وهيبة قوية - تونس
قطوف من المسيرة الأدبيّة لعبد القادر بن الحاج نصر
الموضوع أدناه ورقة أعدتها الكاتبة لتقديم الأديب التونسي عبد القادر بن الحاج نصر في أمسية أقيمت في صالون الهادي نعمان في المنستير يوم الجمعة، 25 أفريل (نيسان) 2025.
مقدّمة
هذا المقال محاولة لتقديم مسيرة عبد القادر بن الحاج نصر الأدبيّة الإبداعيّة. ويعتمد المقال في كتابته على قراءة لسيرة الأديب وعلى ما يشبه "المسح الضّوئيّ" لمؤلّفاته، إذ ليس من اليسير تقديم مسيرة أديبنا مختصرة بمواجهة نموذج إبداعيّ غزير الإنتاج، متنوّع المضامين والأساليب والأجناس، ممتدّ على فترة طويلة من الزّمن. فإنتاجه يغطّي عقودا من مسار أدب تونسيّ ومسيرة أديب خاض التّأسيس والتّجريب والتّأصيل والانتشار وعاش المتغيّرات المختلفة اجتماعيّا وأدبيّا ورجّ بعض ما عُرف في الأدب من الثّوابت وثبّت خطاه على مسيرة أدبيّة طويلة وعميقة، مسيرة كشفت صورة مثقّف يحمل هموم الكتابة والمجتمع، منخرط في قضايا وطنه، يحاول لمس أدواء تُعثّر تقدّم الوطن أحيانا، وأحيانا يفكّك قضايا المجتمع ويبسطها للقارئ يثير بها انتباهه وينشر من خلالها الوعي لأجل العمل على بناء وطن أجمل وأفضل وأرقى.
قراءة في صفحات سيرة عبد القادر بن الحاج نصر
دور السّيرة الذّاتيّة في فهم مسيرة الأديب
تساعد صفحات السّيرة الذّاتيّة على معرفة الأديب ومسار حياته، فتُرضي حبّ الاطّلاع عند القارئ الّذي يحاول رسم ملامح حياة صاحبها بمعرفة تاريخ ولادته ومسيرته العلميّة ومساره المهنيّّ ومشاركته في الحياة الثّقافيّة والجوائز الّتي حصل عليها وحجم كتاباته وعناوينها وتواريخ إصدارها، فكأنّ السّيرة "بطاقة تعريف" تعرّف القارئ بالكاتب وكتبه. فضلا عن أنّها تضيء كثيرا من المساحات أمام الدّارس لتحديد مسيرة صاحبها الإبداعيّة وضبط ملامحها من حيث بدايتها وطولها وغزارتها واستمرارها ومميّزاتها العامّة وتطوّرها وموقعها في مسار الأدب.
بل إنّ صفحات السّيرة، على بعدها عن مضمون النصّ الإبداعيّ —إذ هي تحيط بالكاتب من خارج عمله— تقدّم صورة واضحة، قريبة من الحقيقة، وغالبا "دقيقة"، مروِّجة لصاحبها "شكلا" ولكنّها، إضافة إلى ذلك، تقدّم إحصاءً لمراحل مهمّة في حياة صاحبها يصرّح بها فتقدّمه للقارئ وللدّارس وتصير محملا من محامل دراسة مسيرته.
ولستُ أرغب في إسقاط سيرة عبد القادر بن الحاج نصر على نصوصه الإبداعيّة ولكنّني أرى أهمّية إحصاء إنتاجه المذكور في السّيرة لضبط بعض الملامح العامّة لمسيرته الأدبيّة الإبداعيّة.
الأديب إنسانا
قدّمت هذه السّيرة الذّاتيّة الّتي وضعها عبد القادر بن الحاج نصر أمام قرّائه، الإنسان، والمتعلّم، والموظّف، والمثقّف، والأديب منذ بداية تجارب الكتابة، والإنتاج الغزير الّذي نشره، وقدّمت أيضا مراحل حياته إنسانا وأديبا.
ولد عبد القادر بن الحاج نصر في 24 مارس 1946 ببئر الحفيّ[1]، وتوّج حياته التّعليميّة العلميّة بشهادة الدّكتوراه من جامعة السّربون الجديدة بباريس سنة 1979. وتقلّب في عديد الوظائف فعمل بالإذاعة الوطنيّة مذيعا وعمل بالتّعليم لفترة قصيرة ثمّ أدار دار الثّقافة ابن خلدون بالعاصمة لسنتين، ثمّ عمل باحثا بالمعهد القوميّ لعلوم التّربية، ليواصل مسيرته المهنيّة بداية من سنة 1980 بالأمانة العامّة لجامعة الدّول العربيّة إلى سنة 2008 بصفته أخصّائيّا ثمّ وزيرا مفوّضا.
ملامح الحياة الأدبيّة
وأمّا حياته الأدبيّة فقد بدأت فعليّا منذ أواسط السّتّينات ببعض المحاولات الّتي نشرت في الصّحف[2] أو قرئت على جمهور الإذاعة الوطنيّة في برنامج "هوّاة الأدب"[3] ليلتحق بعد ذلك بنادي القصّة بالعاصمة[4] وتبدأ مسيرته من خلال مقالات وكتابات متنوّعة الأجناس وفي ركن خاصّ قارّ في الصّحف التّونسيّة والملاحق الأدبيّة والمجلّات منها مجلّات الإذاعة والتّلفزة التّونسيّة والفكر وقصص. كما عيّن عضوا بهيئة تحرير مجلّة الحياة الثّقافيّة الصّادرة عن وزارة الثّقافة لعدّة سنوات.
بدأ نشر كتبه منذ سنة 1969 بأوّل رواية له "الزّيتون لا يموت" والّتي يطالعها إلى اليوم القرّاء ويتوارث قراءتها جيل بعد جيل، وحصد عبد القادر بن الحاج نصر بفضل إبداعه عددا من الجوائز الوطنيّة، وكُرّم وطنيّا ومحلّيا في لقاءات ثقافيّة متنوّعة.
تكمن أهمّيّة صفحات سيرة الأديب عبد القادر بن الحاج نصر في جانبها التّوثيقيّ الإحصائيّ لإصداراته، إذ حرص الأديب دائما على تحيين قائمة عناوين كتبه وذكر تاريخ إصدارها ودار نشرها ممّا ييسّر على الدّارس تتبّع التّجربة الإبداعيّة عند عبد القادر بن الحاج نصر ورسم مسارها بوضوح بالنّسبة إلى مسار الأدب الّذي ينتمي إليه محلّيا وعربيّا وعالميّا.
غزارة الإنتاج وتنوّعه الأجناسيّ
المطّلع على هذه القائمة من العناوين لا بدّ أن يسجّل مدى طول مسيرة صاحبها وثرائها وتنوّعها وغزارة إنتاجه الممتدّ زمنا منذ أواسط السّتّينات إلى اليوم. كما يسجّل طول قائمة عناوين الإنتاج الإبداعيّ الّتي تضمّ عشرين رواية (وواحدة أخرى في المطبعة ستصدر قريبا)، واثنتي عشرة مجموعة قصصيّة (وله مجموعتان في طور الطّباعة)، وستّ مسلسلات تلفزيّة (إضافة إلى مسلسلين آخرين مخطوطين)، وثلاث مسرحيّات مثّلت إحداهما فرقة الفنون الدّراميّة بقفصة، وعدد من الكتب تتضمّن دراسات ومقالات مختلفة في الأدب والسّياسة والمجتمع والثّقافة والحياة اليوميّة وشواغل الإنسان المعاصر عموما.
وإن لم تذكر السّيرة عدد المقالات المنشورة فذلك لأنّه لا يمكن حصر عددها هي والحوارات واللّقاءات، فعددها بالمئات وربّما بالآلاف تحتاج إلى من يجمعها ويعدّها ويصنّفها ويقيّمها ويستخلص منها تجربة ثريّة لأديب لم يتوقّف يوما عن الكتابة منذ بدأها إلى يومنا هذا. فالكتابة عنده عمل يوميّ دؤوب لا ينقطع، كالتنفّس أو كنبض القلب يضخّ الحياة في حياة أديبنا ويسري في شرايين الوطن غيرة وحبّا ونضالا ودفاعا عن القيم.
إذن تكشف هذه السّيرة الذّاتيّة لعبد القادر بن الحاج نصر عن أديب متميّز، صاحب مسيرة إبداعيّة متنوّعة جمعت القصّة والرّواية والمسرحيّة والخاطرة والمقال النّقدي والمقال الصّحفيّ والكتابة الدّراميّة للتّلفزة[5] والإعلام الإذاعيّ[6]. وتقدّم للقارئ لمحة عن مسيرة طويلة منفتحة على مختلف الأجناس الأدبيّة تشير إلى طول عِشرة مع القلم وعمق معرفيّ بأصول الكتابة وعمق التّجربة الأدبيّة.
فما هي مضامين هذه المسيرة الإبداعيّة؟ وما موقعها في مسيرة الأدب اليوم؟
1. مسيرة إبداعيّة تونسيّة أصيلة
تميّزت المسيرة الأدبيّة الإبداعيّة لعبد القادر بن الحاج نصر بتنوّع الأساليب الفنّيّة وجماليّاتها وأسئلة الكتابة المختلفة وشواغلها إضافة إلى تنوّع المواضيع. وهي بحكم امتدادها الزّمنيّ من أواسط الستّينات إلى اليوم في إنتاجها الكثير المتنوّع، تغطّي مسيرة إبداعيّة، لا للأديب عبد القادر بن الحاج نصر فحسب، بل مسيرةَ مجتمع شهد تحوّلات ثقافيّة وسرديّة وإبداعيّة مختلفة أسّست للمشهد الإبداعيّ التّونسيّ عامّة واندرجت ضمن مساره، وكشفت عن مثقّف متفاعل مع مجتمعه وقضاياه المختلفة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة والأدبيّة والإعلاميّة والسياسيّة والنّضاليّة. وكشفت عن أديب منخرط في زمنه يقرأه في أبعاده المتعدّدة ليزيل عن وجه الواقع ما شابه من الأدران لنراه بوضوح.
2. الواقعيّة والرّؤية الإنسانيّة
تندرج أكثر كتابات عبد القادر بن الحاج نصر في أغلبها ضمن الواقعيّة، فهي تهتمّ بالواقع وتحلّله وتنقده من خلال الحياة اليوميّة وتفاصيلها وتحوّله إلى قيم أدبيّة وجماليّة، ويتجلّى ذلك بالخصوص في رواياته مثل روايات هنشير اليهوديّة؛ بتلات الأقحوان؛ الإثم؛ عتبة الحوش؛ مقهى الفنّ، وكذلك في قصصه ومسلسلاته.
وهذه الواقعيّة لم تمنع أن يكتب في الرّواية التّاريخيّة، والاجتماعيّة والسّياسيّة والسيرذاتيّة. ولم يهمل أيضا الشّواغل اليوميّة للمواطن التّونسيّ يرسم همومه وتطلّعاته وحياته اليوميّة وما يواجهه من شظف العيش غالبا أو رفاهة الحياة أحيانا ويضع مرايا يواجه بها الإنسان التّونسيّ واقعه وألمه وأمله مقابلا على وجه المرايا ملامح حياة إنسان تتراوح بين الموجود والمنشود، والمتاح والمباح والممنوع والمنجز، متمزّقا بين حياة يطلبها وحياة تهرب منه وتتشكّل في سعيه اليوميّ خبزا مغموسا بالشّقاء وأحلام السّعادة تؤرجح الشّخصيّات بين مشاعرها وأفكارها ومواقفها وتصنع عالمها القصصيّ والرّوائيّ والدّراميّ والمسرحيّ بحثا عن الإنسانيّة في إنسان عصره ومتقلّبات زمانه ومجتمعه.
بل الدّارس لنصوصه يجد أنّها تهتمّ بقضايا الفرد الّذي هو مكوّن من نسيج هذه الصّورة العامّة التّونسيّة، بل الإنسانيّة، شخّصها أبطال قصصه ورواياته كما شخّصتها مواقفه وآراءه مثلما نطالع في كتابيه "رجال من بئر الحفي" و"عاشق وطن" وعدد هامّ من رواياته وقصصه، إذ اهتمّ بالإنسان فردا سواء كان إنسانا عاديّا أو مثقّفا أو أديبا. فالفرد جزء من هذا الوطن، وقضاياه مشغل من مشاغل الكتابة الّتي هي بدورها مشغل وطنيّ، بل ترقى إلى "الواجب الوطنيّ" بل مشغل إنسانيّ يحفر في ذات الإنسان في أيّ مجتمع وإن انطلق من النّموذج التّونسيّ، وحتّى النّموذج الغارق في المحلّيّة كما في كتاب رجال من بئر الحفي. وهو بهذه الكتابة يحدّد موقع الإنسان من مجتمعه ومن الكون. إذ يفتح لنا عالم الفرد في صراعه مع واقعه وبحثه عن طرائق "الخلاص" في مجتمع متحوّل قد لا يجد فيه بعض النّاس موطئ قدم. ومع كلّ شخصيّة نقرأ مجموعة القيم المؤسّسة للإنسان في علاقته بذاته وبالآخر، أو القيم المتأرجحة بين الموجود والمنشود وإن لم يصرّح بهذا المنشود ولم يفتح معابر ممهَّدة يسلك منها القارئ إلى عالم واضح المعالم، ولم يقدّم حلولا للمشاكل الجمّة، فليس سوى القيم الإنسانيّة النّبيلة قائمة، ثابتة، في فوضى القيم التي يحياها الإنسان في واقع النّصوص، في واقعه.
3. الإنسان التونسي الآن وهنا
تعد أعمال عبد القادر بن الحاج نصر "تأصيلا لكيان الإنسان التّونسيّ" [7]، فإذا انتبهنا إلى تنوّع المواضيع وجدناها في تنوّعها تبحث عن الإنسان في زمانه ومكانه (الآن وهنا). فالزّمان هو زمن النصّ في ظروفه الّتي أنشئ فيها. والمكان هو القرية والمدينة والأسواق والبيوت والحقول والقصور والفنادق والمطاعم والحدائق والمزابل والطّرقات. هو مكان نعرفه ونعرف تفاصيله، يشكّل صورة تونس، هنا أو هناك، بحسب الموضوع الّذي تشتغل عليه الكتابة، رواية أو قصّة أو مسلسلا.
وبقدر ما ننتبه إلى تفاصيل الزّمان والمكان، ننتبه في الآن ذاته إلى تعدّد أشكال الإنشاء والكتابة وهي أشكال تواكب "حيرة كاتب" استقرّت لديه أساليب الإنشاء ولكنّه باحث دوما عن نصّ جديد من زاوية جديدة تفتح الرّؤى لنتبصّر معه موقع الإنسان التّونسيّ في مختلف الفترات التّاريخيّة "تأصيلا لكيانه".
تحمل نصوص أديبنا هموم الإنسان زمن الاستعمار، وفي الاستقلال وزمن بناء الدّولة الحديثة، وزمن الثّورة وما قبلها وما بعدها (رواية أحزان الجمهوريّة الثانية؛ رواية من قتل شكري بلعيد؟)، وحياتنا المعاصرة اليوميّة في تفاصيلها الدّقيقة (رواية هنشير اليهوديّة؛ رواية بتلات الأقحوان؛ ملفّات مليحة؛ مقهى الفنّ).
في هذه النّصوص يتداخل الفرديّ بالاجتماعيّ، والذّاتيّ بالموضوعيّ، والحاضر بالماضي، والمرجعيّ بالمتخيّل (كما في روايتيْ صاحبة الجلالة وزقاق يأوي رجالا ونساء، وهما من جنس الرّواية السّيرذاتيّة، مزج فيهما حياته المرجعيّة بالخيال الإبداعيّ)، والتّونسيّ بالعالميّ (رواية حديقة لكسمبور؛ المجموعة القصصيّة حكايا باريس) والتّاريخي بالتّوثيقيّ (رواية الزّيتون لا يموت؛ رواية جنان بنت الريّ؛ رواية مملكة باردو).
وفي كلّ ما يكتب عبد القادر بن الحاج نصر نجد صورة تونس ونشمّ نسائمها وننعم بطبيعتها ونتقلّب في أزماتها المختلفة ونعيش صراع الإنسان في مجتمع متحوّل تجمعه الرّياح الطيّبة حينا وتشتّته رياح التّغيير حينا آخر حتّى لكأنّنا مع "عين راصدة" لكلّ تونس، ريفها ومدائنها ومؤسّساتها وكلّ التّفاصيل الّتي تضع أسئلة التّفكير في هذا الواقع الجديد في كلّ فترة.
إذن نحن مع كلّ نصّ جديد لعبد القادر بن الحاج نصر نلمس الأبعاد النّفسيّة والذّهنيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة للإنسان التّونسيّ.
4. الهويّة التّونسيّة والإنسانيّة وعشق الوطن
وبقدر ما نطالع كتب عبد القادر بن الحاج نصر وننسجم مع تطوّر الشّخصيّات في الرّوايات والقصص والأعمال الدّراميّة ونتابع تنامي الأحداث، نلاحظ حضور الكاتب في هويّته التّونسيّة بكلّ تفاصيل انتمائه الوطنيّ، الّذي كلّما ضيّقه وحدّده مكانا، انفلت إلى عالم الإنسان مطلقا وكأنّه "يعرج" إلى سماء الإنسانيّة الرّحب من هذه الخصوصيّة المحلّيّة في تفاصيلها الدّقيقة العميقة، لغةً، خاصّة في استعمال اللّهجات العاميّة المختلفة للتّونسيّين، وقضايا وزمان ومكانا وملامح شخصيّات.
ويتأكّد مع كلّ إصدار جديد "عشقه للوطن" وانتماؤه إليه ثقافيّا وفكريّا ووجدانيّا، إذ تتماهى صفاته ومواقفه في أدبه بصورته ومواقفه في الحقيقة. فهو أديب صاحب قيم نبيلة وفيّ لها ولتونس وفاءً لا ريب فيه. فمرجعه دائما تونس أرضا وناسا وحكايات ومواضيع وشواغل وقيما. وقد ظلّ عبد القادر بن الحاج نصر منذ بداياته وفيّا لقضاياه المحلّية والوطنيّة، وهو ما يظهر واضحا منذ تصفّح عناوين كتبه مثل حي باب سويقة، مملكة باردو، أحزان الجمهورية الثانية، ومن قتل شكري بلعيد؟ ساحة الطّرميل، حيّ باب سويقة، رجال من بئر الحفيّ، زطلة يا تونس، أولاد الحفيانة. كلها مواضيع تحفر في الذّاكرة التّونسية، بل في الحياة التّونسيّة الصّميمة، وتتفاعل مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصادي، ومع تاريخ البلاد وحاضرها.
بل إنّنا نقرأ في كتاباته أنفسنا، ذواتنا، همومنا وهموم من نعرف من البشر، وطننا، آمالنا المرجوّة فيه، أحلامنا، واقعنا، لغتنا، رؤانا القادمة: «لأنّ الخلق الأدبيّ مثلما هو أجناس وأنواع فهو كذلك تواصل من أجل رصيد أكثر عمقا يساهم في الدّفاع عن صورة تونس الّتي هي أنا وأنت والّذين عاشوا في أرجائها ومرّوا والّذين سيأتون لتسلّم المشعل»[8].
عاشقا للوطن كان ومازال، ومغامرا تتجدّد مغامراته "على قلق"، يواجه "البياض المجهول" على الصّفحات بوفائه للوطن وللقارئ وللقيم وبدراية بعالم الكتابة وقد صار يعرف إلى أين يأخذه القلم فينشئ نصّه بأسلوبه المتجدّد إجابة عن أسئلة الإنسان فردا ومجتمعا بكلّ خصوصيّته الفكريّة والنّفسيّة والتاريخيّة والوطنيّة ومواصلة لإسهاماته في الحركة الأدبيّة التّونسيّة.
خـاتـمــة
يقف القارئ حائرا أمام هذه المسيرة الإبداعيّة الطّويلة والمتنوّعة، وأمام حشد الشّخصيّات المختلفة الانتماء والثّقافة، وأمام الأحداث المتنوّعة والأزمنة والأمكنة والتّفاصيل. فمن أين يمسك عبد القادر بن الحاج نصر بقارئه؟ وكيف استطاع، منذ بدأ الكتابة، أن يأخذ بيد قارئه مرّة ويتركه مرارا يخوض مغامرة القراءة بيده البوصلة ولكن بلا اتّجاهات إذ تعبث بها رياح الأدب والأساليب المتنوّعة وتبعثره في متاهات لغة شاعريّة، واصفة، راوية، ناقدة، ساخطة، رحيمة، قاسية. تتلوّن بتلوّن المواقف وتبني صرحها خاصّة بكاتبها، فصيحة لا ريب فيها، وعامّيّة أفصح تدور على ألسنة الشّخصيّات متينة متجذّرة في تونسيّتها الّتي أنتجتها.
كلّ هذا وأكثر يكشف أهمّية هذه المسيرة الأدبيّة لعبد القادر بن الحاج نصر، وهي مسيرة مهمّة لفهم إنتاج أديبنا فكرا وموقفا وإبداعا، ومهمّة في مسار الأدب التّونسيّ كلّه منذ بدايته إلى اليوم، رواية وقصّة، والمسيرة الإبداعيّة التّونسيّة في مجال الدّراما التّلفزيّة.
والدّارس لهذا الإنتاج يمكنه تتبّع التّحوّلات الثّقافيّة والأدبيّة والاجتماعيّة والفنّيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة في تونس، فتجربة الكتابة الطّويلة سارت على تحوّلات المجتمع وسارت على خطاه وعلى صفحات تاريخه المعاصر والقديم.
بل إنّ هذا الإنتاج يكشف عن أديب ومجتمع وأدب. فأمّا الأديب فمنخرط في مسيرة الإبداع في وطنه، وأمّا المجتمع فيتّبع مساره زمنا وفكرا وقضايا ويتشكّل من خلال النّماذج الرّوائيّة والقصصيّة الّتي تأتي في هذا الإنتاج الإبداعيّ صورا وأمثلة وحتّى أخيلة للمجتمع التّونسي منذ الستّينات إلى اليوم. وأمّا الأدب فمتأصّل في كيان بيئته التّونسيّة يصوّرها وينقدها ويتّخذ منها المواقف ويعيد صياغتها فنّا سائغا، رواية وقصّة ومسرحيّة ومسلسلا ومقالة وحوارا.
= = =
الهوامش
[1] بئر الحفيّ، مسقط رأس الأديب التونسيّ عبد القادر بن الحاج نصر، وهي من مدن ولاية سيدي بوزيد.
[2] كانت له محاولة أولى في كتابة الشّعر نشرت في جريدة الصّباح أواسط السّتّينات، وقد ذكر ذلك في روايته السّيرذاتيّة "غيمات بيضاء ما أبعدها. يقول في الصفحة 123 منها: «ما أروع جريدة الصّباح ها هي تنشر لي أولى محاولاتي الشّعريّة. نصّ ذو إيقاع متحرّر من الضّوابط الخليليّة. قصيدة من إبداعي أنا. أنا المتهالك على موائد الأدب، المنغمس في عشرات الدّواوين والرّوايات. أخيرا ها أنا أضع قدمي على أرض صلبة وسأسير من الآن فصاعدا لا خوف ولا خجل».
[3] برنامج إذاعيّ يعنى بكتابات الهوّاة. وكان يشرف عليه حينها الشّاعر التّونسيّ أحمد اللّغماني (مارس 1923–أفريل 2015). وتداول على البرنامج كبار أساتذة الأدب.
[4] نادي القصّة، من أعرق النّوادي الأدبيّة الّتي تعتني بالقصّة، تأسّس في سنة 1964 على يد كبار القصّاصين بتونس منهم محمّد العروسي المطوي ومحمّد الصّالح الجابري ومصطفى الفارسي وعزّ الدّين المدني. وانضمّ إليه الكتّاب المتمرّسون في القصّة والرّواية في فترة السّتّينات في تونس وكذلك الهوّاة. وللنّادي مجلّة تنشر الإبداع القصصيّ ونقده هي "مجلّة قصص". وقد تخرّج من هذا النّادي كبار كتّاب القصّة والرّواية التّونسيّة.
[5] ستة مسلسلات بثّتها التّلفزة التّونسيّة وتعيد بثّها إلى اليوم.
[6] قدّم برامج إذاعيّة في أواخر السّتّينات قبل مواصلة دراسته في السّربون الجديدة بباريس للحصول على الإجازة ثمّ الدّكتوراه. وكان يكتب مقالات نشرت على صفحات مجلّة الإذاعة التّونسيّة.
[7] العبارة للكاتب التّونسيّ الكبير محمود المسعدي (جانفي 1911-ديسمبر 2004)
[8] عبد القادر بن الحاج نصر، من كتابه عاشق وطن.
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي