فراس حج محمد - فلسطين
عرض لكتاب "النحو العربي والدرس الحديث: بحث في المنهج" لعبده الراجحي
يبحث عبده الراجحي في كتابه في الأسس الأولى لوضع قواعد درس جديدة لـلنّحو العربيّ، تقوم على المنهج العلميّ. يتألّف كتابه منْ مقدّمة وتمهيد، وبابين، ويتفرّع الباب الأوّل المعنون بالنحو الوصفيّ إلى ثلاثة فصول، هي: النحو الوصفيّ: النّشأة والمنهج، والوصفيّون والنحو العربيّ، والنحو العربيّ وأرسطو. ويبحث الباب الثاني في "النحو التحويليّ" منْ خلال ثلاثة فصول أخرى، وهي: تشومسكي وأصوله النظريّة، وطرق التحليل النحويّ، والجوانب التحويليّة في النحو العربيّ، بالإضافة إلى خاتمة يركّز فيها أبرز نتائجه في الكتاب. وتهتمّ هذه الإضاءة بالفصلين الأوليين في الباب الأول، وذلك منْ أجل مناقشة المنهج الوصفيّ في النحو ودراسة مسائله المختلفة.
وقدْ أشار الراجحي في المقدمة إلى أنّ هذا الكتاب بحث في المنهج وبحث عن المنهج. ويعد الكتاب بحثا تأصيليا في انتهاج أسس جديدة لـدراسة النّحو العربيّ، ويكشف فيه عن رغبته في أنْ ينهج الباحثون والدارسون العرب نهجا علميّا جديدا، مستفيدا مما قدّمه الغرب من فتوحات علميّة منهجيّة طالتْ طريقة التّفكير في اللّغة وبحثها، فيطلب أنْ يتحولوا من التّفسير والتاريخية إلى المنهج الوصفيّ العلميّ.
هذه هي الفكرة الأساسيّة التي يقوم عليها الكتاب. ولـتحقيق هذا الغرض، بدأ الكتاب بتمهيد عام حول طبيعة الدّرس اللّغويّ العربيّ، والأجواء التي نشأ فيها في أولياته وما أحاطه منْ ظروف. ويرى الراجحي أنّ الجو الإسلاميّ العامّ هو المحرّك، دون أنْ يخوض في تفاصيل الأفكار الجزئية، وخصوصا فيما يتّصل بالمؤثرات الأجنبية التي يمكن أنْ يكون الدّرس اللّغويّ العربيّ قدْ تأثّر بها. بلْ يعمد بدلا منْ ذلك إلى تأكيد الجوّ العامّ الإسلاميّ التي ولدتْ فيه علوم اللّغة العربيّة بخاصة، والعلوم الإسلاميّة بشكل عام، ويرجعها جميعا إلى أنّها انطلقتْ لخدمة القرآن الكريم حتّى علم النّحو الّذي نشأ "لـفهم القرآن الكريم".
علاوة على ذلك فإنّ الراجحي يرى أنّ العلوم الإسلاميّة تجمعها جوامع كثيرة، فهي انطلقتْ من البيئة نفسها، وفي الفترة ذاتها تقريبا، عدا الهدف الذي نشأتْ منْ أجله؛ فالنّحو والبلاغة وعلم الكلام وأصول الفقه، احتكّ علماؤها فيما بينهم، وكان بينهمْ صلات معيّنة، وربّما أنّ كلّ هذه العلوم تداخل بعضها في بعض، فالبلاغيّ استعان بالنّحويّ، وكذلك الأصوليّ والمشتغل بعلم الكلام. وبـذلك يشير الراجحي إلى أنّ ثمّ فلكا كبيرا تسبح فيه هذه العلوم لـتؤدي الهدف منْ ورائها وهو خدمة القرآن الكريم، على الرغم منْ أنّ إشارته إلى أنّ النّحو الهنديّ الذي نشأ لخدمة كتاب (الفيدا) المقدّس، وكأنّه يشير منْ طرف خفيّ إلى نوع من الموازنة بين الأمريْن، لكنّه لا يقرّر أنّ الدرس العربيّ تأثر بـالدّرس الهنديّ، إنّما يكفي أنْ يفهم أنّهما عاشا ظرفا مشابها.
كما يتوقف عند القراءات القرآنية التي يرى أنّها "علم نقليّ لا يعرف التّعليل ولا الفلسفة ولا المنطق. إنّها علم غير عقليّ على وجه العموم، وكذلك بالنسبة لـعلم تفسير القـرآن الكريم الّذي يقوم في بداياتـه على الرّواية والنـّقل، فهو أيضا علم غير عقليّ على وجه العموم.
ولكنْ، لمْ تكنْ كلّ العلوم الإسلامية قائمة على النّقل والرّواية؛ فعلم الكلام كان يقوم على النّظر العقليّ البحت، فهو علم عقليّ، ويقع علم أصول الفقه بين هذيْن الطّرفـيْن، في أنّه كان يعتمد على النّقل وعلى النّظر العقليّ. وعكستْ حركة التّأليف هذا التّصور جميعه، وتداخلتْ فيما بينها، كما يوضّحه المؤلـّف في هذا التمهيد.
وبعد ذلك شرع المؤلّف في بحث المنهج الوصفيّ لدى علماء اللّغة الغربيين، ونشأة النّحو الوصفيّ، وتتبّع ذلك عند ثلاثة منْ أبرز علماء اللّغة الغربيين، وهمْ: السويسري، فيرديناند دو سوسير (Ferdinand de Saussure)، والأميركيان: إدوارد سابير (Edward Sapir)، وليونارد بلومفيلد (Leonard Bloomfield). ورأى الراجحي أنّ هؤلاء الثلاثة همْ الّذين نقلوا البحث اللّغويّ منْ إطار البحث التّاريخيّ الفيلولوجيّ إلى منهج علميّ وصفيّ، لا يقوم على التّعليل والتفسير والـدّراسة الرأسيّة للّغة إنّما يدرس اللّغة في مستوياتها الأفقية.
يقف الراجحيّ عند كلّ واحد منْ هؤلاء الثلاثة موضحا حدود منهجه، بادئا بـ (دو سوسير) الذي قام منهجه على أسس مهمة، هي:
1. اللّغة تـقسم إلى كلام، ولغة اجتماعية، ولغة معيارية اجتماعية، وأنّه يعوّل على دراسة اللّغة الاجتماعية المعياريّة التي تتفق عليها الجماعة اللّغويّة، ويستطيعون منْ خلالها فهم بعضهمْ بعضا، أمّا الكلام فمصطلح يريد به حديث الـفرد، فهو ذاتيّ لا يعوّل عليه واللّغة الاجتماعية، وهي كلام مجموعة أفراد، فإنّ فيها جانبا مما في لغة المتحدّث الفرد، فلا تصلح للـدّراسة لهذا الأمر.
2. دراسة اللّغة باعتبارها "شيئا" فـينحو فيها منحى الظّواهر الاجتماعيّة، متأثّـرا بعالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركايم (Émile Durkheim)، فيدرسها كما تدرس الأشياء في العلوم الطّبيعيّة، متابعا (دوركايم) نفسه الذي قال إنّ اللّغة يمكن اعتبارها شيئـا، وهي ليستْ فرديّة، ولكنها عامة.
3. تحوّل الدّرس اللّغويّ عند (دو سوسير) من المنهج التّاريخيّ الفيلولوجيّ إلى ما أسماه "التزامن"، بحيث يخلص البحث اللّغويّ من البحث العموديّ التّاريخيّ إلى بحثها بوصفها حالة مستقرة في بيئة وزمن معيّنيْن، وهذا النوع من الدّرس القائم على استقرار اللّغة هـو ما يعرف بـالمنهج الوصفيّ.
4. اقتراح (دو سوسير) فكرة "العلامة اللغويّة"، ولعلّها أهم أسس المنهج الوصفيّ الدوسيسيري، وتقوم على أساس تصوّر اللّـفظ وما يدل عليه، فـتربط العلامة بيْن هذا التّصوّر والصّورة السّمعيّة للفظ، وأنّ أيّ تغيّر في أحدهما يؤدي إلى تغيّر في العلامة اللّغـويّة نفسها.
أمّا العالم اللّغويّ الثاني فهو (سابير) الذي تأثّر بـعالم الأنثروبولوجيا الأميركي، فرانز بويز (Franz Boas)، فدرس اللّغة بناء على تحقّقها الفرديّ، عكس منهج (دو سوسير)؛ لأنّ اللّغة الفرديّة هي التحقّق الطّبيعيّ للغة. فدرس الظّواهر اللّغويّة متجها نحو الدّراسة الحقليّة، بناء على الجماعة اللّغويّة واللّغة التي تتحدث فيها، لأنّ منهج (سابير) يقوم على "الاتّصال المباشر بـاللّغة المنطوقة"، ويعتمد في دراسته "على الملاحظة والتّـصنيف والتّحليل".
وتبع ذلك عند (سابير) اقتراحه دراسة اللّغة ضمْن "الأشكال اللّغويّة"، فيدرسها بذاتها، لا ما تؤديه منْ معان، ما جعل منتقديه يرون في هذا عيبا لـمنهجه، لكنّ الراجحي يرد على هذا الانتقاد بـقوله: "والحق أنّه لمْ يغفلْ المعنى في كلّ خطوة منْ خطوات التّحليل، لأنّ الجملة عنده هي التّعبير اللّغويّ عنْ قضية". ودراسة التركيبات الشّكليّة للّغة حذتْ بـ (سابير) أنْ يدرس الأنماط في الصّوت والكلمة والجملة، "مع إيضاحات كثيرة عن اللّغة والثّـقافة والشّخصيّة". وبـالتالي فإنّ دراسة الشّكل اللّغويّ تقتضي ركنيْن أساسييْن هما: التّصوّرات الأساسيّة الّتي تؤديها اللّغة في الاتّصال بيْن النّاس، وثانيهما الطّرق الشّكليّة الّتي ترتبط بـهذه التّصوّرات. وهذه الطّرق هي العمليات النّحوية الّتي حدّد لها ستة نماذج، وهي:
1. ترتيب الكلمات (Word order).
2. التركيب/التأليف (Composition).
3. الزوائد/الاشتقاق بإضافة لواحق وسوابق (Affixation).
4. التغيير الداخلي للجذر أو العنصر النحوي (Internal modification of the radical or grammatical element).
5. المُضَاعَفَة/إعادة التكرار (Reduplication).
6. الاختلافات النبرية (Accentual differences).
والعالـم الثّـالث الّذي يقف عنده الراجحي هو (بلومفيلد) المتأثّـر بعلم النّـفس، والسلوكيين منْهمْ تحديدا، فـقدْ تأثر بـالأميركي جون واتسون (John Watson)، ويقوم منهجه على أنّ اللّغة يجب أنْ تدرّس درسا وصفيّا استقرائيّا، ويرى أنّ الخطوة الأولى في دراسة اللّغة هي أنْ نعدّها صورة من السّلوك الجسمانيّ، وتقوم على أساس المثير والاستجابة، كما هي في النّظريّة السلوكيّـة. ويطبّق في دراسته للّغة "النّظريّة الماديّة" متجنبا العمل على النّظريّة العقليّة، ولـذا فهو يرى أنّ الكلام سلوك بشريّ، وأيّ تغيير في حالة الجسم قدْ يؤدي إلى اختلاف كبير في الاستجابة، وما يتبع ذلك من التّـنـبّؤ بالسّلوك مستقبلا إذا ما عرفْنا حالته. فدرس "الحدث الكلاميّ" باعتباره سلوكا يخضع لـلملاحظة والتّـنـبّؤ والتّـفسير، وتناول في الـدّرس الظّاهرة اللّغويّة من الفونيم حتّى التّغيّر اللّغويّ والجغرافية اللّهجيّة.
وفي الفصل الثاني يناقـش الكتاب مسألة النّحو العربيّ وكيف نظـر إليه الوصفيون، باعتبارهمْ دارسين جددا للنّحو واللّغة، فـناقش في هذا الفصل مسألتيْن، وهـما: النّحـو التّـقليديّ وما له وما عليه، وأبرز طرق دراسته، وما يغلب عليه، والنّحـو الوصفيّ وقدْ وازن بـيْن النّحـويْنْ.
ويسترسل المؤلّـف في بيان ملامح المنهج الوصفيّ في دراسة الأقدمين للنّحو العربيّ، على الرغم مـنْ وجود الاتّجاه القديم من الدّراسة التّـاريخيّة والرأسـية العمودية في البحث، إلّا أنّ ملامح مـن الاتّجاه الوصفيّ كانتْ حاضرة في كتاب سيبويه على سبيل المثال؛ حيث يـربط هـو وغيره مـن النّحاة واللّغويون القدماء اللّغة وصحتها ودراستها بما هو جار لدى العرب، وما صحّ لديهمْ فهو صحيح، موردا العديد من العبارات الدالّة على حضور المنهج الوصفيّ عند النّحاة العرب القدماء.
لمْ يبتعدْ المؤلّف عنْ هذا النهج في التّوضيح حتّى وهو يربط بيْن ما تقدّم منْ معلومات ومناقشة في التّـمهيد وبيْن ظروف نشأة العلوم الإسلاميّـة ومنْها النّـحو وعلوم اللّغة، وأنّها جاءتْ كلّها لـخدمة القرآن الكريم، ليرى أنّها وهي كذلك، لمْ تكنْ بعيدة عن المنهج الوصفيّ، بـالإضافة إلى تقعيد النّحو لمْ يكنْ فقطْ منْ خلال النماذج الشّعريّة والنّصوص، وإنّما استند العلماء إلى ما عند النّاس منْ لغة، كما هو واضح عند منْ جمع اللّغة من الأعراب، وكتبها، بناء على ما جمعه منْ أفواه الرّواة. ولمْ يختلفْ في ذلك أصحاب المدرسة الكوفيّة عنْ أصحاب المدرسة البصريّة؛ فكلاهما استمع وكتب، وإنْ اختلفوا في الجهة التي سمعوا منْها.
كما يردّ الراجحيّ بعض التّهم عن اللّغة الّتي يتوجّه إليها الدّارسون الوصفيون والّتي يروْنها في الكتب الشّعـريّـة وفي القرآن الكريم، في أنّها لا تمثّل سوى جزء من اللّغة، لـيصفوا دراسة اللّغة لذلك بـأنّها قاصرة. يقول في ذلك: "إنّ القصد منْ فهم النّص القرآنيّ هـو الذي أدّى إلى تحديد مستوى لغويّ معيّن، وهو الذي أدّى إلى تحديد مكان وزمان لهذا المستوى.
ويورد المؤلّف مثالا مهمّا على تطبيق المنهج الوصفيّ في دراسة اللّغة عند القدماء، ممّا قدّمه غير سيبويه في كتابه "الكتاب" وغير مدرسة الكوفة الّتي يرى المؤلّف أنّها مـدرسة وصفيّـة، ألا وهو أبو الأسود الدؤليّ، ويوضّح أنّ عمله في ضبط النّصّ القرآنيّ بالفتح والضم والكسر هو عمل منهجيّ وصفيّ، قام به شخصان أحدهما يلفظ النّصّ، والآخر يلاحظ ويسجّل بناء على هذه الملاحظة، ثمّ استقـرت بعد ذلك بناء على هذه المنهجية الحركات الإعرابيّة الّتي ما زلْـنا نتعامل بها حتّى اليوم، وهي الكسرة والضمة والفتحة.
= =
المرجع:
الراجحي، عبده. النحو العربي والدرس الحديث: بحث في المنهج . بيروت: دار النهضة العربية، 1979.
◄ فراس حج محمد
▼ موضوعاتي