فنار عبد الغني - لبنان
البحث عن شقة 2: شقق المهندس لطفي
لطفي مهندس معماري ينتمي لعائلة عريقة. إنجازاته الهندسية صروح في عالم الفن المعماري. كان يتعمد بناء مباني فريدة في تصميمها وفي جمالها المبهر. في الواقع، إنجازاته تعكس روحه المتوقدة وذوقه اللامع وانتمائه الطبقي بكل أبعاده النفسية والتربوية والثقافية والاجتماعية.
استقبلنا المهندس لطفي وهو رجل تجاوز العقد السابع من العمر بكل مودة. وكان قد حضر على الموعد عند مدخل إحدى مبانيه الذائعة الصيت في ذوقها وأصالتها الفنية. كان مدخل المبنى من الرخام الصقيل الذي يجعل الأضواء تنعكس في كل نواحيه. المبنى رغم تجاوزه العقد الرابع، ألا أنه لا يزال محطاً للأنظار. هنا لا يسكن إلا الأطباء المشهورون في المدينة ورجال الأعمال الأثرياء.
قال لي زوجي قبل وصولنا: "إن لطفي لا يبيع شققه إلا لمن يرضى عن طبقته الاجتماعية والثقافية ولمن يحظى بإعجابه، وقد أرسل لي عندما بلغه خبر أننا نبحث عن شقة من يبلغني أن لديه شقتين للبيع في هذا الحي".
كانت الشقة لأخت لطفي، وكانت تقع في الطابق الخامس بعيداً عن ضوضاء الشارع. دخلنا إلى رواق الشقة التي تشي جوانبها ببقايا تصاميم مترف من النوع القديم، ثم دخلنا إلى قاعة الاستقبال فغرفة السفرة. كانت الأسقف والجدران مزخرفة من كل جانب زخرفة تناهز العقد الرابع أو الخامس. أما مساحتها فكانت واسعة جداً، غرفة تقول عنها جدتي رحمها الله "غرفة يسرح فيها الخيّال".
انتقلنا إلى المطبخ المتهالك الأبواب والنوافذ. أما بلاط الأرض والجدران فلن تجد مثله إلا في مسلسلات السبعينات من القرن الماضي. دلفنا إلى غرف النوم الواسعة أيضاّ ذات الشرفات المطلة على الجهة الغربية للمدينة التي امتلأت عن بكرة أبيها بمباني عشوائية، تجمع فيها سكان من كل حدب وصوب، لا تجمع بينهم أية صلات.
بدا المكان وكأنه غابة إسمنتية موحشة، ما إن تنظر إليها حتى يرتد إليك بصرك خائباّ كئيباً محملاً بمشاعر غريبة ثقيلة على الروح جعلت قلبي ينقبض.
انتقلنا إلى مبنى آخر للطفي كان بجوار الذي كنا فيه، وأكاد أجزم أن لطفي قد بنى هذا المبنى قبل ظهور الغابة الإسمنتية التي جعلته يترك المدينة هو وأخته وابن أخته صاحب الشقة التي نحن بطريقنا إليها والسكن على سفح جبل يطل على المدينة والبحر.
كانت الشقة على الطابق الأول، وقد صعدنا مع لطفي على الدرج. وبين الطابق الأرضي والطابق الأول كان هناك طابق سري يسمى الميزان، كان سكانه قد نشروا على الدرج صعوداً ونزولاً كل ما يمتلكون من ملابس مغسولة، الأمر الذي أزعج زوجي صاحب الذوق الرفيع والترتيب والعاشق للأناقة في كل الأشياء. نظرت إلى وجه زوجي وقرأت ملامح الاستياء الواضحة عليه.
كانت الشقة كبيرة وجيدة الغرف وواسعة الشرفات لكنها معتمة. ومما زاد في عتمتها أيضا الباركييه المنتفخ من جراء احتباس مياه الأمطار الراكدة على الشرفة الطويلة بسبب انسداد أنبوب المجاري. وهذا للأسف أمر يحدث في الطوابق الأولى في المباني. الطوابق الأولى في مجتمعاتنا غير مرغوب فيها لهذا السبب، وأسباب أخرى منها رمي سكان الطوابق العلوية لأشيائهم عليها. كما أن المكان محاصر من كل صوب بالعديد من المباني بحيث يشعر الساكن بأنه مقيد ولا يمكنه الخروج للشرفة، فإذا خرج سوف تلاحقه العيون الغريبة.
كان المهندس لطفي لطيفا جداً وودودا، عاملني أنا وزوجي بكثير من الاحترام واللباقة. وقد سُر زوجي منه كثيراً وكان ميالاً لشراء الشقة الأولى التي تقع على الطابق الخامس، بعد أن خفض له لطفي من ثمنها وقرر بيعها لنا بالتقسيط المريح، لكنني لم أسعد بذلك، فالشقة بحاجة إلى ورشات عمل عديدة حتى تواكب عصرنا، ومساحتها واسعة جداً، فما عساي أفعل ببيت مساحته 280متراً. لست بحاجة لكل ذلك.
بذلت جهداً لإقناع زوجي بالعدول عن رأيه وصرف النظر نهائياً عن هذه الصفقة. وعندما بدأت كتابة قصتي عن تلك الشقة، راودني شعور بوحدة كثيفة وسط تلك المساحة الشاسعة الفارغة المطلة من الخلف على غابة إسمنتية سوداء، مكتظة بالأصوات والأنفاس، وبعيدة عن الشمس.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي