عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » عود الند: العدد الفصلي 37: صيف 2025 » قطاري في بغداد

فنار عبد الغني - لبنان

قطاري في بغداد


فنار عبد الغنيتطل عليّ من نافذة طفولتي المسروقة ذكرى مشهد عائلي جميل، أنا وأختي الوسطى وأختي الصغرى نحيط بأبي وكلنا نتحلق حول سكة حديدية دائرية يدور فوقها قطار صغير، أجهد ذاكرتي لأعرف لونه لكن عبثاّ أحاول. تلاشى اللون من ذاكرتي المحشوة بتفاصيل القهر والحروب وآلاف الخيبات؛ ثم أغدق على القطار لوناً أخضر عسكرياً. ولا أعرف لماذا اختارت ذاكرتي هذا اللون المقيت. أقول لنفسي ربما لأن الحروب التي عشناها هي التي تدير حياتنا كما يدور القطار الصغير في حنايا الذاكرة.

أذكر أن المرحوم والدي كان قد عاد ذات مساء من عمله في بيروت وكان يعمل أخصائي في الطب المخبري، وفي جعبته علبة كبيرة، ونادى علينا كل واحدة باسم دلعها. وبعد أن تجمعنا حوله وعانقنا، فتح العلبة. ويا لدهشتنا! لقد شهقنا وقفزنا من الفرح. لا أعلم كيف تحملت قلوبنا الصغيرة تلك الفرحة العظيمة، فنحن لا نرى القطار إلا في التلفاز. لا زلت أذكر حتى اليوم عيون أبي وأخواتي والبريق الذي فاض منها، وكيف عانقنا بعضنا البعض من شدة فرحتنا بالقطار الصغير.

كان المرحوم والدي يأتي إلى البيت مرة واحدة في الأسبوع بسبب ويلات الحرب الأهلية آنذاك، وكان يأتينا بألعاب وقصص ومجلات أطفال ودفاتر الرسم. كنت حينها في الخامسة من عمري. لم أكن بعد قد أجدت القراءة، وكان المرحوم والدي هو الذي يقرأ علينا القصص وكنا نقضي وقتاً ممتعاً.

لقد لعبنا بالقطار حسب ما أذكر ثلاث مرات فقط، ثم اختفى القطار من بيتنا. وكنت كلّما سألت أمي عنه أخبرتني بأن القطار ليس لنا، وأن صاحبه أتى ليلاً الى بيتنا وأخذه وغادر. أما أبي فكان كلما سألته عن القطار تجهم وجهه حزناً، ولم يكن يعرف كيف يجيبني ويلوذ بالصمت. أما قلبي الصغير فقد نبأني أن أمرا سيئاً قد حدث للقطار.

اختفى القطار واختفت فرحتنا واختفى الضحك الذي كان يعلو وجه أبي وهو يلاعبنا، ثم بدأ أبي بشراء مجلات علمية للأطفال فيها ألعاب رياضية مسلية. كان يدربنا عليها، وكانت تلك المجلات والقصص قادمة من بغداد حسب ما كنت أقرأ. وقد علق في ذاكرتي منذ الطفولة اسم بغداد لان خالي المهندس كان يعمل هناك ويسكن مع عائلته.

قطار على سكة حديد: لعبة أطفال

وذات يوم تسللت لمسامعي أن أمي كانت قد أعادت القطار الى علبته وأعادت لفه وأرسلته هدية الى ابن أخيها في بغداد، الأمر الذي أحزنني، وعلمت حينها سبب حزن أبي وصمته.

وقد ترسخت كلمة بغداد في ذهني وعلقت كما النقطتين فوق حرف التاء، وأصبحت أردد في عقلي الباطني كلمة بغداد كثيرا، فهناك تسكن فرحة طفولتي، وكنت احتفظ بقصص ومجلات الأطفال القادمة من بغداد. وعندما كبرت ازداد بحثي عن تاريخ بغداد ومكانتها التاريخية والثقافية والحضارية وعن الخلفاء والعلماء والشعراء والأدباء فيها. وتابعت أخبارها وتألمت لتألمها وتحطم قلبي لاحتلالها فيما بعد.

وعندما التحقت بالجامعة أخذت أبحث عن الأساطير والمفردات في بلاد ما بين النهرين وعن ملحمة غلغامش والكتابة المسمارية وعن بطولات العظماء فيها كالملك نبوخذ نصر، وعن العجائب والهندسة المعمارية فيها. وأعجبت بالعبارة التي تقول:" القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ".

بغداد! أحياك الله كما أحيا القرية الميتة في سورة البقرة أنت وكل مدينة أصيلة هدمها الغزاة.

لماذا يصر الغزاة على قتل كل شيء جميل عندنا؟ لماذا يعادون الجمال؟ ولماذا يصر الغزاة على محاربة حضارتنا؟

لماذا يعملون ليل نهار على طمس هويتنا وثقافتنا؟ الا يمكن لهذه الأرض الواسعة أن تتسع لنا جميعاً؟

صرت أخشى محبة المدن العريقة، لأنني كلما أحببت مدينة منها دمرها الغزاة، لدرجة أنني فكرت ذات يوم أن الغزاة يقرؤون أفكاري ويرغبون بقهري وسحق كل ما هو جميل بداخلي.

الآن أفكر بأن أحول مشاعري تجاه المدن الأصلية للغزاة، مسقط رؤوسهم، لعل شرهم يرتد إليهم، ولعلي أعاود التفكير بزيارة بغداد، العاصمة الذهبية للخلافة العباسية، مركز الحضارة والثقافة لأربع قرون خلت، ربما إذا زرتها ابتعت منها ذكرى جميلة تشبه قطار الطفولة الضائع.

= = =

مقطع من قصيدة لبغداد تغنيها الفنانة أم كلثوم. المؤلف: الشاعر محمود حسن إسماعيل. طول المقطع أقل من دقيقة.

مقطع من قصيدة بغداد: غناء أم كلثوم

1 مشاركة منتدى

  • بغداد الحضارة و الجمال و الفن...سقوطها دائما يعني سقوط كل ما هو جميل في بقية العواصم...اليوم تحولت بغداد بسبب الغزاه إلى خرافات و إرهاب و رائحة الموت نتنة على أرضها ..و رغم هذا ستعود بغداد لتحمل راية حضارتها و نصرها على الغزاة، تعيد أمجادها عبر تاريخها الطويل في قيادة العالم ثقافيا، و علميا، و حضاريا...
    سلم قلمك و دامت ذكرياتك جميلة


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 37: تطبيقات الذكاء الصناعي: استخدامات مفيدة للكتاب والكاتبات

عشتار والغرباء: مسرحية

فلسفة النقد الأدبي لـنظريات الفن: "الطقوس" لسينثيا فريلاند مثالًا

عرض لكتاب "النحو العربي والدرس الحديث: بحث في المنهج" لعبده الراجحي

قطوف من المسيرة الأدبيّة لعبد القادر بن الحاج نصر

بحث


مـواد الـعـدد الـجـديـد