عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد التميمي - الأردن

عابر جسر


محمد التميميكانت احدى ليالي كانون الباردة، وكنت أتجول في وسط المدينة، التي يوحى لداخلها أول مرة أنها مهجورة، كان الجو صحوا رغم برودته، كنت استعين على هذا البرد بمعطف جلدي وكوب من القهوة الساخنة.

توقفت على جسر قديم، عمره مئات السنين، يمر من فوق نهر يسير ببطء وهدوء حد الرتابة شأنه شأن سكان المدينة. خلعت احدى قفازاتي ومسحت بضع قطرات من الماء تكاثفت على حجارة الجسر المتعبة، وكأنما قد تعب من الوقوف كل هذه السنين حتى تعرقت حجارته. اقتربت منه وهمست خوفاَ من أن يسمعني أحدهم وينعتني بالجنون:

"من أنت أيها الجسر؟ وكم مر عليك من الوقت وأنت لازلت تبرح مكانك؟ وكم من القادة والفرسان مر من فوقك؟ ومن من النساء لامست يداها حجارتك؟"
وضعت كلتا يدي عليه، وأغمضت عيني وأخذت نفساً عميقاً أحسست أنني انتقلت به لعالم آخر، وقبل أن افتح عيني، سمعت صوتاً كما هو صوت الشيوخ الحكماء، يقول لي:

"لا تفتح عينيك واستمع."

دهشني الموقف وكدت أن أفتح عيني وألتفت، إلا أن صبري تماسك ولم أفعلها، وبقيت مطيعاً لهذا الصوت الجليل ومصغياً له وهو يكمل حديثه:

"أنا الجسر الذي تقف عليه يا بني، السحابة تلك التي في السماء هي جدتي، والنهر هو أبي، ولدته جدتي في يوم شديد المطر، فلولا السحابة والنهر لما وجدتني أنا، فهذا أنا الجسر يا بني، ابن النهر وحفيد السحاب."

"أهذا أنت؟ ولكن ما قصتك؟""

أجاب بشكل منفعل وبنبرة ممتعضة: "اقرأ قصصي في الكتب والصحف!"

"ما قصدت هذه القصص، أريد قصتك أنت والنهر والسحابة."

شعرت به سارحاً بخياله، يعود إلى أيامه الأولى، ثم قال:

"كانت السماء مليئة بالسحاب ومتلبدة بالغيوم، وكانت هذه الأرض جرداء تخلو من الشجر والبشر، وفوق هذه الأرض الجرداء جاء المخاض لجدتي السحابة، واشتدت آلام الولادة عليها وبدأت تنتفض بالبرق وتصرخ بالرعد، ثم بدأ المطر ينهمر منها ويشتد ويشتد ويتجمع على هذه الأرض التي احتضنته بين جوانحها، وولد أبي النهر. وكان في بداية الأمر سرياً صغيراُ ضعيفاً، ولكن أمه السحابة التي كانت تمده بالمطر على طول السنة. جعلته نهرا كبيرا كما ترى. ثم جاء البشر له عطشى وجوعا، فأمدهم بالماء والسمك فأحبوه وجاوروه وألفوه وألفهم، وكثر الناس على ضفتيه، ومن هنا كانت ولادتي فولدت كحجارة يتقافز عليها الناس لينتقلوا للجانب الآخر ثم أصبحت جسراُ صغيراً لا يحمل سوى البشر، أما الآن فكما شاهدتني كبيراً عجوزاً أحمل كل من وما يمر من فوقي. ولكن ما يزعجني أن الناس يمرون من فوق جسدي دائما دون أن يقف أحدهم ليشكرني أو ليمسح عن كاهلي بعض التعب، كل الناس يمرون ولا احد يلتفت إلي."

"أنا، أنا التقت إليك وها نحن نتحادث."

ضحك بخفة وقال: "لو لم تكن مثلي لما التفت إلي. لو لم تكن مثلي لما التفت إلي. لو لم تكن مثلي لما التفت إلي. ثم بدأ الصوت بالتلاشي."

عندها فتحت عيني والتفت وناديت: "انتظر لم تكمل لي بعد، من مر فوقك من الفرسان؟ من لامس يديك من النساء؟ ومن ومن..."

عاد إلى صمته الحجري، ولم تنفع الأنفاس العميقة وإغلاق العينين من إقناعه للحديث مرة أخرى. فتحت عيني ومسحت مرة أخرى على حجارته التي لم تعد صماء بالنسبة لي. لبست قفازي وأحكمت إغلاق معطفي وعبرت كما الآلاف من فوقه. وعند رؤيتي لأول شخص في طريقي ابتسمت له وقلت:

"هل تريد أن أسرد لك قصة هذا الجسر؟"

D 25 نيسان (أبريل) 2012     A محمد التميمي     C 12 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • ألأخ الكريم محمد التميمي- ألأردن

    لعلَّ استخدام صيغة الغائب، والابتعاد عن صيغة المتكلم كانتِ الأنسب لمصلحة الموضوع..؟ أما المكونات فغنية بعناصرها، وتستدعي بالتالي كلاماً وجدانياً، لا أدري لِمَ لَمْ يأتِ حاراً، يدفع القلب إلى الخفقان في طاقته القصوى..!؟ كما تَعوَّدَنا من الكاتب في قنينة عطر، وغيرها من النصوص "الدسمة" التي لازمته في الكثير مما أتحفنا به..؟؟!! خاصة وأن العناصر التي أشارَ إليها تتكون: من الماء والهواء والأمومة والغيم وفضاءٍ واسعٍ بلا حدود.. لعل "آلوية" الحرفة هذه المرَّة، طغت على ما عداها من العواطف المتأججة التي عرفناها سابقاً، وكان لا ينبغي استنطاق الحجر ما دام كائناً لا حياة فيه.

    ألحقيفة.. رأيتُ نفسي على أطراف الماضي البعيد، وعلى مقعد الدراسة في معهد إبن سينا على الناصرة، وأنا أناقش في الامتحان قصيدة أبي نواس، ومطلعها:

    عاجَ الشقيُّ على رسمٍ يسائِلُه وعجتُ أسألُ عن خمَّارة البلدِ
    لا جَفَّ دمع الذي يبكي على حجرٍ ولا صَفا قلبُ من يبكي على وتدِ

    راجياً من الأخ الكريم أن يتفضل ويقرأ تعليق الكاتب الكريم مهند النابلسي، في تعقيبه على نصي" ألفستان الأحمر" ولا يلجأ في رده إلى ذات القصيدة من البيت الأخير.


    • الأستاذ ابراهيم المحترم...
      في البداية أود شكرك على التعليق الرائع الذي تنتقد فيه عملي وما أحوجني الى هكذا نصائح لتحسين كتابتي. لعل القصة لم تأتِ بنفس حرارة القصص الاحرى لأنها كانت بين البشر والحجر عديم المشاعر مما خفف من دسامة المشهد وقوته. أنا يا أستاذ ابراهيم أكتب لأجل الكتابة، فأنا أشعر ان القصة تبنى في رحم أفكاري وتتغذى من شريان ذاكرتي لتكبر وتولد كدفقة مشاعرية على الورق، بعضها يأتي قويا وبعضها يولد غير مكتمل النمو او هزيلاً فقصصي ما هن الا بنات أفكاري.

      شكرا لك وشكرا للأستاذ مهند النابلسي ولكلامه الذي سأحفظ منه هذه العبارة : "الفن لا يمكن تفسيره بالمنطق الحياتي الدارج"

    • الأستاذ الفاضل ابراهيم : لي شرف معرفتك منذ زمن وسيظل هذا الشرف يتوّج مسيرتي الأدبيّة والانسانية ماحييت وأتمنّى عليك أن يتّسع صدرك لسؤالي الجاد جدا: حظرتك ناقد محترف أم هاو أي هذه هوايتك؟ ولم تحرص دوما على الاستشهاد بمقولة شهيرة و بيت شعر مخضرم الخ ؟!! أعرفك أديبا واثقا لك ثقلك ومعجبيك وقرّاءك المزمنين ولست بحاجة لتأكيد ذلك عبر أقوال وأشعار الغير لأنّ نور الشمس ما يتغطى بغربال والأعمى لو ماشافها تلسعو حرارتها ونظل نتعلّم منك كما قال الأخ محمد مع التقدير والاحترام.

  • الأخ الفاضل محمد : أعجبني النص والفكرة , اسلوب التمويه لو جاز التعبير بأن ينطق الحجر مثلا يذكرّني بقصص ربّما لم تأخذ حقّها بالانتشار والشهرة لكنّها تترك أثرا لايمحى في الأعماق والقليل فقط يفهمه من غير العودة الى تفسير كاتبه , في المسلسل المصري (بعد الفراق) الغني جدا بالموضوعات الّتي يتطرّق اليها أعرف الكثير ممن لم يفهم النهاية وظهور الصحفي المختفي كصيّاد كذلك الفلم الأمريكي الأكثر شهرة(مدينة الملائكة) أتمنّى انك شاهدته لترى النديّة في نصّك وحبكته مع الفارق في الفحوى لكن تظل النهاية مفتوحة لكل الاحتمالات, قد يبدو تعقيبي هشّا حيث لاألجئ للاستعانة ببيت شعر جاهلي أو جملة لأحد الجهابذة الخ لكن الحوارات البسيطة مثل اللحظات البسيطة هي الأجمل والأمتع على الاطلاق , قمة الارتفاع في حرارة المشاعر حين يجيب النهر(لو لم تكن مثلي لما...) أعتقد انّ من يتأملّ هذه الجملة فقط يستلهم منها الوحي لنصوص كثيرة, جميلة جدا سطورك والأجمل مابين السطور.


  • الجدة سحابة، الأب نهر، الإبن جسر..! بالنسبة لي؛ زاوية جديدة لرؤية الأشياء، أحسنت و أبدعت أستاذ محمد.


  • أرى أن المحور الرئيس في القصة هو العبور وليس الجسر ، حيث يتركز العبور في الانتقال عبر الزمن ، فابتدأ مع السحاب قبل وجود الجسر بأعوام كثيرة ، واستمر حتى شاخ الجسر ، وعندها خاطب من أحس به ، فكان كالعجوز الذي يودع حكمته في أحد ثقاته ليحملها عنه قبل أن توافيه المنية .


  • ألاستاذة الكريمة أمل

    هؤلاء يا سيِّدتي مناراتٍ ترشدُنا وتنيرُ عقولَنا وقلوبَنا عبرَ العصور، وينبغي أن نعرفَ نفوسَنا جيداُ معهم.. فمن عرفَ نفسَه فقد عرفَ قيمتَه، ومن عرفَ قيمتَه فقد تواضع..

    ألم يقلِ المتنبي حبيبُ قلوبِنا جميعاً: ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِه..؟ لا يجوزُ لهذا الميراثِ الإنسانيّ الكبير يا سيِّدتي، أن يبقى مدفوناً في بطونِ كتبٍ يبلغُها العث فيفتك بها ويتلفها، ويتلف معها عقولنا وقلوبنا.


  • الاستاذ محمد التميمي

    قرات نصك "عابر جسر" منذ صدور العدد. ومع زيارتي لمدينة "الجسور والنسور" عاصمة الشرق "قسنطينة"، وعبوري لاحد جسورها السبعة تذكرت نصك وما انتابك من تساؤلات.. فقط اردت ان اقول فعل "...جسور قسنطينة السبعة..الروعة والجمال بالصور" وستكتب شعرا لا نثرا.

    لا استهين بجسرك، فالمكان حين نعتاده يصبح بقيمة الوطن، او بقيمة انسان نحاوره فيجيب، او هكذا نتصور.. دمت بخير..


    • الاستاذة زهرة
      يسعدني جداً أن نصي بقي عالقاً في الذاكرة، وخطر ببالك عند زيارتك لقسنطينة التي ما انفككت أحلم بزيارتها من أول مرة قرأت فيها رواية "ذاكرة جسد" فلم يعلق في بالي من هذه الرواية شيء كما علقت جسور قسنطينة. سأزور قسنطينة بالتأكيد ان شاء الله وسأكتب عنها وعن جسورها شعرا ونثرا، حتى وان كثت لفترة بسيطة، فلن أكون الا مواطن هناك فالحب لا يعترف بالحدود.

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 71: فاشية إسلامية؟

زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية

ثروة من الماضي يحرقها الفساد

الهوية والتاريخ والآخر في موسم...