فتحي العكرمي - تونس
التّرحال في مسالك الوجع
يقبع على مشارف الانتظار، تهزّه الذكرى الموجعة، ويتلحّف بجروح غائرة تخطّ على ضلوعه خربشات مرسومة بالألم. يحيا لحظاته متّكئا على أسئلة مربكة، باحثا عن جهات تلقيه على فتات من الفرح. هو المسجون بين حاضر هلاميّ وبين سراب ما مرّ عليه من سنوات عجاف رجّته إلى أقاصي الفجيعة.
على وجهه رسمت السّنوات الموجعة كهولة حزن بتقاسيم ماتت فيها الابتسامة. على فمه أسئلة صامتة يلفّها بثياب متآكلة ويركلها بقدمين حافيتين. شعره منساب على الكتفين وعليه خطوط بياض جعلته رماديّا يعبّر عن عاصفة الحزن التي يجرّها في ترحاله. عينان تكحّلتا بإِثمد الشّجن؛ عليهما احمرار دائم.
لملم أحزانه وجمّع مخزون آلامه وصوّب نحو المدينة يجرّ وراءه أشجارا من الفقد. دلف إليها مجهولا و غريبا.
انتقل من وحدة كانت ترافقه في جبل حيث قضّى طفولته وحيدا، وعاش كهولته حزينا في مكان مفرط في الوحشة، يرافقه الشّقاء أينما ولّى جسده الهزيل. في ركن منسيّ على تخوم المدينة جمع الحطب وبعض الثياب وصنع مسكنا يقبع فيه موغلا في الصّمت وغارقا في وحدة تتبعه.
يمرّ الوقت وهو يخاطب أحزانا دفينة ويقلّبها على ذاكرته. يستعيد تفاصيله الموجعة. يجيء الليل حاملا معه صليل غربة جارحة تعيده إلى مواسم اليتم التي عرفها وتستعيد تفاصيل ترحاله.
الظّلمة تطوف على المكان وصهيل الرّيح يرجّ روحه فيلقيها على مزيد من الوجع. يصارع طواحين التشتّت ماسكا على ذكرى يجمّع فيها شظايا روحه الموءودة تحت ضلوع تطفح بالمرارة ويفيض عليها طوفان الحزن. صوّب إلى الدّنيا يتيما بلا هويّة حيث لفظته أمّه إلى المجهول داخل فضاء يطفح بالغربة.
حين يخرج لماما من كوخه يسرع نحو نهاية الطريق المحاذية ويقف في نهايته متأمّلا غارقا في السكون وموغلا في التذكّر. حين يجيء الغسق تنتفض الأسئلة داخله فيعود متعثّرا إلى وحدته.
استيقظ ذات عيد انصرف فيه الجميع إلى الفرح. يلتفت فلا يجد سوى مكان معطّر بأشواك الألم وبسياج الذكرى الموجعة. يشعل النار ويبدأ في طقوس الوحدة.
يُخرج من الرّكن صورة لفّها بعناية يخاف عليها من التّلف. أخرجها بأصابع مرتجفة وكأنّه في حضرة مقدّس، فاجأه التردّد وتسلّطت عليه قافلة البكاء. أخذ يتمعّن في تفاصيلها موغلا في التخيّل ومتقلّبا على جمر الألم.
على الجبين رُسم وشم في شكل نخلة .عينان تضمّان قبيلة من التشرّد ووجنتان خطّت عليهما الأيّام التّجاعيد. على الكتفين يتكدّس شعر منساب.
بدأت النّار تخبو فأضاف إليها بعض الحطب. انتفض من توابيت الصّمت وذرف أغنية ترمّم أوجاعه. حاصرته الأسئلة الموجعة ودلفت إلى قلبه خيوط المرارة.
على الصّورة نبت جُرح قديم لمحه الرّجل فغامت الدّنيا من حوله وأخذته رجّة البكاء. أعادته الذّكرى إلى اليوم الذي سأل فيه عن أمّه فلم يجد منها سوى تلك الصّورة التي تُجمّع على تخومها بيادر اليُتم وأكداس الوجع.
انقضى النّهار وهو قابع على مشارف الأسئلة غارقا في تأمّل الصّورة وموغلا في التألّم. تسلّط عليه الجوع وأضحى حلقه جافّا من العطش وأمست روحه غائصة في وحل التّرحال.
جاء المساء حاملا معه أقانيم صهيل موحش وبدأ الظّلام يتسرّب إلى عينيه فلم يعد قادرا على التمعّن في تفاصيل الصّورة فاحتضنها وقد أخذه النّشيج بعويل يهزّ ضلوعه بصوت تجمّعت فيه ألحان بكاء شبيه بصفير الخلاء في غابة موحشة.
استيقظ بمزيد من التّشتّت وقد بدأ ضوء روحه في الانحسار. نظر إلى الصّورة فقبّلها عميقا وهنّأها بالعيد وسألها: "لماذا تُركت إلى المأساة بلا أحبّة على حافّة الدّنيا وفي متاريس الأوجاع؟"
تداخلت على ذاكرته مأساة التشرّد وألم الشّرود وسنوات الانتظار فوضع الصّورة في جيبه وخرج يتهادى على إيقاع جروحه تجرّه قامته إلى ترحال صوب مسالك الوجع.
◄ فتحي العكرمي
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
التّرحال في مسالك الوجع, إبراهيم يوسف- لبنان | 29 نيسان (أبريل) 2012 - 08:36 1
ألأخ الكريم فتحي العكرمي-تونس
لغة جميلة أحببتها فعلاً .. ولو أنَّها تحمل في طياتها فيضاً من ألمٍ دفينٍ لا أحبًّه ولا تتحمل مسؤوليته، بالإضافة إلى مفردات قليلة..؟ لو تم استبدالها، لأضفت على الموضوع أهمية أكبر. لك مني خالص المحبة والمودة والاحترام
1. التّرحال في مسالك الوجع, 30 نيسان (أبريل) 2012, 07:23, ::::: فتحي العكرمي - تونس
الاخ ابراهيم يوسف شكرا على ملاحظاتك . الأدب هو من جهة ما بحث في المسكوت عنه وفي الزّوايا المُعتّمة في وجودنا الذّاتي والجماعي والحضاري اذ هو نبش في اللاّمفكّر فيه والمنسيّ . ولقول هذا تكون اللغة متوثّبة حينا ومُنسابة أحيانا أخرى وطربة أو حزينة لتُلامس القاع الذي يسكُننا . بالنّسبة لموضوع القصّة فهو تفكير في من يحيا على هامش الحياة بسبب الفقر أو اليُتم أو العجز الجسدي لأولئك الذين يرتحلون في أوجاع الروح و الجسد والمجتمع وهم كُثر كتبتُ . مع محبّتي
التّرحال في مسالك الوجع, زهرة-ي-الجزائر | 19 أيار (مايو) 2012 - 20:07 2
رحلت بنا في مسالك الوجع، فتبعناك نحث الخطى لنشرف على قعر البؤس و نقبع على قمة الحزن ونسافر في ثنايا الوحدة و الوحشة، حيث تنتصب الاسئلة المؤجلة عن أصل وفصل من تسكنه حنينا وتحيا وشما على ذاكرته عصية عن النسيان.
تبعناك فرميت بنا هناك على عتبات الطفولة، حيث على حافة الذاكرة يقبع كوخ مصنوع من حجارة وطين و مسقوف ب" الديس". بابه يقايس نصف باب بيت عادي أو ثلثه. يضطر والجه أن ينحني و ينكمش ليتمكن من الدخول اليه. مكانه سفح هضبة في ريف تونسي مفرط في الفقر و موغل في البؤس، و لصاحبه نفس قصة بطل قصتك. مجهول الهوية، يتلحف بالغموض و تسكنه الوحدة. حين يخيم الليل على كوخه، يحمل معه أقانيم وحشة تطوقه بقلق رجراج يتغلب عليه بعزف الناي.
في طفولتي التونسية، كنا نقصد احد اصدقاء العائلة القاطن في الريف بين احضان الطبيعة. كنا اطفالا يدفعنا الفضول ويجلبنا عزف ناي ذلك الغريب المتفرد، فنتسابق للفوز بحمل حصة الطعام الذي تتصدق به عليه سيدة البيت ، المضيفة لنا، فنهرع اليه مسرعين يدفعنا الفضول، فندخل رؤوسنا الصغيرة من باب الكوخ لنرى ما بداخله، أسمال بالية هي فراشه فوق التبن، وحفرة في الأرض بها بقايا نار هي موقده ومدفأته. تقدمت به السن فلم يعد يتعذب لجهله أمه كما بطلك، فالانسان لا يبكي أمه دهرا، بل يتعود على غيابها ويبتلع مأساته بهدوء . كما كسر روتين الوحدة بمصاحبة مذياع، يتتبع نشرة الاخبار ويحفظ الاغاني ويعشق الفنان " عدنان الشواشي" ويحيا بانسانية من حوله. يقلد لنا مواء القط فنعود مفعمين بالفرح و له في قلوبنا بعض الحب.
اعتذر عن تطفلي على نصك، واهنئك على اللغة الجميلة، وأجمل ما فيها الاحساس المفرط في البؤس حد القسوة.
1. التّرحال في مسالك الوجع, 20 أيار (مايو) 2012, 12:56, ::::: فتحي العكرمي
الأخت زهرة - شكرا جزيلا على تفاعلك مع النّص وتفاعلك مع بعض تفاصيله وهذا شَرف كبير لي . أمّا لماذا هذا الشّجن في النص وكيف يقف بطل القصة في مأساة فقدانه للأمّ فذلك ليس تثبيتا لكل حياته في تلك اللحظة ، فحياتنا تنفتح على الحب والحزن والفَقد والصداقة والوحدة والأمل واليأس ، وأنا ركّزت على لحظة واحدة في انتظار بقيّتها على قريب تنويعا لمسارب وجودنا. عميق الشّكر والامتنان