عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

تامر عبد العزيز حسن - مصر

موظف الأرشيف


كان يجلس على مكتبه منحني الظهر يطالع المستندات. وكان وجهه يختفي بين رزم الأوراق والمستندات التي تراصت كأنهما هضبتان تخفيان ذلك الرأس الأشيب ذا النظّارات السميكة، التي كانت تجعل من عينيه مجرد نقطتين تسبحان دوما، كأنهما تبحثان عن شيء ما وسط السطور والكلمات التي يطالعها في عمله الذي قارب على عقده الرابع، وقد شارف على المعاش.

أصبح هو والمكتب والكرسي الجالس عليه والمستندات من حوله كأنه جزء من زمن توقف ويعيد نفسه كل يوم. وظل أسير الروتين اليومي الجهنمي.

في بداية تعيينه في الوظيفة، كان زملاؤه يحسدونه على وظيفته المكتبية، بينما البعض منهم كان دائم الذهاب والإياب في مأموريات مُجهدة. في الصيف الحار كانوا يحسدونه على تلك المرْوَحة ذات الشفرات المعدنية التي بالكاد تتحرك، فهي من عمره بتلك المصلحة.

وفي الشتاء كانوا يغبطونه على الدفء الذي يشعر به في مكتبه المغلق بين الملفات المكدسة. أما هو فقد كان سعيدا جدا في البداية. ولكن مع كل سنة تمر عليه، كان يحس بشعور ثقيل من السأم، وبأنه لا شيء مما يفعله يثيره، حتى أنه في النهاية أيقن إنه لا جدوى من عمله، وكل تلك السنوات التي قضاها في ذلك العمل المضني ضاعت من عمره هباء.

كان يهتم بأحاديث زملائه، وكان يشاركهم في كثير من الموضوعات. أما اليوم فهو بعيد عنهم، معزول كأنه في جزيرة نائية، وأصبح في قربهم يشعر بشيء يضغط على أعصابه وبأنه لم يعد يطيق حتى مجرد سماع أصواتهم.

كان أكثر وقت يشعر فيها بالراحة عندما يبقى وحيدا في مكتبه، فيعمل بعيدا عن كل الأحاديث والأصوات التي أصبحت تثير حنقه أكثر مما تثير شغفه، فقد انطفأ لديه كل شعور بالشغف بسبب تيار الروتين اليومي الذي ضيّق عليه مساحة الرؤية، بل وحتى التفكير في المستقبل.

صار لا يهمه شيء وكأن ما يحدث يخص شخصا آخر. أدّت السنوات إلى تحدب ظهره وهو يسير وضعف عينيه. وهيمن عليه شعور قاتل بالوحدة. وأصبح يعاني من فكرة سيطرت عليه، وهي أن كل ما قام به طول سنوات حياته كانت مجرد هباء؛ شيئا معدوم القيمة، لا يختلف كثيرا عن آلة كاتبة ظلت تعمل باستمرار حتى أصابها الصدأ، وبدأت الحروف على مفاتيحها بالتلاشي، بينما مفاتيحه هو بدأت في التفكك، ولم تعد تؤدي الغرض منها إلا بكثير من الصعوبة.

كان يوصف دوما بالقطار السريع؛ الإنسان الحازم الذي لا يتوقف عند العقبات؛ القادر على مواجهتها والوصول إلى مأربه معتمدا على القوانين والتعليمات المنظِمة لعمله. أكثر ما يثير غضبه الآن هو الموظفون الشباب، إذ كثيرا ما يشعر تجاههم بمزيج عجيب من مشاعر الحسد والشفقة: الحسد لأنهم رغم كونهم في بداية طريقهم يبدون قادرين على تغيير مسارهم ووجهتهم، فلا يزال المستقبل أمامهم، وسنوات عديدة يحيونها.

أما هو ففي نهاية طريقه. ولا يدري كيف سيقضي وقته بعد خروجه على المعاش. كيف سيتغلب على تلك العادات اليومية التي اكتسبها على مر عقود حتى أصبحت شيئا متأصلا من ذاته وجسده؟

وكان يشعر بالشفقة عليهم، لأنهم إذا استمروا في مسارهم نفسه فسوف يعانون معاناته الحالية.

فكر في حياته الشخصية. لقد أدى رسالته إلى أخواته واستطاع أن يتكفل بهم، وأركبهم قطار الحياة، وفي غمار ذلك فاته قطاره، ولم يستطع أن يجد وسيلة يتكئ علبها في باقي حياته.

شعر بوحدة مضنية، وبأن العالم كله وأخوته وكل الناس الذين يعرفهم والذين أخذوا كثيرا من حياته، لم يعودوا يأبهون له ولا يهتمون به، وربما يقولون في أنفسهم: متى يأتي اليوم الذي يفارق فيه الحياة كما سيفارق الوظيفة؟ سيطر عليه شعور الوحدة، وكذلك شعور مُــــــرّ بتفاهة كل العالم من حوله.

وفكّر للحظة: هل الحياة كانت تستحق كل هذا القدر من الاهتمام والشقاء؟ وما هي غاية الحياة لإنسان مثلي؟ وهل أتم رسالته بالحياة؟، كثير من التساؤلات دارت في عقله وأرهقته. لم ينتبه ساعتها أن وقت العمل لذلك اليوم قد انتهى، وأن عليه أن يقوم ليكمل دورته التي بدأها.

موظف أرشيف

1 مشاركة منتدى

  • للاسف هكذا عُمر الإنسان في ساقية الحياة ...يدور حولها و معها، لا قيمة للوقت، لا قيمة للبشر، لا قيمة لأي معنى في الحياة، عندما فقط يتوقف و يرى كيف تجاوزه كل شيء فيها...
    قلمك وصف رتابه حياة و ملل صار احد ابجديات الزمان...
    أحسنت


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 37: تطبيقات الذكاء الصناعي: استخدامات مفيدة للكتاب والكاتبات

عشتار والغرباء: مسرحية

فلسفة النقد الأدبي لـنظريات الفن: "الطقوس" لسينثيا فريلاند مثالًا

عرض لكتاب "النحو العربي والدرس الحديث: بحث في المنهج" لعبده الراجحي

قطوف من المسيرة الأدبيّة لعبد القادر بن الحاج نصر

بحث


مـواد الـعـدد الـجـديـد