ مع المرايا منذُ كنتْ،
أعتقد أن الورق كان دائماً الرفيق المحبّب إليّ، وتلك النظّارة صارتْ قدراً أتعايش معه حتّى مع تولد الانزعاج منها أحياناً،
أمّا التدخينُ ، فلم يسبق لي أن جرّبته إلا في نصوصِي ،لذلك لستُ اعرف له طعماً حتّى .
سلمتِ عزيزتِي وشكراً لاهتمامك وتشجيعك.تحيّاتِي لكٍ.