عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 37: صيف 2025 » عشتار والغرباء: مسرحية

أوس حسن - العراق

عشتار والغرباء: مسرحية

(سيرة جديدة لبلاد الرافدين)


أوس حسن الشخصيات: عماد: في منتصف الثلاثينات من عمره. نحيف ويرتدي بنطالا أسود وقميصا أبيض مكفوفة أكمامه بحيث يظهر ساعديه. له لحية خفيفة ومرتبة تتناسب مع ملامح وجهه القاسية والوقحة.

إيفان: طويل وضخم قليلا، في نهاية الثلاثينات. يرتدي بنطال جينز أزرق وحذاء رياضيا أبيض مع تيشيرت أحمر عريض. تبدو على ملامح وجهه الطيبة والغضب.

نور: في نهاية العشرينيات من عمرها ذات طول متوسط. محجبة وترتدي بنطالا ضيقا وقميصا أبيض طويل مع كعب عال.

ليلى: في منتصف الثلاثينات، ذات شعر أسود طويل، هندامها بسيط، تنورة سوداء مع حذاء فلات أبيض، وقميص أحمر.

منشدو الفرقة البابلية خمسة أو ستة أشخاص.

(تنفرج الستارة على شقة في طابق علوي. في منتصف المسرح توجد كنبتان بشكل متقابل نسبيا بحيث لا يحجب الرؤية عن الجمهور، وخلف الكنبتين عند الجدار نافذتان متباعدتان.

في الجهة اليسرى من المسرح عند الحافة طاولة وكرسيان تبدو واضحة للجمهور، ومن الجهة اليمنى باب للخروج من الشقة، وعند الجهة اليسرى في مقابل الخروج، ممر يفضي إلى بقية غرف الشقة. الوقت ليلا، والإضاءة في المكان ساطعة نسبيا.

(نور وليلى تجلسان إلى نفس الكنبة وإيفان يجلس إلى الكنبة الأخرى)

(يُسمع وقع أقدام وصفق باب لشخص قد خرج من الشقة توا)

إيفان: هل جننتم؟ ما كان عليكم أن تدعوها تخرج في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

نور (موجهة كلامها إلى إيفان): ستعود، لا تقلقوا عليها، إنه دلال الأطفال ليس إلا، إن شئتم اذهبوا خلفها وأعيدوها ما دمتم خائفين عليها وتحبونها لهذه الدرجة.

ليلى (توجه كلامها إلى نور): أنت تعلمين حساسيتها المفرطة وحالتها النفسية المتأزمة، ما كان عليك أن تتفوهي بهذه الكلمات الجارحة، هل لأنها غريبة عن بلادنا ومخالفة لملتنا؟

نور (تنهض من الكنبة. تضع يدها على خصرها وتتكلم بعصبية): أنا لم أقل شيئا ولم أتفوه بشيء، لماذا تحملونني المسؤولية، لم يعترض أحد منكم على خروجها. ثم، ألم تلاحظوا غرورها وكلامها الصلف أثناء الحوار؟ كيف يمكن لهذه الغريبة أن تتكلم معي بهذه الطريقة، أنا ابنة السيد (م) أكبر مرجع في هذه البلاد، أم أنكم تجهلون مكانتي وعراقة نسبي؟

ليلى: لكن هذا لا يعطيك الحق أبدا في أن تتطاولي عليها وتتفوهي بتلك الكلمات أمامها، تبقى إنسانة لها حساسيتها ومشاعرها التي قد تُخدش. إن الكلمة أقوى من السيف، والجرح الذي تخلّفه الكلمات قد يبقى غائرا ولا يمكن أن يشفى.

إيفان (يتكلم بهدوء واتزان إلى نور): أرجوك اهدئي يا نور واجلسي، لنرى ما يمكننا فعله.

(تجلس نور على الكنبة)

يكمل إيفان كلامه: سأخرج الآن للبحث عنها.

ليلى: إن ما تفعله عين الصواب، خذني معك.

(يهمان بالخروج بينما نور تبقى جالسة على الكنبة، في تلك الأثناء يدخل عماد إلى المسرح. يتوجه إليهم بخطوات سريعة وانفعالية):

ما الذي يحدث، ما هذا الضجيج؟ ما هذا الصراخ؟

نور: لقد خرجت عشتار من هنا غاضبة ومستاءة، والسيد إيفان والسيدة ليلى يضعان اللوم عليَّ، متهمينني بأنني جرحت كبرياءها وخدشت مشاعرها.

عماد: أرجو أن تحكوا لي بالضبط ماذا حصل؟

(يقف الثلاثة، نور إلى جهة، وليلى وإيفان إلى الجهة الأخرى، يأتي عماد لينضم إلى نور)

ليلى: إن المكانة والجاه والنسب الرفيع الذي تتمتع به نور، تظن أنه يعطيها الحق في أن تهين الغرباء وتذلهم، لقد قالت كلاما كبيرا وجارحا بحق عشتار.

(لحظات صمت وذهول من الجميع)

إيفان: أنا لم أنتبه، جاءتني مكالمة طارئة فانشغلت بها.

(تهمس ليلى في أذنَي عماد، يمتعض عماد ويغضب)

يوجه نظرات حادة وغاضبة إلى نور: نووور، هل أنت مجنونة؟

نور: ألم تقل لي أنت أشياء أفظع عن السيدة عشتار وعن تاريخها الغامض؟ لا تنظر إليَّ هكذا يا عماد، إنها الحقيقة التي لا بدّ أن تظهر يوما، ولا بدّ أن يعرفها الجميع.

ليلى: كلنا نعرف عشتار الإنسانة الكريمة، وصاحبة الأخلاق الطيبة وحسن المعشر والضيافة، كما أنها إنسانة مثقفة والكل يشهد على مواقفها المشرفة وما قدمته من خدمات للناس والبلاد.

إيفان: لا فائدة الآن من هذا الكلام، علينا أن نخرج جميعا للبحث عن عشتار.

ليلى: أجل، يجب أن نخرج الآن للبحث عنها.

عماد: فلنخرج، لكن هل يعرف أحد أين تقيم؟

ليلى: نحن لا نعرف مسكنها حتى هذه اللحظة، ولا مكان عملها، لا نملك أي دليل أو عنوان يمكننا أن نذهب إليه.

عماد: سأتصل على رقم جوالها لأرى أين هي الآن.

(يحاول الاتصال لكنه يجد الجهاز مغلقا وخارج نطاق التغطية)

يحاول كل من ليلى وإيفان الاتصال، إلا أن المحاولة تفشل.

ليلى: نحن لا نعرف إلا المقهى الثقافي الذي ترتاده مساء بعد عملها.

إيفان: هل سنصبر إلى يوم الغد، نحن جميعنا قلقون من أجلها، ألم تنظروا إلى هيئتها وملامحها، لقد كانت متعبة وعلى وشك الانهيار قبل أن تغادرنا.

ليلى: كان وجهها أصفر وشاحبا، كأنّ مرضا أصابها. لم أرَ في عينيها تلك الالتماعة، وهذا البريق الذي يتوهج بالذكاء وسرعة البديهة، كانت شاردة وعيناها ذابلتين، وكأن مسّاً من السحر أصابها.

عماد: كان عليكم أن تخبروني، أو أن تمنعوها من الخروج.

ليلى: لقد أصبنا جميعنا بالذهول، هناك شيء ما كبلنا، لم نستطع منعها من الخروج.

إيفان: فلنذهب جميعا بسيارتي.

عماد: لا، سيارتي أكبر، سنذهب جميعا للبحث عنها في كل مكان.

(في تلك الأثناء، نرى نور صامتة ويبدو على وجهها علامات الغيرة والحقد والكراهية)

نور: أراكم جميعا مهتمون بتلك الغريبة التي لا أصل لها ولا تاريخ، تلك الغجرية التي سحرتكم بكلامها المعسول الذي يخفي سُمّا، تلك التي لا تعرفون شيئا عن حقيقتها. (تتحرك وتقف في المنتصف، تتكلم بغيظ وحقد): ثم ما الذي يعجبكم في هذه المرأة التي تدّعي الثقافة والحضارة واللباقة في الكلام؟ ألا ترون كيف تسيء إلى عاداتنا وتقاليدنا الموروثة عن أجدادنا بحجة التنوير والتحرر؟ لماذا تهتمون بها كل هذا الاهتمام، وتستمعون لكلامها منبهرين وكأنّ لوثةً أصابت عقولكم؟ أنتم يا أبناء أرضي وشعبي، الكل يعرف جذوركم النقية، وعشائركم الأصيلة ذات المجد والتاريخ المشرف. إن المرأة التي تظهر مفاتنها للرجال وتتباهى بالكشف عن عورتها، هي مجرد سلعة للرجال، أداة للإثارة لا أكثر.

ليلى: لكن عشتار لم يكن يعنيها المظهر أصلا، ورغم ذلك لم أكن أراها حتى ذات اهتمام بمظهرها الأنثوي، إن قيمة عشتار تكمن في عقلها وقيمتها الإنسانية. ثم يا سيدة نور، أنا أوافق وأؤيد كثيرا من أفكار عشتار ومفاهيمها عن المرأة وعن الازدواجية في الحياة والمجتمع، فهل أنا بنظرك شاذة وخارجة عن الملّة والعرف الاجتماعي؟

نور (تتجه إلى ليلى وتحاول أن تتصنع الود والمحبة): لا، لا، أبدا، كلّا يا حبيبتي، هذه حريتك وخيارك الشخصي، وأنا لا أتدخل فيه أبدا، وأنت تعرفين كم أحبك وأقدرك، على الأقل أنت لست غريبة عنا، وكلنا نعرف تاريخك وتاريخ عائلتك العريقة والمعروفة.

ليلى: لا تعنيني هذه الأمور، بقدر ما يعنيني أن أكون إنسانة مع نفسي وفي تعاملي مع الآخرين، حتى لو حلَّ غريب بيننا فهو إنسان قبل كل شيء.

إيفان: نعم، القيم الإنسانية قبل الأعراف والتقاليد، القيم الإنسانية هي التي تحدّد أخلاقنا في الخير والشر، أو في الضرر والفائدة، وبناء عليه تصبح الحرية الفردية خيارا شخصيا بشرط أن يصون كل فرد منّا الآخر وكرامته في التعبير عن آرائه وحقه في الحياة.

عماد (يوجه كلامه إلى إيفان بخبث ومكر وغيرة): تقصد الأخلاق العلمانية والليبرالية التي استوردناها من مفاهيم الحداثة وما بعدها في الحضارة الغربية، والتي ستعمل على تحلل وتفكك مجتمعنا وقيمه الأصيلة؛ قيم الأجداد وتقاليدهم الراسخة منذ قرون. ألا تعرف أن هناك مؤامرة كبرى على بلادنا لقتل الأجيال الجديدة من الشباب عن طريق التشكيك بثوابتهم ومعتقداتهم؟ نحن في حرب جميعنا، ولن نسمح للدخلاء بانتهاك تلك الأخلاق التي تربينا عليها.

إيفان (بغضب نوعا ما): لست بوقا أو ببغاء لأفكار الحداثة الغربية، إنني أتجرأ على استخدام عقلي في صلب مجتمعنا البائس، إن عقلي غير كسول ويعمل بنشاط دائم، لذلك فلن أسمح بتاتا بأن أؤجر عقلي لمرجع كبير يفكر عني في كل صغيرة وكبيرة.

(لحظة صمت)

(يكمل إيفان بصوت هادئ وبثقة تامة: أنت مسؤول مرموق في مكتب السيد (م). حسنا لا بأس في ذلك فأنت تدافع عن مكاسبك ومصالحك قبل كل شيء

عماد (بود ومحبة يحاول استلطاف إيفان؛ يقترب منه): لا، لا، أنت تعرفني جيدا وتعرف ما قدمت من مساعدات للفقراء والجمعيات الخيرية. أنا لا تهمني المكاسب ولا المناصب، لكن رغم كل شيء تبقى صديقي وأنا أحبك، لكنها قوانيننا وعاداتنا التي لن نسمح لمخلوق على وجه الأرض بأن يفسدها. إنها مسألة وجود، صراع من أجل البقاء وإثبات الذات، ولا تنسى أننا سننتصر، لأن الله معنا وهو ناصرنا.

نور (تبتسم وتقترب من عماد، توجه له نظرات وغمزات تنم عن إعجاب وحب): لا فُضّ فوك يا سيد عماد، سلمت، كان عليك أن تخبرهم بهذا الكلام منذ زمن، فإيفان وليلى متأثران جدا بأفكار عشتار وشذوذها الفكري، إن ما قلته الآن هو الرجولة والشجاعة بعينها، لأن الحق نادر هذه الأيام، والإمّعات كُـثر، وزماننا يمشي بالمقلوب.

(تمشي مشية فيها ميوعة وإغراء أنثوي، تنادي عماد بصوت رقيق، يتجهان إلى الطاولة الموجودة على حافة المسرح، يتكلمان كي لا يسمعهما إيفان وليلى، لكن كلامهما يكون واضحا للجمهور)

نور: متى نكرر لقاءنا، كانت ليلتنا الأخيرة من أسعد أيام حياتي، أنت لي وحدي يا عماد، إني أحبك ولا أقوى على فراقك أبدا. إني أشتاق لك في كل لحظة يا طفلي ويا حبيبي الأبدي. إني احترق، أريد أن نكون سويا بأقرب وقت، لم أعد أحتمل هذه النار التي تحرقني. ارحمني أرجوك.

(نور تكلم نفسها بصوت خافت، لكن عماد يسمعها): اووف لم أعد أطيق صبرا، إني أكره القيود، أريد أن أكون حرة، اللعنة على مجتمعنا وتقاليده البالية

عماد (بانفعال وهمس): اششش، اخفضي صوتك يا مجنونة، سيسمعوننا، أنت ابنة السيد (م). لا تتفوهي بأي شيء حتى بينك وبين نفسك.

نور: إني أحبك، وأبي يثق بك في كل أعماله، وأنت أيضا شخصية مرموقة في البلاد ومحطّ أنظار الجميع، نساء ورجالا.

(تنظر إليه نظرة فيها يأس وحزن): أني اختنق، أشعر بعفونة الهواء تتسلل إلى حلقي. أعرف أني آثمة وخاطئة، لكن الخطيئة بقدر ما فيها من مجهول يرعبنا، بقدر ما فيها لذة وسحر يحفزنا على اختراقها.

(تقترب من عماد. أكثر تنظر إليه متوسلة): أرجوك يا عماد أنقذني من هذا المأزق، عقلي لم يعد يحتمل هذا الصراع، أحيانا تنتاب جسدي حالة من الرعشة والتوتر، أشعر أني مخدرة وغائبة عن الوعي، وتنتابني رغبة في التقيؤ. أحيانا أكره وأود لو اتقيأها من داخلي. خذني إليك عماد. خذني إليك إلى الأبد.

عماد: أرجوك يا نور إن الوقت غير مناسب لهذا الكلام، سنتحدث في هذا لاحقا، عليّ أن أنجز بعض الأعمال، وأن أتخطّى بعض العقبات أولا. عودي إلى رشدك يا نور أرجوك، سيكون لك كل ما تريدينه. أمهليني بعض الوقت، قليلا.

نور (تعود إلى وضعها الطبيعي وشخصيتها): ألم تتخلص من جميع منافسيك، فهم إما في السجون أو هاربون خارج البلاد خوفا من الفضائح التي دبرناها لهم والتي ستبقى كالعار ملتصقة بهم طوال حياتهم، أما البقية فقد اختفوا أو ماتوا بشكل قانوني؟ (تنظر إليه بخبث ومكر)

عماد: كلّا، كلّا يا نور، أنا لم أعد أفكر في تصفية أي منافس في هذه الأوقات الحرجة. إن بلادنا منقسمة الآن، يفتك بها الفقر والمرض والجوع وحوادث القدر التي تأتي قبل أوانها. كل شيء في بلادنا معرض للانهيار، والأخطر من هذا أننا نواجه حربا ضروسا أشد من أي حرب واجهناها؛ إنها ثورة الوعي. عليّ أن أتخلى عن سياسة الترهيب والعنف، وأن أكون أكثر ثقافة ودبلوماسية، هذا طبعا إذا أردنا البقاء والمحافظة على السلطة.

نور: إن أبي طوال حياته لم يتخلَ عن سياسة القوة في إخضاع الشعب الهائج كالقطيع، ونحن ما زلنا في مناصبنا بفضل هذه السياسة وهذا النهج الذي انتهجه أبي وورثه عن أجدادي. (تنظر ببلادة واستغراب). ثم ماذا تعني بثورة الوعي؟

عماد: إن الزمن تغيّر، وفي زماننا هذا إن استمرت سياسة القوة والعنف والسجون، سيكون مصيرنا مرعبا، سيسحلوننا، وينكلون بنا وبعوائلنا، هؤلاء الرعاع أكثر عنفا ووحشية مما تتصورين يا نور.

نور (تنظر إليه بخوف وقلق شديد): لا، لا أرجوك، إن عقلي لا يستوعب ما تقوله، فبمجرد ما تتبادر هذه الصور إلى ذهني، أكون غير قادرة على الاستيعاب، وأصاب بهلع شديد. نحن باقون إلى الأبد، ونحن هنا منذ القدم، لا أستطيع تصور غير هذه الحقيقة.

عماد: هيّا، هيّا علينا أن نعود، علينا أن ننطلق الآن.

نور (بكراهية وحقد تصك على أسنانها): إني أكرهك جدا عندما أراك قلقا ومنشغل البال على هذه الغريبة الـ.........

عماد (بصوت هامس مرتفع قليلا): حاولي أن تسيطري على انفعالاتك، وتحلّي باللباقة في الكلام، فقد تفلت منك إحدى الكلمات البذيئة أمام إيفان وليلى، وهذا قد يحطّ من قدرك ومكانتك في أعينهم، فأنت ابنة السيد (م).

نور (بعصبية): أووف، لا يهمني كلام الآخرين، إني أحبك وكفى.

(قبل أن يعودا يشاورها عماد في أذنها بصوت مسموع للجمهور):

عماد: نووور، قولي لي، هل ما زال قريبك يضايقك ويتحرش بك؟

نور (بصوت خافت تبدو فيه نبرة خوف وفزع): أششش، اخفض صوتك يا عماد، كلّا. كلّا، سنتحدث في هذا الأمر لاحقا عندما نكون سويا بمفردنا.

(يعودان إلى مكانهما، يجلس الأربعة على الكنبتين بشكل متقابل).

إيفان: ما الذي أسفرت عنه مناقشتكما؟

عماد: لا شيء، إنها بعض الأمور التي تخص العمل.

ليلى: أمور تخص العمل ونحن في هذا الموقف العصيب؟

إيفان: علينا أن نخرج الآن، لقد أضعنا الكثير من الوقت.

ليلى: لا بدّ أن ننطلق الآن.

إيفان: سنخرج بسيارتي.

عماد: كلا، بسيارتي، فهي أكبر.

ليلى: سنخرج بالسيارتين معا.

إيفان: فكرة ممتازة.

عماد: حسنا، لا بأس.

نور: لن أخرج معكم الآن.

(يمسك عماد نور من يدها، يحاول أن يجبرها على الخروج. يهم الأربعة بالخروج.

يُسمع صوت إطلاق رصاص وانفجارات، يتراجع الأربعة عن فكرة الخروج، ينتابهم الرعب، يتراجعون إلى الوراء، تُطفأ الأنوار)

عماد في الظلام: ماذا هناك؟ ما الذي حصل يا إلهي؟

إيفان: ماذا يحدث؟ أين أنتم؟

(ليلى ونور تصرخان من الخوف، تستمر أصوات الرصاص والانفجارات)

(تعتيم كامل. يسدل الستار على المشهد الأول)

* * *

المشهد الثاني

(نفس المنظر في المشهد الأول، لكن الإضاءة أقل سطوعا، وهناك فوضى وبعض الأشياء المبعثرة على خشبة المسرح).

(ليلى جالسة على الكنبة تبكي وتنتحب، إيفان بجانبها يضع يديه على وجهه ورأسه منحنٍ إلى الأسفل، وتبدو على حركات جسده الصدمة والحزن. عماد بنفس المظهر يمشي ويذرع المسرح جيئة وذهابا، يضع يديه على ذقنه وعلامات القلق والتوتر واضحة في مشيته وملامح وجهه، نور جالسة إلى الطاولة البعيدة على حافة المسرح، ساهمة وشاردة ولا يبدو عليها أي انفعال للحزن، تحاول أن تظهر بمظهر وقور للحزن كي تجامل الآخرين)

ليلى: سامحينا يا عشتار. سامحينا. ليتنا منعناك من الخروج. ليتنا استعجلنا قليلا. لقد قتلوك الأوغاد، قتلوك دون رحمة. كيف طاوعتهم قلوبهم على قتل هذه البراءة والرقة؟ كيف؟

إيفان: إن الجهل يستشري وينتشر في هذه البلاد، ويفتك بنا كأي وباء لعين.

إيفان: (ينظر إلى الأعلى وفي عينيه آثار للدموع): عشتار ما زال وهج عينيك يسكن أرواحنا، ما زالت روحك تحمي أحلامنا من السقوط، إني أراك بجناحين كبيرين تحلقين عاليا فوق سماء البلاد الحزينة.

(ينهض عماد وإيفان يمشيان مسافة قريبة، نور وليلى تبقيان جالستين على الكنبة)

عماد: التقرير الطبي يقول إنها انتحرت، وكان هناك شهود أيضا عندما ألقت بنفسها من الجسر إلى النهر.

إيفان: انتحرت أو قُتلت لا فرق، المهم أنها لم تعد موجودة بيننا، ونحن وحدنا من نتحمل مسؤولية موتها، لكن الأفظع من هذا أن رجالكم ما زالوا يرتكبون أبشع الجرائم بحق المتظاهرين وينكّلون بهم في السجون والمعتقلات.

عماد: أنا دعوت إلى سياسة اللين والتفاوض مع المتظاهرين، ولم آمر أحدا بالقتل، نحن غير معنيين بالتصرفات الفردية.

نور: هؤلاء من يسمون نفسهم متظاهرين هم وحوش وبرابرة، متعطشين إلى سفك الدماء. ألم تروا الجريمة التي ارتكِبت قبل عدة أيام؟ لقد أحرقوا شابا وعلقوا جثته المتفحمة على عامود الكهرباء.

إيفان: إن الثورة واضحة في مبادئها، وفي احترامها لحقوق الإنسان، نحن ما زلنا نؤكد على سلمية التظاهرات، أما التصرفات الفردية فلا تعنينا أبدا ولا تمثلنا بأي شكل من الأشكال.

ليلى: نريد أن نحيا في بلادنا بحرية وأمان.

عماد: الأمن قبل الحرية، فلولا الأمان لانعدمت كل حرية حقيقية.

إيفان: الحرية بحد ذاتها هي الأمان إن طبقنا مبادئها العلمية والعملية في بلادنا. الحرية ضرورة قبل أن تكون مفهوما مجردا من المعاني.

نور: لا حرية ولا أمان، ولا بلاد ننتمي إليها دون أن تكون لنا عقيدة أو هوية، إن الغرباء يتربصون بنا ويريدون محو هويتنا من الوجود.

ليلى: هويتنا هي هذه الأرض، ولها وحدها ننتمي، لتلك الشمس التي تشرق عليها منذ آلاف السنوات، نحن ننتمي إلى هذه البلاد وسنبقى ننتمي إليها كما ينتمي الجرح إلى السكين.

عماد: رغم أننا نؤمن بالتعدد والاختلاف وحق المواطنة للجميع، ورغم أن هويتنا واحدة لا يمكن تجزئتها، إلا إننا تأكدنا أن شعارات الوحدة الوطنية والمجتمع المدني الحر، ما هي إلا قناع يرتديه بعض من يدّعي الليبرالية والعلمانية، ليخفي أجندته في التعامل مع الغرباء من الدول الأخرى الطامعة في بلادنا ومقدساتنا.

إيفان: بل أنتم الذين جعلتم من الانتماء الوطني محصورا بالولاء والإخلاص للعقيدة والعرق والطائفة.

عماد: أرجوك يا إيفان، لا تضطرني إلى التكلم معك بما لا أحبّه ولا يحبّه الآخرون.

إيفان (بعصبية): تكلّم، هل تتوقع إني أخافك أو أخاف أمثالك؟

عماد (بثقة وجرأة وقوة): طبعا لو لم تكن مدعوما، لما تكلمت معي بهذه الطريقة، أقسم لك أنك ستهرب كأي جرذ مذعور فقط عند سماعك باسمي.

إيفان (يحتد ويغضب ويقترب من عماد ويصبح في مواجهته): تكلم، ماذا تخفي عني؟ لا أسمح لأحد أبدا بأن يشكك بنزاهتي وصدقي.

عماد (بهدوء مستفز للأعصاب): لقد كشفت لي عشتار قبل موتها، وزودتني ببعض الأجندات الخارجية في تعاملك مع الغرباء، أنت مدان بالوثائق والبراهين، لكني سأؤجل هذه اللعبة إلى حينها.

إيفان (يضحك بصوت جهوري عالٍ، وبسخرية كبيرة): لا بد أنك تقصد نفسك، لأن عشتار قبل موتها هي التي زودتني بجميع الأجندات الخارجية التي تدينك أنت، أليس كذلك؟ كما أنني أحتفظ بالأرشيف بجميع مكالماتك الصوتية على الهاتف والواتساب، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي التي تثبت فيها تورطك ببيع أجزاء من أراضي البلاد للغرباء، وليس هذا فقط فأنت متورط بصفقات مشبوهة معهم، وقد سرقت ما يكفي من ميزانية الدولة بطرق قانونية، لتتم هذه الصفقات في الخفاء، لكنني أنا أيضا أؤجل هذه اللعبة إلى حينها، وحتما أنا سأكون المنتصر، لأنني الوحيد الذي سأعلن الـ "كش ملك" وأنهي اللعبة إلى الأبد.

نور (تنهض من مكانها وتصرخ): كفى، كفى.

ليلى (كذلك تنهض من مكانها وتصرخ): كفى، كفى.

(لحظات صمت ووقفة قصيرة)

عماد (يقف في المنتصف بعد أن يخفّ انفعاله، يشير بحركة من يديه تدل على أن يتوقف الجميع عن الكلام): علينا أن نهدأ الآن، البلاد في وضع حرج، وقد فرضت السلطات حظر التجوال ابتداء من صباح الغد، لقد رحلت عشتار عنّا في ظروف صعبة، علينا أن ننساها وأن نفكر فيما نحن مقبلين عليه.

نور (بجرأة وانفعال): لكن عشتار حتى في موتها جعلت الخلاف يدبّ بينكم. أي أناس هؤلاء الذين يحركّهم الأموات ويهندسون مشاعرهم وطريقة تفكيرهم في الحياة؟

ليلى: عماد وإيفان لم يختلفا بشأن عشتار، بل بشأن الأوضاع في البلاد، ثم ما الغريب في الموضوع؟ وأنت تعرفين جيدا قبل غيرك إن شعوبنا تعيش في التاريخ أكثر مما تعيش في الحاضر، والماضي أكثر سطوة على عقولنا وتفكيرنا، وما يحركنا في الحياة هم الموتى والأصنام أكثر من الأحياء أنفسهم.

نور: هناك فرق بين الرموز التي تعطي كيانا لهويتنا وأرضنا، وبين ما تتحدثين عنه. عموما لست مستعدة، وليس لدي وقت لهذه النقاشات. (توجه كلامها إلى الجميع): هل تعلمون أن قضية عشتار أصبحت قضية البلاد برمتها، بعد أن كانت في حياتها منسية ومهجورة ومهمّشة من الجميع. ليرحمك الله يا عشتار ويُحسن إليك، ليتنا منعناك من الخروج، ليتني ابتلعت لساني في حلقي قبل أن أتفوه بهذه الكلمات.

ليلى (بتعجب واستغراب وسخرية): انظروا من يتحدث!

نور (بعصبية مع احمرار في وجهها): لقد قلت الحقيقة، ألا يعجبكم كلامي؟ إني أحب عشتار، وكنت أتمنى ألّا ترحل وتغادرنا في تلك الليلة المشؤومة، لتسامحني روحك أيتها الشامخة في حياتها وموتها، إن الندم يأكلني وضميري يعذبني، لأنني كنت السبب في موتها.

(في تلك الأثناء تأتي مكالمة تلفونية غامضة إلى عماد، نرى على وجهه علامات القلق والرعب)

عماد (بعد أن ينهي مكالمته السريعة، يمشي ببطء. يرفع رأسه ويتكلم بصدق وثقة والابتسامة تعلو وجهه): كلنا مسؤولون عن موت عشتار، وليس هذا فقط، بل عن الأوضاع المتردّية في البلاد برمتها.

(يقترب أكثر من الجميع، يقترب من نور ويوجّه لها نظرات مخيفة وحادة): لكنك لم تقولي كل الحقيقة يا نور.

نور (متعجبة وخائفة قليلا مع شيء من القلق يبدو في كلامها وصوتها): لكني قلت كل ما يؤرّقني ويقضّ مضجعي، تكلمت الحقيقة ليرتاح ضميري، وترتاح ضمائركم أنتم أيضا من عُقدة الذنب هذه.

عماد (بصوت عالٍ موجها كلامه بحدة إلى نور وإلى الجميع): لن يرتاح ضميرك يا نور قبل أن تقولي لهم الحقيقة كاملة.

لقد انتحرت عشتار يا نور بسبب صورها المفبركة وهي عارية، والتي انتشرت في جميع وسائل التواصل الاجتماعي، والكلّ يعلم أن عشتار بريئة وتم تلفيق هذه الصور لها من أشخاص سريين، وحِرفيـّين ماهرين في صناعة الفوتوشوب والتزوير.

(يتجه إلى الجمهور بعد أن يدير ظهره عن الثلاثة): لقد أمسكنا بالفاعلين ودونّا اعترافاتهم، لقد كنتِ المسؤولة الوحيدة عن تدبير هذه الجريمة وحياكتها بسرّية تامّة، لكن مخابراتنا وأعيننا لن تغفل عن تلك الألاعيب. ولأنك ابنة السيد (م) أكبر مرجع سياسي في البلاد، أغلقنا ملف القضية إلى الأبد. لكن لن نستطيع أن نُسكِت صرخات المظلومين والمقهورين في هذه البلاد، هؤلاء المساكين الذين سلبهم أبوك أبسط حق في الحياة الكريمة.

نور: (شبه منهارة، تضع يدها على رأسها، تجثو على ركبتيها، تصرخ بهستيريا وجنون): لاااااااا لاااااااا لاااااااااا. ابتعدوا عني جميعكم. أكرهكم. أكرهكم.

نور: (تصرخ في وجه عماد): خائن، خائن. حقير، فعلت هذا لأنني أحبك. أحبك. أحبك.

(تتجه إلى عماد؛ تضربه على صدره، تمسكه من قميصه، يُفلت يدها ويدفعها إلى الوراء، تكمل كلامها بحقد وكراهية): فعلت هذا لأنني كنت أعلم وأشعر من أعماقي وبحدسي الذي لا يكذّبني أنك تحبّها بصدق.

نور: كنتَ تحبّها أكثر مني، وقد لاحقتَها مرارا وأعلنتَ لها عن حبّك، وعن رغبتك في الزواج منها، لكنها كانت ترفضك في كل مرة. وصلتني أخبارك وراقبت كل تحركاتك وخططك التي كنت تقوم بها من أجل التقرب منها ومحاولة كسب ودها ورضاها دائما.

(لحظة صمت وسط انبهار الجميع وصدمتهم)

(تكمل نور كلامها وهي تحدّق بقوة وجرأة في عماد): لكن ما ارتكبته أنت بحق عشتار أبشع وأقذر. لماذا لا تجعل ضميرك يرتاح وتعترف للجميع عن فعلتك المشينة وعن العار الذي سيبقى يلاحقك في كلام الناس عنك؟

(تتكلم بصوت محتد وصادق كمن يعترف في المحكمة)

نور: ألستَ أنتَ من اعتقل زوجها المسكين وأودعه السجن بدل الإرهابي المجرم (س) الذي سفرتموه أنت وعصابتك خارج البلاد بصفقة مشبوهة مع الغرباء؟ لقد ضربت عشرة عصافير بحجر واحد، لأنّ الجو سيخلو لك للتقرب من عشتار أولا لتظهرّ لها بمظهر الشهم والشجاع والفارس الذي سيساعدها ويقف معها في محنتها، ولتصبح أكثر لينا في التعامل معك فيرق قلبها وتراجع حساباتها، وفي نفس الوقت هيّأت مكانا للهرب في حال انتصرت ثورة الرعاع، وتسلّم المتظاهرون الوحوش مقاليد الحكم، لتعود مرة أخرى إلى السلطة بعد أن تقنع الجميع أنك تعرّضت للظلم والملاحقة من قبل نظام السيد (م). سيقبلك الجميع لأنك ستوظّف كل ما تملك من إمكانيات ماديّة وإعلامية للترويج لمنصبك الجديد ولشعاراتك المزيفة، والتي عرفناها جميعا عنك. إن الملفّات والوثائق بحوزتي، وقد طلبت من بعض المسؤولين السريين والمتنفذين في جهاز المخابرات إخفاءها وإزالتها إلى الأبد، لكن ما أملكه يدينك بشكل قاطع، وسيودي بك إلى الإعدام السريع.

ليلى (تصرخ بهستيريا وجنون): إني لا أصدق ما أسمعه، ما الذي يحصل؟ مجرمووون خونة. قتلة. فاسدون.

إيفان (يصرخ بقوة ويحاول أن يقترب من نور. عماد كمن يستعد للمواجهة والعراك): مجرمون. قتلة. فاسدون. خونة. سيحاكمكم الشعب. سيحاكمكم أبناء القهر والظلم، ستخنقكم صرخات الجياع والمكلومين.

عماد (بهدوء ومكر): أرجوكم، لقد انتهى كل شيء، وأصبحت الأوراق مكشوفة واللعبة واضحة، وإذا كان الملوك ورجال السلطة يصبحون أكثر إنسانية في لحظات ضعفهم، فلست أنا من يُخدع بهذه السهولة، ولست أنا من يتعرض للابتزاز والتهديد. (يُـمسك يد نور، يلويها ويُجلسها عنوة على الكنبة، يركض بسرعة إلى الممر الذي يُفضي إلى بقية غرف الشقة، يُحضر مسدسا ويوجهه نحو الجميع)
يصرخ بهم: لا أحد يتحرك أو يحاول الهروب، اجلسوا بسرعة.

(يهم الثلاثة بالجلوس، وفي نفس الوقت تبدو علامات الغضب والتوتر على وجه إيفان الذي ينتظر فرصة سانحة للهجوم على عماد)

(يكمل عماد كلامه بعصبية وينظر إليهم بحدة وقسوة): لا يتحرك أي أحد، أو يحاول أن يفعل شيئا، أعطوني جوّالاتكم، ضعوها أمامي.

(يخرجون جوّالاتهم من جيوبهم وهم رافعون أيديهم ويضعونها على الطاولة بسرعة)

عماد يعود إلى الهدوء: الآن يمكننا التحدث بشكل منطقي، لأنكم حكّمتم عقولكم جيدا، وأي معارضة لما سأتفوّه به سيكون مصيركم كمصير عشتار. أما بالنسبة لشعاراتك الجوفاء وقيمك البليدة والمملّة يا سيد إيفان، فلا بد أن تعرف ويعرف الجميع ما قدمته لك، وكيف تسترت عن أفعال شنيعة ارتكبتها (يسخر بصوت عال): يا صاحب القيم الإنسانية والأخلاق العلمانية، أيها المثقف الذي يطالب في كل مرة بالثورة على الفاسدين.

عماد: ألم أمنحك سندا قانونيا لملكية بيت استوليت عليه بعد الحرب، وكان بالأصل لعائلة مسكينة تقيم في أحد دول الجوار؟ ألم أزوّر شهادة في الهندسة لأخيك الذي تولى منصبا في الحكومة مع تيّار اليسار؟ ألم أخصص لك راتبا كسياسي سابق، وأنت لم تكن سياسيا ولا مظلوما في حياتك، بل كنت متسكعا ومخمورا بين أحضان النساء في أوروبا؟ وأنت يا آنسة ليلى، ألم تأت عدة مرات سرا إلى مكتبي لتقترضي المال من أجل البيت الفاخر والأرض التي أنت وإيفان ستشتريانها عند زواجكما؟ ألم تجلبي معك ابنة عمك الفاتنة الحسناء واللعوب إلى المكتب؟ هل تريدين أن أظهر لك الرسائل التي أرسلتها من جوالك الثاني الذي تخفيه عن إيفان، وعدد المكالمات وتوقيتها؟، ثم لماذا لا تخبري إيفان والجميع عن الطامة الكبرى، وهي عن ابن عمك الذي كان على علاقة بأخت نور ابنة السيد (م)؟ وكيف أنقذت الاثنين من قضية تعاطي الحبوب المخدرة، وكعادتي دفعت الكفالة وأغلقت الملف إلى الأبد؟

نور (تصرخ بهستيريا وجنون، تسقط على الأرض): كذاب. مجرم. إنه يكذب. لا تصدقوه. لا تصدقوه.

ليلى (تصرخ وتنهار أيضا): أنت تكذب. تكذب. تكذب أيها الأفّاق الخبيث. (تنظر إلى إيفان): لا تصدقه يا حبيبي، إنه يكذب. إنه محتال ويسعى لبث الكراهية والحرب بيننا.

عماد (ينظر إلى ليلى بغضب): نحن منقسمون الآن بقدر ما كنا متحدين، وهذه هي الحقيقة، ونكره بعضنا الآن أشد الكره، وكل منا يتمنى موت الآخر في هذه الساعة، نحن نكره بعضنا بالقدر الذي نحب فيه بعضنا، أو بالقدر الذي كان يوفر فيه لنا هذا الحب والاتحاد بعض الفائدة والمصلحة.

ليلى (عيناها مُحمرّة من الدموع. تبكي وتصرخ): أرجوك يا إيفان. أتوسل إليك، لا تهدم الصرح الذي شيدناه معا. إني أشعر بالأرض وهي تتصدع من تحتي، وبالحياة تتسرب من بين أنفاسي. (تنظر إلى عماد بغضب وحرقة والدموع في عينيها): أنت لست شيطانا فقط، بل تسكنك كل شياطين الأرض وعفاريتها، أنت اللّعنة التي حلّت على هذه البلاد.

إيفان (ينظر إلى ليلى بازدراء واحتقار): كاذبة. خائنة. فاجرة........

ليلى: أرجوووك يا إيفان. أرجوك. أنت الجدار الذي أستند إليه، أنت لي الطمأنينة والأمان، كيف أخونك وأدنس شرفي وشرفك، إني أحبك بكل ما أوتيت من صدق وعاطفة، أنت الوجود برمته بالنسبة لي، إنه شيطان بهيئة بشرية، يكذب.... أقسم لك بكل ما هو مقدّس إنه يكذب.

عماد: أبدا، فأنا لم أكن في حياتي أكثر صدقا من هذه اللحظة، في هذه اللحظة لم أرتدِ أي قناع، إني الآن أصدق إنسان على وجه الأرض، أليست هذه الحقيقة التي أردتموها؟ ألا تريدون لضمائركم أن ترتاح أكثر؟ لن ترتاحوا إلا بالموت، لأن الحقيقة المفجعة ما إن ينطق بها صاحبها فعليه أن يكون شجاعا ومستعدا للموت.

(يتجه عماد إلى الجمهور): ثم ما الذي يخيفكم من الموت، الموت صار جزءا منّا، وداخل في نسيج وجودنا اليومي، بل وفي أدق تفاصيله، الموت سريع ومجاني على هذه الأرض أكثر من أي أرض أخرى في العالم. الحرائق المستمرة؛ الزلازل؛ الفيضانات؛ الأخطاء الطبية والأمراض؛ حروب الثأر والانتقام. علينا أن نصلّي في كل يوم، بل وفي كل ساعة للموت الذي يرافقنا في كل مكان، لأن المعجزة الوحيدة على هذه الأرض هي الحياة.

(لحظة صمت وفاصل قصير مع موسيقى خافتة)

(نور منهارة تبكي، ليلى تبكي وتسقط أرضا، إيفان يجلس على الأرض متكئا على مسند الكنبة ورأسه إلى الأسفل)

عماد (بصوت عالٍ يوجه كلامه للجميع ويتجه إلى الجمهور مرة أخرى): علينا أن نكون مستعدين للموت الآن، كلّنا أشرار، وكلّنا أخيار في الوقت نفسه. إن الإرادة الحرّة والقرار هما أكبر الأوهام في عصرنا. نعم نحب البلاد لكن رغباتنا هي التي تحركنا قبل كلّ شيء، كلّ الشعارات والتظاهرات والقيم والمبادئ، تحركها رغباتنا الخفيّة والأنانيّة، رغبات لا نعيها إلا عندما نكون في مركز القوة أو السلطة، ولأن العار لا يمكن أن يُمحى إلا بعار أكبر على يد الآخرين، يجب أن نموت جميعا الآن، لا بد أن نموت بجريمة بشعة يرتكبها المتظاهرون. بهذا فقط نكون أبرياء إلى الأبد، وربما نصبح خالدين ومقدّسين في نظر الأجيال القادمة. تماما مثل رموزنا وأسلافنا الخالدين الذي كتبهم التاريخ بطريقته الذكية.

(يشهر مسدسه، يسحب مخزن المسدس، ويضع يده على الزناد متهيئا لإطلاق النار. في تلك الأثناء تُسمع أصوات انفجارات وإطلاق نار في الخارج، فوضى وضجيج، وصوت باب يكسر)

(تعتيم مؤقت، تُسمع في الظلام أصوات عديدة).

= من أنتم؟ ماذا تفعلون هنا أيها الغرباء؟ قفوا مكانكم جميعا.

(تفتح الستارة على إضاءة خافتة مع تغيير بسيط في الديكور، تظهر مجموعة من الجنود بزي بابلي قديم، البعض منهم يحمل سيفا، والبعض الآخر يحمل رشاشا، وآخرون يحملون رماحا، يتقدمهم شخص يبدو بهيئة أحد ملوك بابل، تُسلّط الإضاءة على الجميع، تبدو الشخصيات السابقة، عماد ونور وإيفان وليلى بلا حراك، كل منهم جاثٍ على ركبته وقد تحولوا إلى تماثيل أو أصنام).

مع الموسيقى والطبول. ينشد الجنود البابليون تراتيل وكأنهم في صلاة:

ليتبارك نورك المقدس يا عشتار...

وليتمجد اسمك الغائب في البلاد

يا من تشرقين على الأرض. كشمس الزمان الساطعة

حيّة أنت كالجرح النابض في عروقنا

كصمتنا المخضّب بالأسى.

لقد عاهدناك في ظلمة ليلنا الحزين

على أن نكون فرسانك إلى الأبد

عشتار يا رسولة الحب والجمال

يا قاهرة العبيد والأبطال.

عشتار يا مرعبة الأعداء والغرباء

جئنا من السفر الموعود.

من غسق النهايات جئنا.

نحمل الشعلة الأبدية لشعبنا.

وراية أرضنا التي لا تموت.

بحث


مـواد الـعـدد الـجـديـد