عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 37: صيف 2025 » فلسفة النقد الأدبي لـنظريات الفن: "الطقوس" لسينثيا فريلاند مثالًا

د. نادية هناوي - العراق

فلسفة النقد الأدبي لـنظريات الفن: "الطقوس" لسينثيا فريلاند مثالًا


نادية هناويتتنوع صنوف البحث في دراسة علم الجمال، وغالبا ما تتأثر بما يستجد في النقد الأدبي من نظريات ومناهج أدبية نصية وما بعد نصية، لكن ذلك لا يعني أن علم الجمال منغلق على النقد الأدبي وحده، بل هو منفتح على مختلف المعارف الإنسانية، يتعدى حدود الفلسفة ويتعلق بكل ما هو ثقافي وعلمي.

وإذا كان أفلاطون وأرسطو أكثر فلاسفة العصر القديم اهتماما بجماليات الأدب بنظريتهما في المحاكاة التي ما زالت تحتل منزلة مهمة في عالم النقد الأدبي، فإن مفكري العصور الوسطى وفلاسفتها أضافوا إلى تلك النظرية مسائل أخر، فترسخ النقد واستقل حقلا معرفيا يتماهى فيه التحليل الجمالي بالنظر الفكري.

ولقد اصطبغ النقد الأدبي في العصور الحديثة —النهضوية والتنويرية— بالفكر الفلسفي والاستشراق الأوروبي، فصاغ نظريات جمالية بعينها، وسار على وفق مذاهب أدبية محددة ثم تهيأت له الأجواء للانتقال إلى مرحلة ما بعد حداثية، فيها تأثر بالفلسفات المعاصرة، فابتكر طروحات ومفاهيم جديدة، عليها بنى مناهجه واتجاهاته وتياراته. وعلى الرغم مما وصل إليه النقد الأدبي في مطلع القرن الحالي من استقلال كحقل معرفي قائم بذاته، فانه لم ينفصل عن الفلسفة، بل ظل مرتبطا بها نظريا وعمليا. وتتمثل أهم دوافع هذا الترابط في الصلات الوثيقة بين فلسفة الجمال والنقد الأدبي من ناحيتي التأصيل النظري والتحليل التطبيقي. وعودة بسيطة إلى المؤلفات الفلسفية التي أنتجها العصر الحديث ستؤكد أن النقد الأدبي احتاج الفلسفة مثلما احتاجها علم الجمال.

إن هذه الحاجة هي التي تجعل النقد الأدبي في حالة تطور مستمر، فيجدد نفسه، مضيفا إلى معارفه مزيدا من النظريات والمفاهيم والإجراءات، مستهديا في ذلك كله بالفلسفة وباحثا عن الجمال في أبعد الأغوار وأكثرها شائكية. ومن النظريات المستجدة في النقد الأدبي "نظرية الطقوس" للأميركية سينثيا فريلاند (Cynthia Freeland)، وفيها جمعت النقد الأدبي بعلم الجمال وطرحتها في كتابها " ولكن هل هو فن؟ مقدمة لنظرية فنية"[1].

تقوم هذه النظرية على فكرة أن الفن تصنعه الممارسة العملية، وتستند فريلاند في بناء هذا التصور النظري إلى الفلسفة البراغماتية بوجه خاص وإلى ثلاث مرجعيات فلسفية بوجه عام؛ وأولاها فلسفة ديفيد هيوم (1711–1776) الذي رفض فصل الفن عن الخبرة "فالآداب الرفيعة بأسرها ليست سوى صور عن الحياة البشرية في مختلف المواقف والأوضاع. والفنان سيكون أكثر تأهلا للنجاح بهذه المهمة إذا كان يمتلك بالإضافة إلى رهافة الذوق وسرعة البديهية، معرفة دقيقة بنسيج الفاهمة الداخلي وعملياتها وبتقلبات الأهواء ومختلف أنواع الشعور الذي يميز الرذيلة من الفضيلة، فعالم التشريح يعرض أمام العين أبشع الأشياء وأكثرها إزعاجا لكن فعله مفيد للرسام في رسمه تمثال فينوس أو هيلانة، في جميع الفنون والمهن حتى في تلك التي تهم أكثر ما تهم الحياة والأفعال، فإن روح الدقة هو الذي يحركها جميعا، وهو الذي يجعلها أكثر فائدة لأغراض المجتمع"[2].

والمرجعية الفلسفية الثانية هي لجون ديوي(1859-1952) الذي عارض مقولة الفن للفن لأنها تجعل الفن بذخا وهواية، ورأى أن البحث الجمالي والفني ليس سوى خبرة عملية، ومن ثم لا ينعزل الفن عن الحياة. وانتقد المثاليين والشكلانيين الذين فصلوا الخبرة الفنية عن الخبرة العملية. ومثاله البارثنون (المعبد الاثني) فهو عمل فني عظيم ولكن ليس له أي اعتبار جمالي إلا إذا استحال إلى خبرة منها يتعلم البشر. وعدّ الميكانيكي الذكي الذي يستغرق في عمله إلى حد الاندماج ويحرص على أدائه بكل إتقان ويجد لذة كبرى في صنيعة يده، إنما هو يمارس نشاطا فنيا بمعنى الكلمة[3].

وشخَّص ديوي عيب النظريات القائمة في "أنها تبدأ من نزعة انفصالية سابقة أو من تصور روحي للفن يقطع كل صلة بينه وبين موضوعات الخبرة الملموسة، ولكن ليس معنى هذا أن نستبدل تلك النزعة الروحية بنزعة أخرى مادية مبتذلة تهبط بالأعمال الجميلة إلى مستوى وضيع، وإنما لا بد من أن نستبدل بها تصورا آخر يكشف لنا عن الطريقة التي بها تخلع الأعمال الفنية على الكيفيات الماثلة في التجربة العادية طابعا مثاليا. وحينما توضع الأعمال الفنية في سياقها الإنساني المباشر من التقدير الشعبي، فإنها تصبح أعمق دلالة وأوسع مدى مما لو قدر لنظريات عزل الفن أن تلقى تأييدا عاما"[4].

ولا يؤمن جون ديوي بأن الفن جزء من الدين، لأن الفن برأيه مادة، وتتوقف جودة محاكاتها على معرفة مصادر الخبرة الجمالية بما في ذلك العودة إلى الحياة الحيوانية. ولأن الحركة تمتزج بالإحساس، يصبح الفن عملية من عمليات الحياة، فالطير مثلا يبني لنفسه عشا وكلب البحر يشيد لنفسه سدا[5].

والمرجعية الفلسفية الثالثة التي أثرت في فريلاند كثيرا هي لارثر دانتو (1942-2013) الذي أعطى لفلسفة هيوم بعدا معاصرا واتخذ من فلسفة ديوي منطلقا، فاجترح ما سماه "تجلي المبتذل". وطرح أسئلة كثيرة مثل: كيف يمكن للعمل الفني أن يرتقي من الشيئية إلى درجة التجلي (Transfiguration) ليصبح أثرا فنيا؟ وكيف يمكن تحديد ماهية العمل الفني؟ وهل يكون للعمل الفني وضع يختلف عن الأعمال والأشياء الأخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي المعايير الجمالية وغير الجمالية التي تساعد في تحديد ماهية العمل الفني وفرزه عن سائر الأشياء؟

لقد بيّن دانتو أننا أمام حضور الاختلاف والتعددية والاختراقات التي يتميز بها "براديام" الفن المعاصر أو فنون ما بعد الحداثة، يكون من الصعب أن نتوصل إلى أجوبة مقنعة بشكل كاف. فالممارسات الفنية المعاصرة خلخلت أساليب التعبير البصري وقوَّضَت المعايير الاستطيقية الأكاديمية، وأعادت ترتيب أطراف الثالوث الجمالي (الفنان/العمل الفني/الفن)، بل أدلت بظلالها على الحكم الجمالي لأسسه وقيمه وأخلاقياته. والمحصلة هي أن النظرية المعرفية في عصرنا هي بلا معايير جمالية، فالممارسات الفنية المعاصرة متخلخلة والأساليب الاسيطيقية في التعبير البصري تقوضت، وأعيد ترتيب أطرافها. ومثل دانتو على هذا التخلخل بمفهوم مارسيل دوشان "أشياء جاهزة"(Ready made) وفيها المبولة/النافورة هي أيقونة الفن الحديث[6].

ولا شك في أن هذه الفلسفة العملية، أوصلت دانتو إلى اجتراح مسارات ومفاهيم جمالية تعددية وانفتاحية فلا تتحدد بمجال من مجالات الحياة ولا تعترف في تذوق جمال الفن بالتخصصية أو النخبوية أو الأحادية أو المركزية أو المعيارية. وهذا ما يتماشى أصلا وفصلا مع اتجاهات المدرسة الأنجلو-أميركية القائمة على التعددية وعبر الثقافية. وتعد سينثيا فريلاند واحدة من الباحثين الذين أفادوا من مسارات دانتو التعددية، فقدمت نظريتها متبعة منهج التعدد الاختصاصي، جامعة بين النقد الأدبي والفلسفة التحليلية وعلم الجمال[7].

وإذا كانت فلسفتا هيوم وديوي قد أثّرتا في فريلاند ووجهتها وجهات فكرية جمالية، فإن فلسفة دانتو تركت فيها أثرا نقديا انعكس واضحا في أغلب تحليلاتها الفنية. وما يدلل على أن لدانتو تأثيرا كبيرا في فريلاند أمران: الأول أنها استهلت كتابها بمقولته: "لا أعرف أي عمل يتحرك بهذا القدر من الثقة عبر مناطق معركة الفن والمجتمع اليوم"[8]، والأمر الآخر هو أنها ركزت في كثير من أبحاثها على دراسة فكر دانتو، ومن ذلك بحثها المعنون "دانتو والنقد الفني"[9]، وفيه عادت إلى كتابيه: "تجليات المكان المألوف" (Transfiguration Of The Common Place) و"إساءة استعمال الجمال" (The Abuse Of Beauty) وبغيتها الوقوف على طبيعة نقده للأعمال الفنية.

وتساءلت فريلاند: هل تصلح فلسفة دانتو لأن تكون نموذجا مناسبا للنقد الأدبي الفني الذي ينبغي أن يتضمن عنصرا تقويميا؟ ووجدت أن دانتو ليس كالفلاسفة السابقين يتناولون مسائل الفن بصورة تجريدية، بل هو يرى أن فلسفة الفن ليست سوى ممارسة للوظيفة التفسيرية في نقد الأعمال الفنية من ناحية شرح وتحديد معاني التعابير الرمزية عبر الإجابة عن سؤالي: كيف؟ ولماذا؟

وهذا بالضبط ما عليه يقوم كتاب "ولكن هل هو فن؟ مقدمة لنظرية فنية". وتدور فصوله السبعة حول موضوعات جمالية يتداخل فيها النقد الأدبي بعلم الجمال وفلسفة الفن. وتصب في باب نظرية الطقوس مثل موضوعة الدم والجمال وموضوعة المال والأسواق وموضوعة المتاحف والجنس وموضوعة العبقرية وموضوعة المعرفة والخلق والفهم وغيرها. ومن أهم الموجبات التي دعت فريلاند إلى اجتراح نظرية خاصة في الطقوس ما يأتي:
أولا، الفلسفة التحليلية وأساساتها البراغماتية التي فيها الفن مشاع بلا طبقية، فالأميركيون بحسب فريلاند يتذوقون موسيقى الغرب الريفية ويعجبون بها فلا يرون فيها خشونة طباع أو ريفية كادحة.

ثانيا، الفن لا ماهية له تمكننا من معرفة ما يعنيه أو فهم لماذا نقدره، فالفن وفقا لفريلاند موضوع فضفاض، وما من نظرية يمكنها أن تكون إطارا يوفر شرحًا منظمًا للأشياء. ففلاسفة العصور القديمة وفي مقدمتهم أفلاطون وفلاسفة العصور الوسطى ومنهم توماس الأكويني (وتصفه فريلاند بالعملاق) لم يضعوا تحديدا اصطلاحيا قارا للفن[10]. والأمر نفسه مع فلاسفة الفن ومنظري علم الجمال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وفريدريك نيتشه، وتصف فريلاند الأخير بـ"مدمر الأيقونات سيئ السمعة". وكذلك الحال مع منظري القرن العشرين ومنهم جون ديوي وآرثر دانتو وميشيل فوكو وجان بودريار.

ثالثا، بالرغم مما للفن من نظريات مختلفة كالنظرية الشكلية ونظرية التقليد ونظرية التعبير والنظرية المعرفية ونظرية ما بعد الحداثة، فإن تلك النظريات لا تسمح برصد الظواهر جميعها، بل لكل نظرية منظورها الخاص في تفسير الأشياء وبشكل لا يساعد في فهم الفن فهما واضحا ومنطقيا. ليس ذلك حسب، بل هي بدلا من ذلك تخلق الغموض باصطلاحاتها الثقيلة.

رابعا، توحيد الاصطلاحات وتنظيم المنهجيات، إنما يكون بالاستناد إلى المبادئ الأساسية للجمال. وهو ما تراه فريلاند أمرا صعبا ويحتاج إلى جهود كبيرة، لأن مصطلحات "الفن متنوعة للغاية بحيث يبدو من الصعب محاولة توحيدها وتفسيرها. هذا إلى جانب ما في العديد من الأعمال الفنية الحديثة، وفقًا لنظرية ما، من تحد لمعرفة سبب أو أسباب وصفها بالفنية"[11].

والمحصلة أن الفن لم يحظ بتعريف مفاهيمي جامع مانع ينطبق على مختلف الثقافات وجميع العصور؛ لأن أدوار الفنانين متعددة ومراوغة بشكل مثير للدهشة. كما أن كثيرا من الشعوب القديمة والحديثة تميز الفن عن المصنوعات اليدوية أو الطقوس. وتضرب فريلاند مثلا بالمسيحيين في العصور الوسطى، فقد كانوا لا يعدون محاكاة الجمال والاحتفال به "فنًا". وقد يكون الفن بالنسبة إلى شعب مثل اليابان مشتملا على أشياء غير متوقعة مثل الحديقة أو السيف أو لفافة الخط أو حفل الشاي، لكنه بالنسبة إلى شعوب أخرى ليس فنا.

إن ما تريد فريلاند بلوغه هو تركيز النظر على التنوع الغني للفن من أجل التوصل إلى نظرية مناسبة وعملية أيضًا، ترشد الناقد إلى معايير معينة توجه فهمه فيما هو مقبول أو غير مقبول وتمكن الأجيال القادمة من إدراك التراث الثقافي. ولأن لا نظرية جمالية من دون توطين جهاز اصطلاحي خاص بها، تنتهج فريلاند منهج التعدد الاختصاصي كمسار عام يميز التوجهات البحثية الأنجلو-أميركية عامة حيث لا حدود فاصلة بين التقاليد الفنية أيا كانت كلاسيكية أو حداثية، سابقة أو لاحقة، فتاريخ الجمال بدءا من البارثينون وإلى اليوم لم يعرف معايير أو مظاهر محددة للفن، بل هو متنوع بتنوع الثقافات والعصور.

ولما كانت محاولة تحديد ماهية الفن عسيرة، فإن محاولة تحديد كينونة الفنان هي الأخرى معقدة، ولطالما تساءل المنظرون: من هو الفنان؟ وما الذي يجعله مميزا؟ لماذا يفعل الأشياء الغريبة التي يفعلها في بعض الأحيان؟ ولم يقفوا على إجابات محددة تتعلق بذات الفنان وصلته بفنه من ناحية عمره وجنس الفنان وطبيعة توجهاته. وأكثر الإشكاليات التي تواجهها نظريات الفن هي الأسئلة المتعلقة بكيفية تحديد معنى الفن وتفسير فاعلية العمل الفني، ومشاعر الفنانين وأفكارهم وطفولتهم ورغباتهم الواعية واللاواعية، ومستقبل الفن في القرن الحادي والعشرين بوصفه عصر الشبكة العنكبوتية والأقراص المدمجة والوسائط المتعددة، وهذا كله بمثابة تحد للإنسان، يجعل دراسة الفن وقضاياه أمرا مثيرا ومعقدا.

أمّا مفهوم "الجمال"[12] فهو إشكالي أيضا، ولذلك لم يستعمله ديفيد هيوم في كتاباته، وإنما استعمل مفهوم "الذوق"، ويعني " القدرة على إدراك جودة العمل الفني". ومع ذلك فإن لا معايير لهذه القدرة؛ فالأذواق تختلف بحسب الأشخاص. وتتساءل فريلاند: أليس الفن مثل الذوق، فما يفضله ديكنز وفاسبيندر لا يفضله ستيفن كينج وأوستن باورز؟ وإلا كيف يمكن إثبات أن ذوقك أفضل من ذوقي؟

إن ما تريد فريلاند تأكيده هو أن كلا من هيوم وخليفته إيمانويل كانط (1724-1804) يمثلان أساس النظرية الجمالية الحديثة، ولكن كلا منهما عانى من مشكلة التفاوت في تذوق الأعمال الفنية والتفاضل فيها بينها؛ فبعض الناس لديهم أذواق أفضل من غيرهم، ولكن كيف يمكن تفسير هذا التفاوت في الأذواق؟

ترى فريلاند أن التفاوت يعكس أهمية التعليم والخبرة: فالناس يكتسبون قدراتهم الذوقية من ناحية التوافق الجمعي حول المؤلفين، مفضلين أعمالا فنية على غيرها. ومن خلال التوافق والمفاضلة، تكون معايير "الذوق" عامة. ويعترف المتخصصون بهذه المعايير، لكن عليهم أن يكونوا بعيدين عن التحيز في التمييز بين الأعمال ذات الجودة العالية والأقل جودة، متمتعين بأخلاق لا تتحمس بإفراط إلى فن إسلامي أو كاثوليكي أو روماني.

إن هذا البحث عن المعايير وفي الآن نفسه التخلص من التحيز إليها هو ما عليه تبني سينثيا فريلاند "نظرية الطقوس"، ذلك أن جماليات الفن تتنوع، ولكن المهم هو ما تصنعه من "صدمة" في نفوس المتلقين، كأن يعرض الفنان موضوعات تبدو غير فنية وخالية من الجمال، كموضوعة التدنيس مثلا أو موضوعة الدم أو الحيوانات الميتة.

تقول فريلاند تحت عنوان "الدماء في الفن المعاصر": "لقد رأينا دماء ملوك المايا وشباب أستراليا الأصليين في مراسم التكريس. لقد رأينا الدماء تسيل على التماثيل في مالي وتتدفق من جاموس الماء المضحى في بورنيو. وكانت بعض الدماء تحمل بدلاء من قبل فناني الأداء وقطرات من الدم تسيل من شفاه أورلان. كان هناك شيء مضمون لاشمئزاز الجميع تقريبًا هناك"[13]. وتساءلت: لماذا استعمل الدم في كثير من الفنون؟

وأجابت: لسبب واحد هو أن في هذه الفنون أوجه تشابه مع الطلاء مثيرة للاهتمام، فالدم الطازج له لون ملفت للنظر بلمعانه والتصاقه بسطوح الأجسام، حتى ليمكن استخدامه في الرسم أو عمل تصميمات "على جلد شباب السكان الأصليين، تستحضر أنماطه المتلألئة المتقاطعة ذاك العصر النموذجي لـ "زمن السحر والأحلام". الدم هو جوهرنا البشري. ويمتصه دراكولا فيصنع حياته من الموتى الأحياء. الدم يمكن أن يكون مقدسا أو نبيلا كما في دماء الشهداء أو المحاربين"[14].

وتظل للدماء دلالاتها الرمزية والتعبيرية ففي العصور القديمة كانت الأساطير والقصص الدينية تعج بالأبطال والآلهة التي يُتقرب إليها بالتضحية بالحيوانات، وللدماء في الأديان معان مختلفة، فدم المسيح مقدس ويعني الوعد بالفداء والحياة الأبدية[15]. وكثيرا ما تحوي لوحات عصر النهضة دماء الشهداء والرؤوس المقطوعة. أما تراجيديات شكسبير فعادة ما تنتهي بالسيف والطعن. وترى فريلاند أن هذه الطقوس هي في الحقيقة نظرية في الفن معقولة، لأن الفن يمكن أن يشتمل على الجمال من خلال استعمال الدماء، وذلك استرشادا بأهداف معينة من أجل إنتاج قيمة رمزية مما تشتمل عليه طقوس عديد من ديانات العالم.

وعلى عكس الفن القديم لا تكون للدماء في الفن المعاصر دلالات ذات معنى، وهو عادة ما يستعمل كعامل مساعد من أجل الترفيه والربح؛ فعالم الفن تنافسي، ويحتاج الفنانون إلى أية ميزة تمكنهم من بلوغ ذلك الهدف. ولقد أوجب جون ديوي في كتابه "الفن كخبرة" عام 1934، على الفنانين أن يسعوا جاهدين من أجل الابتكار استجابةً للسوق. وهو ما تراه فريلاند متجسدا في طقوس دينية، فيها الدم رمز للألم والمعاناة، ولكنه صادم إذا ما انتزع من الحاضنة الدينية وعرض على الجمهور العام. وقد يمزج مع رموز أكثر علمانية، فيصبح ذا معنى آخر.

وترجّح فريلاند أن نقاد الفن الحديث يشعرون بالحنين إلى الفن الجميل والراقي وما فيه من معان أخلاقية تعكسها المشاهد الدموية للقديسين المقتولين أو عذابات يوم القيامة وأهوال تراجيديات الشعر المسرحي. أما الذين يرون أن الفن الراقي هو ما كان على شاكلة تمثال فينوس أو تمثال ديفيد لمايكل أنجلو، فلن يكونوا قادرين على تذوق الجمال وترقية الأخلاق.

ختاما، فإن نظرية الطقوس تستلهم أبعادها الفنية من أصول دينية تمثلها شعائر وعقائد وعادات وتقاليد اعتادت عليها شعوب بعينها على مدى العصور وتعاقب الأجيال. ومن مجموع تلك العقائد والعادات تتشكل صور الفن وتتحدد طرائق تذوق جمالياته.

وعلى الرغم مما في هذه النظرية من رؤى مغايرة لنظريات علم الجمال الأخرى، فإنها أيضا بحاجة إلى مزيد من تعدد الاختصاصات من أجل الارتقاء بتحليلاتها وإضافة أو تطوير بعض توجهاتها.

= = =

الهوامش

[1] Freeland, Cynthia, But is it art? an introduction to art theory, Oxford University Press, New York, 2002.

[2] هيوم، ديفيد، مبحث في الفاهمة البشرية، ترجمة موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2008، ص27-28.

[3] ينظر: ديوي، جون، الفن خبرة، ترجمة زكريا إبراهيم، المركز القومي للترجمة، مصر، 2011، ص12-13

[4] المصدر السابق، ص23

[5] ينظر: المصدر السابق، ص43-45

[6] Danto, Arthur, the transfiguration of the banal. A philosophy of art, 1989.

وينظر: فريلاند، سنثيا، الجماليات العابرة للثقافات: الفن، الابتكار، الخيال، بحث مقدم إلى مؤتمر الرياض للفلسفة 2023 للمدة 7-9 ديسمبر 2023. ومن كتبها (نظرية الفن مقدمة موجزة) ترجمة سعيد توفيق، 2019.

[7] Freeland, Cynthia, But is it art?,p1-30

[8]) I know of no work that moves with so sure a footing through the battle zones of art and society today) Arthur Danto.

[9] Freeland, Cynthia ,danto and art criticism, contemporary aesthetics, volume 6,2008.

[10] إن سنثيا فريلاند كغيرها من الفلاسفة الغربيين لا تقف عند إنجازات الفلسفة الإسلامية وما خلَّفه الفلاسفة المسلمون في العصور الوسطى من طروحات في الأدب والجمال والتخييل والطبيعة والإنسان وغير ذلك.

[11] Freeland, Cynthia, But is it art?, p3-6.

[12] وهو في اللغة الإنجليزية مشتق من كلمة يونانية استطيقيا وتعني الإحساس أو الإدراك. وقد برز هذا المصطلح باعتباره علامة لدراسة الخبرة الفنية (أو الحساسية) مع ألكسندر بومغارتن (1714-1762).

[13] Freeland, Cynthia, p1-30

[14] Freeland, Cynthia, p1-30

[15] والدم في الإسلام محرم، وله دلالة العدوان والغدر كما في الآية الكريمة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" (سورة البقرة/30) والآية الكريمة: "وجاءوا على قميصه بدم كذب" (سورة يوسف/18).

بحث


مـواد الـعـدد الـجـديـد