محمد فيصل يغان - الأردن
الهوية والتاريخ والآخر في موسم...
الهوية و التاريخ والآخر
قراءة في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح
إن كان هاجس الهوية هو سمة عامة لشعوب العالم وخاصة في المراحل القلقة والانتقالية من تواريخها، إلا أن هناك خصوصيات واضحة لتشخص هذا الهاجس في المقاربات الفكرية لمسألة الهوية وتعريفها لدى كل شعب على حدة. في الحالة العربية بالذات، نجد أن معاقرة التاريخ والتراث والنبش في الماضي بحثا عن الهوية وعن الذات هي السمة الطاغية على النشاط الفكري العربي المعاصر المعني بإشكالية الهوية بأشكاله، سواء البحثية منها أو الإبداعية.
المقاربة التاريخية والتراثية للهوية هي تعريف بالسلب لها. الآخر وحضوره الطاغي في مجالنا الحيوي وحصاره لأسوارنا من الخارج-الحاضر هو الإيجاب، وهو الحضور والحصار الذي دفع بنا إلى استيلاد الداخل-الماضي. والدليل الأقرب على هذا الحضور الطاغي للآخر، يظهر من مقارنة حجم اهتمام المثقف العربي بالإنتاج الثقافي الغربي مقارنة باهتمام المثقف الغربي بإنتاجنا الثقافي وخاصة المعاصر. وإن كان هناك من اهتمام من قبل بعض المختصين الغربيين، فجلٌه بالجانب التاريخي من ثقافتنا والتي يعتقدون جازمين (وغالباً بحق) أنها تمثلنا حتى اليوم.
وهذا الاهتمام ليس لضرورة فرضناها من خلال تواجدنا كآخر يملأ عليهم حيزهم الحيوي، وإنما كحالات دراسية ضمن مشروع أوسع. أما نحن، فتحت ظل الحصار الحضاري والخوف من فتح البوابات، انكبت جهودنا الفكرية على النبش في آبار التراث داخل الأسوار بحثا عن أسباب الحياة، فمن بئر جفت إلى أخرى أسن ماؤها تذهب هذه الجهود سدى.
القراءة التالية هي قراءة من خلف كتف الكاتب، فهو موجود وبقوة بفكره وتجربته، وإن كان ثمة من إسقاطات من جانبنا كقراء، فهي في حدود مشاركتنا للكاتب في التجربة وتفهمنا للخلفية الثقافية التي منها ينطلق.
في ثنايا عمله الإبداعي، رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، يمثل الطيب صالح هذه المقاربة للهوية وحضور الآخر الطاغي والردة المصاحبة لهذا الحضور نحو التاريخ من خلال توظيف رائع للرموز، فالمكان عنده يصبح زماناً من خلال توصيف "تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل" التي توقف التاريخ عندها عن الجريان؛ “النهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال، ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة، ويجري من الشرق إلى الغرب"؛ و"النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية يجري نحو الشمال، لا يلوي على شيء".
نهر النيل هو التاريخ، والجنوب هو الحميمي المألوف، الزمن الذي يعيش معنا دون تغيير، هو الجد المعمٌر الذي يراه مصطفى سعيد بطل الرواية والشخصية المحورية فيها “جزءا من التاريخ". وهو القباب العشرة في المقبرة والقائمة منذ الأزل، “والقبور اعرفها واحدا واحدا، وأعرف ساكنيها الذين ماتوا قبل أن يولد أبي والذين ماتوا بعد ولادتي"، فالأموات ليسوا حقيقة أمواتا في هذا الزمان الأسطوري، وهو كما يناجي الراوي نفسه حين أوبته للقرية بعد اغتراب: “نعم الحياة طيبة، والدنيا كحالها لم تتغير" و"النخلة القائمة في فناء دارنا، عروقها ضاربة في الأرض. أحس أني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور له هدف"، أي أن له هوية شكلها هذا الزمان المتوقف.
أما الشمال فهو المستقبل المجهول والاحتمالات، والمغامرة بالخروج من حالة السكون والطمأنينة الزائفة وانكشاف الأكذوبة كما حصل لمصطفى سعيد “ولكل الشخصيات الأخرى التي خبرت حضور الآخر بشكل من الأشكال"، الذي خبر الشمال عن كثب وتفاعل معه بكل كيانه فصرخ بداخله في النهاية “هذا المصطفى سعيد لا وجود له. انه وهم، أكذوبة".
إذن، فمسرح الأحداث ليس بمكان، بل زمان، الماضي-الداخل الذي نتحصن به، أي الجنوب كما يرمز له الطيب صالح، والحاضر-الخارج الذي يحتله الآخر أي الشمال. هذه التحويلات النسبية (نسبة إلى نظرية النسبية) للمكان والزمان، تؤسس للأجواء السريالية لمجريات الرواية وتفتح الباب واسعاً للتوظيفات الجمالية للغة.
تتخلق الرواية أمامنا من خلال المفارقة التي يرسمها لنا الكاتب، ويفككها أمام أعيننا على مدار الرواية، مفارقة الاختلاف الجذري ما بين تجربة بطل الرواية مصطفى سعيد مع الشمال، وتجربة الراوي الذي عاش في نفس البلد، انكلترا، سبعة أعوام. الأول خاض تجربة تراجيدية عنيفة، تجربة وجودية بكل معنى الكلمة، تجربة تركت آثارها عميقا في أعماقه وأعماق من تفاعلوا معه من الطرف الآخر.
أما الثاني فتجربته كانت سطحية وعابرة كما يعتقد هو نفسه إذ يقول: “لقد عشت أيضاً معهم، ولكني عشت معهم على السطح، لا أحبهم ولا أكرههم"، ولكنه يسلم لنا طرف الخيط لحل هذه المفارقة وتجاوزها حين يستمر قائلا: “كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة، أراها بعين خيالي أين التفت. الوجوه هناك، كنت أتخيلها، قمحية أو سوداء، فتبدو وجوها لقوم أعرفهم. هناك مثل هنا، ليس أحسن ولا أسوأ".
الراوي ذهب إلى الشمال المكان، ولكنه في وعيه لم يغادر الجنوب الزمان، حصن نفسه بفقاعة تراثه حتى عاد إلى الجنوب المكان، كما كان. ولكن احتكاكه بمصطفى سعيد وبتجربة الأخير اللافحة أثارت في نفسه الهواجس: “هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضا أكذوبة؟".
نعم سيكتشف لاحقا أنه أكذوبة، فمهما حاول أن يموه الحقيقة بتمنيات مثل:
“ولكنني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا، نبتت في دارنا ولم تنبت في دار غيرها. وكونهم جاؤوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أن نسمم حاضرنا ومستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً؛ سكك الحديد والبواخر والمستشفيات والمصانع والمدارس، ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل. سنكون كما نحن، قوم عاديون، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع انفسنا".
سيعترف الراوي لاحقا أن الأمور ليست بهذه (البساطة)، وتبدأ رحلة الشك عنده إذ يقول: “وإذا بمصطفى سعيد رغم إرادتي، جزء من عالمي، فكرة في ذهني، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله. وإذا أحساس بعيد بالخوف، بأنه من الجائز ألا تكون البساطة هي كل شيء".
بعد أن لفحته تجربة مصطفى سعيد بدأ يشعر بأنه خاض نفس التجربة، ولكنه استطاع أن يموه على نفسه وأن يكذب عليها إلى حين، وإذا بالتجربة نفسها راسخة عميقا في لاوعيه، وأن فقاعته لم تحميه من مرٌ التجربة. يكتشف لاحقاً أن التجربة هذه ترسبت في لاوعي السودانيين جميعاً، وما مصطفى سعيد إلا الزناد الذي يحركها ورمزها الذي يطفو بها إلى سطح الوعي، هو ذا المأمور المتقاعد الذي يجاذب الراوي أطراف الحديث في ذات رحلة على متن القطار. يتذكر فجأة مصطفى سعيد في سياق الكلام عن المحتل الإنكليزي:
“في لحظة لا تزيد عن طرفة عين، يتوهج توهجا خاطفا كأنه شمس في رابعة النهار. ولا بد أن الدنيا في تلك اللحظة بدت مختلفة بالنسبة للمأمور المتقاعد أيضا، إذ أن تجربة كاملة كانت خارج وعيه أصبحت فجأة في متناول اليد".
هذه اللحظة من عودة الوعي بالتجربة يكررها الكاتب ويؤكد طبيعتها الجمعية مع المحاضر الجامعي الشاب الذي زار الشمال هو أيضا لتحصيل العلم، فهكذا يتذكر هذا الشاب مصطفى سعيد: “مصطفى سعيد. قالها الشاب المحاضر وعلى وجهه إحساس الفرح ذاته الذي لمحته على وجه المأمور المتقاعد".
إذن هي تجربة الاحتكاك بالآخر، احتكاك حاضرنا بحاضر الآخر، احتكاك زماننا الجنوبي الذي توقف عن الجريان بزمان الآخر الشمالي، هذه التجربة غيرت كل شيء، ولم تعد الأمور على سابق عهدها.
لقد زرع الشمال (جرثومته) فينا: “جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. جرثومة العنف الأوروبي الأكبر". واصبح الشمال شئنا أم أبينا حاضراً على الأقل معنا، وغالبا فينا، وأصبح هذا الحضور لقوته وعنفه تعريفاً بالإيجاب لهويتنا.
ومع عودة التجربة إلى مستوى الوعي، تغيرت نظرة الراوي إلى الواقع واصبح العادي والبسيط يبدو سرياليا إلى اقصى حد:
“وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة الرحيمة أحس أننا جميعاً أخوة. الذي يسكر والذي يصلي والذي يسرق والذي يزني والذي يقاتل والذي يقتل. الينبوع نفسه. ولا احد يعلم ماذا يدور في خلد الإله، لعله لا يبالي. وردد الليل والصحراء أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجن. وعند الفجر تفرقنا".
ونفس المنظر السريالي في دهاليز السياسة والحكم نتيجة حضور الآخر كما يصورها وصف حال العاصمة ومؤتمراتها. إنها أزمة الهوية وقد استفحلت، والآخر بحضوره هز أسس الجنوب وعكٌر سكونه. الأمور لن تبقى على ما كانت عليه بعد الآن.
إذن حضور الآخر القسري كان عنيفاً، وتفاعلنا معه كان عنيفاً سواء هنا أو هناك. هناك كان مصطفى سعيد مجرد جرو حيوان متوحش التقطته السيدة روبنسون-أوروبا وتبنته. لم يكن لهذا المخلوق تاريخ، فحسب ما يصف نفسه:
“وكنت، ولعلك تعجب، أحس إحساساً دافئاً بأني حر،بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم يربطني، كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين"
ولحظة سفره الأولى إلى القاهرة يقول:
“ففكرت قليلا بالبلد الذي خلفته ورائي، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري، وواصلت رحلتي. وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا، فتخيلها عقلي جبلا آخر، أكبر حجما، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى"
ويقول لاحقا: “كان كل همي أن أصل لندن، جبلا آخر أكبر من القاهرة". كالبدوي المترحل، لا في المكان فحسب، بل بالأزمنة الحضارية، فالسودان والقاهرة وأخيراً لندن هي أزمنة حضارية، ورحلته هي من زمن الجنوب إلى زمن الشمال.
أبوه كان من قبيلة تنقلت بين مصر والسودان وعمل أفرادها في خدمة حملة كتشنر، وأمه يقال إنها كانت رقيقاً من الجنوب. رجل بلا تاريخ ولا تراث. كان أهل الشمال ينظرون إليه كما يُنظر إلى وحش مروض، فقيمته لم تكن في إنتاجه الفكري.
رجل الاقتصاد الإنكليزي يقول عنه: “مصطفى سعيد هذا لم يكن اقتصادياً يوثق به" وبرأيه أن إنتاجه الفكري ونظرياته لا تساوي شيئاً وسبب شهرته هي
“كان كما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا في العشرينات والثلاثينات يتظاهرون بالتحرر. حتى منصبه الاكاديمي–لا ادري تماما ماذا كان- يخيل إلي أنه حصل عليه لأسباب من هذا النوع. كأنهم أرادوا أن يقولوا: انظروا هذا الرجل الإفريقي كانه واحد منا!" وهو بالنهاية “تحول إلى مهرج بين يدي حفنة من الإنكليز".
كان إذا الوحش الجنوبي الذي دجنه الشمال وزين به قاعاته، واشتم منه “رائحة الأوراق المتعفنة في غابات إفريقيا. رائحة المنجة والباباي والتوابل الاستوائية. رائحة الأمطار في الصحارى العربية"، كما ورد على لسان إحدى عشيقاته الإنكليزيات.
لم يكن الجنوب في نظر الشمال إلاٌ متحفاً أو حديقة للحيوان. هذه الهوية النمطية التي فرضها الشمال بترفعه ومركزيته على الجنوب، كانت أحد أسباب عنف ودموية تجربة التفاعل ما بين الطرفين.
المقاربة القائمة على علاقة الوحش المفترِس بالمدجن، يستثمرها الطيب صالح ويبلغ بها ذروتها حين يضعها في قالب الجنس، والجنس كأحد أقوى الروابط ما بين المرحلة الغريزية والمرحلة الاجتماعية للإنسان، يتمثل في طقوس افتراس الأنثى وترويض الذكر التي طورها المجتمع وأطٌر بها الفعل الجنسي.
من خلال هذه المقاربة يصور لنا الطيب صالح طبيعة التفاعل الحضاري بين الشمال والجنوب منذ الاحتكاك الأول لمصطفى سعيد مع الحضارة الأوروبية: السيدة روبنسون-الأنثى، تحضنه هي كما تحضن قطة شاردة او جرو فهد جائع، بينما تنشغل حواسه هو برائحة الجسد الأبيض-الفريسة.
منذ تلك اللحظة فصاعدا تكون كل مواجهات مصطفى مع الشمال هي مواجهة الوحش الباحث عن فريسة، الشمال، عالم جين مورس الحالم بترويض الجنوب وتحويله إلى حيوان مستأنس-فاقد للفحولة.
يكسب سعيد الجولة تلو الأخرى ويفترس الأنثى تلو الأنثى: “إنني جئتكم غازيا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلاً. عطيل كان أكذوبة". كن ينخدعن بمظهره المستأنس “رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب" حتى يلتصق بهن، وإذا به الوحش الذي جاء غازيا، فتكون النتيجة سقوط الضحية تلو الأخرى حتى تصل الفاجعة قمتها مع جين مورس.
تظهر جين مورس منذ بداية لقائها بسعيد كمروض الأسود في السيرك: “وقفت أمامي ونظرت إلي بصرف وبرود". وفي مناسبة أخرى تقول له: “أنت بشع. لم أر في حياتي وجها بشعاً كوجهك". ويبدو هو كالوحش المستعصي على الترويض والمصِر على الظفر بها: “وحلفت في تلك اللحظة وانا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام (...) أردت أن أراقصها فقالت لي : لا أرقص معك ولو كنت الرجل الوحيد في العالم. صفعتها على خدها فركلتني بساقها وعضتني في ذراعي بأسنان كأنها أسنان لبؤة".
صورة للسعات سوط مروض الأسود وزمجرات الأسد. وتمثل تفاصيل علاقته مع جين علاقة الشمال بالجنوب بكل عنفها ومرضيتها حتى تنتهي المأساة بان يقتلها في الفراش في طقوسية جنسية غرائزية غابت عنها الأطر الحضارية.
هذا ما كان هناك في الشمال، أما ما كان في الجنوب فلم يكن اقل عنفاً، فالجرثومة قد استفحلت وزرعت العنف والجنون في من أصابتهم. ما كان عاديا وبسيطاً كزواج ود الريس العجوز المتهالك من امرأة صغيرة كأرملة مصطفى سعيد، أصبح حدثاً من قلب جهنم يحرق كل من يشارك فيه.
عودة مصطفى سعيد واستقراره في “تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل" في محاولة بائسة للتحصن بتاريخ وتراث علّه يشفى من أزمة الهوية التي مزقته وأضاعت حياته، باءت بالفشل، فهو جلب أشباح الشمال وصقيعه معه. أبقى أشباحه مسجونة إلى حين في “غرفة من الطوب الأحمر" مبنية على الطراز الأوروبي، ولكنها تسرٌبت أخيراً ونشرت الجرثومة بين أهل الجنوب.
وكان لا بد مما ليس منه بد بعد أن نبذه الشمال وبعد أن خذله الجنوب، أن يسلم نفسه لمجرى التاريخ ليسير به إلى مستقر ما، فاختفى ذات فيضان في النيل.
ما كان في الشمال كان دموياً، ومثله ما كان في الجنوب، زواج أرملة مصطفى سعيد من ود الريس العجوز كان باب جهنم ينفتح على تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل، “البلد كلها كأنما حل عليها الشياطين في تلك الليلة" و"العالم فجأة انقلب رأساً على عقب"، والراوي يقول “أنا حاقد وطالب ثأر وغريمي في الداخل. إنني أبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد".
طقوس الجنس الاجتماعية سقطت هنا أيضا وتحولت إلى صراع غريزي، صراع بقاء بين حضور الشمال من خلال حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد الذي نقل لها الجرثومة والجنوب من خلال ود الريس. فكان أن قتلته وقتلت نفسها ضمن طقوسية جنسية غرائزية وفي مشهد سريالي جهنمي دلالة مرة أخرى على مدى عنف العلاقة ما بين الشمال والجنوب.
الماضي غير قادر على الاستمرار، ود الريس مات والجد تهالك وبدأت علامات الموت تغزوه. الجنوب الساكن يتهالك تحت وطأة الشمال والجرثومة القاتلة بدأت فعلها. مصطفى سعيد والراوي وكل من لوثهم الشمال الأوروبي يبدون كمخلوقات هجينة، مخلوقات ينبذها الجنوب قبل الشمال.
ضمن هذه المتاهة لا بصيص أمل سوى ربما، محجوب. ابن الجنوب هذا يبدو كالقبطان الذي يسير دفة السفينة في رحلتها من جنوبها هي إلى شمالها هي، لا شمال الآخرين، فهو (ملح الأرض) كما يصفه الراوي، وهو من يجب أن يدير الحكومة في العاصمة الخرطوم، لم يلوثه الشمال الأوروبي ولم يحبطه الجنوب المتثاقل، فهو الذي كلما قابلناه في مسارات الرواية كان في الحقل يقلع أو يزرع، أو في الجمعية المحلية يخطط ويدير مصالح القرية.
كان الشخصية التي وظفت عقل مصطفى سعيد الآتي من الشمال في مصلحة أهله في الجنوب. أما وقد حل موسم الهجرة إلى الشمال، فهو القبطان الذي سيوصلنا إلى شمالنا نحن لا إلى شمال الآخرين.
هاجس الهوية وتساؤلات وجودية أثارها احتكاكنا بالآخر واقتحامه لعالمنا. هوية نمطية يحملها الآخر عنا ويخلعها علينا ويتعامل معنا على أساسها، وهوية نمطية عن الآخر نحملها عنه ونخلعها عليه ونعامله على أساسها. ومن الجانب الآخر للمسألة، هوية مثالية يحملها الآخر عن نفسه ويعاملنا من خلالها، وهوية مثالية عن أنفسنا نختلف عليها مع الآخر وفي ما بيننا.
هل هي جنوبية كما يظن أهل تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل؟ أم هجينة كما هو مصطفى سعيد والراوي، أم هي شيء آخر تماما، تنتظرنا هناك في الشمال عند مصب النهر في البحر؟
كل هذه الأسئلة حاصرت الراوي وهو في منتصف النهر، ما بين الضفة الجنوبية والضفة الشمالية، عارياً كما ولدته أمه، وجعلته يختم الرواية بصرخة “النجدة. النجدة".