فريدة إبراهيم بن موسى - الجزائر
زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية
أدناه مقطع من الفصل الثاني من كتاب صدر حديثا للباحثة الجزائرية فريدة إبراهيم بن موسى. عنوان الكتاب "زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية"، وقد صدر عن دار غيدا للنشر، الأردن (2012). تتناول الباحثة في الكتاب أربع روايات لكل من ياسمينة صالح، وأحلام مستغانمي، وزهرة ديك، وفضيلة فاروق، وهي روايات كتبت في تسعينيات القرن الماضي عندما شهدت الجزائر سنوات من العنف عرفت بالعشرية الحمراء.
قراءة المحنة في العنوان: "وطن من زجاج" (*)
شكل العنوان الرسالة اللغوية الأولى التي يتلقاها القارئ فتشد بصره وتحرك إدراكه، للحفر في مدلولاتها. فالعنوان هو النص الأول الذي يتوقف عنده المتلقي، باعتباره المفتاح الأساسي لقراءة مضمون النص الإبداعي، ورغم الطابع الاختزالي للعنوان، إلا أنه يمثل الجزء الأهم، بوصفه الواجهة الإشهارية، والإغرائية، لما يتوفر عليه من حمولة مكثفة، تثير في المتلقي هاجس التوغل في كنه العمل الأدبي. لدا يفترض أن يكون الاهتمام منصبا على اختيار العنوان الملائم لمضمون النص.
عنوان رواية "وطن من زجاج" يبدو للوهلة الأولى أنه من العناوين الأكثر وضوحا، باعتبار أن ملفوظاته واضحة لا تحتاج إلى شرح كبير، لكن وضوح ملفوظه، لا يعني وضوح مدلوله، لأن سياق التركيب ينتج العديد من الدلالات، التي تبدو هنا مبهمة وغامضة، فالكاتبة لا تريد أن تجيب عن كل الأسئلة التي تختلج في دهن القارئ، من العتبة الأولى للنص الروائي، خاصة عندما تصدمه بالجمع بين "وطن" و "زجاج"، وربما تتعمد تشويش فكر المتلقي، حسب إيكو، لأن غاية العنوان هو إثارة الجدل وفتح الباب على مصراعيه أمام التأويلات. فكيف يمكن الجمع بين الزجاج والوطن؟ وما علاقة الثاني بالأول؟ وما هي العلاقة بين شكلية العنوان ومضمون النص؟، ثم ما علاقة كل ذلك بمحنة الوطن.
جاء عنوان هده الرواية من نوع العناوين غير المباشرة ذات التركيب المجازي. الأمر الذي يستدعي قراءة المضمون لفك شفرات العنوان. رغم أن أمبرتو إيكو يعتبر أن مجيء "العنوان هو للأسف مند اللحظة التي نضعه فيها مفتاح تأويلي"، أي أن العنوان يثير فضول المتلقي، الذي يعبر عن المحتوى بعيدا عن القراءة وقد يصدق تحليله، وقد يلبث مجرد إمكانية للتأويل بعد الإتيان على العمل. لذلك لا بأس أن نتعرف على شكلية العنوان و مدلوله.
إذا تتبعنا العنوان الحاضر في الصفحة الأولى لغلاف الرواية، باعتباره فاتحة نصية بامتياز، تنقل القارئ من الدال إلى المدلولات، التي قد يكتنز ها المتن، نجد أن العنوان مركب من ثلاث كلمات؛ اسمان يتوسطهما حرف جر. وجاء "وطن" مفرد، نكرة يعرف بالجزء الثاني من العنوان، و "زجاج" كذلك جاء نكرة يحمل الوطن دلالات تزيح عنه معناه المعتاد، فنرقب المعنى الذي قد يتناسل من تركيب "وطن" و "زجاج"؟
نحويا نحن أمام جملة اسمية مكونة من خبر لمبتدأ محذوف، يُحتمل أن يكون "هذا وطن"، وتأتي شبه الجملة من الجار والمجرور، لتكسب هذا الوطن صفته التي تميزه عن غيره من الأوطان، لأننا أمام وطن من زجاج.
جاء في لسان العرب، أن الوطن هو المنزل الذي نقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله. والجمع أوطان، وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها. ووطنَ بالمكان، وأوطن: أقام، وأوطنه: اتخذه وطنا(1). أما الزُجاج والزَجاج والزجاج: فهي القوارير، والواحدة من ذلك زُجاجة. وقال أبو عبيدة: يقال للقدح زجاجة، وجمعها زجاج، وزُجاج وزَجاج(2).
بناء على ما سبق، تحيلنا كلمة "وطن" مباشرة على المكان الذي يمثل السكن والمأوى والمحل. لكن ما هي طبيعة هذا المأوى الزجاجي؟
إن المهمة الأساسية في دراسة العنوان تكمن في جعله أداة وظيفية إنتاجية، تقوم بتوليد الدلالات الممكنة، لنحاول بعد ذلك ربطها بالمتن الروائي. فنحن أمام "وطن من زجاج" أي مأوى زجاجي. فهل يعني ذلك أنه بُني من زجاج، وبالتالي هو مرشح لأن يكشف أسرار وعورات ساكنيه للآخرين؟ أم أن الوطن سيأخذ من الزجاج ألصق صفة به؛ وهي سرعة الانكسار. فهل الوطن المقصود، هو وطن سريع العطب سريع التهشم، والانقراض؟
انطلقت الكاتبة في استراتيجية(3) العنونة من لفظ يوحي بتيمة الرواية؛ وهو الـ"وطن"، هذا الوطن الذي يبدو من الوهلة الأولى، أنه سريع العطب والزوال، لكن من بمقدوره كسر زجاج الوطن؟ ولما يكسره؟
ربما الإجابة على هذا السؤال، ستحيلنا على المحنة التي يشهدها هذا الـ"وطن" الزجاجي. ويمكننا أن نستعير من رواية كولن ولسن(4)، قفصه الزجاجي(5)، الذي يحاور بطريقة ما، عنوان رواية "وطن من زجاج"، فالقفص يحد من حرية الطائر في التحليق والعيش في الفضاء. كذلك الوطن قد يكون قفصا يُسجن فيه الشعب، فيختنق ومن ثم يموت.فهل نحن أمام وطن زجاجي يَحرم الشعب من حريته؟
وفي محاولة لفك خيوط النسيج الذي حاكتته الكاتبة، من خلال سياق تركيب العنوان، ننتقل من عتبة النص/العنوان، إلى عمق النص محاولين ربط العنوان " وطن من زجاج" بما يحمله المضمون.
يمثل الوطن بكل ما يحمل من دلالات تيمة الرواية بامتياز، ولا أدل على ذلك من انطلاق الرواية بسؤال ربما يختصر الأزمة كلها، "كيف نحب وطنا يكرهنا؟"
من هذا المنطلق تسجل أحداث الرواية انكسار "الأنا" في وطن يُضيق الخناق على المواطن إلى أن يجرده من إنسانيته، "الوطن الذي يجردك من صلاحياتك"، فيقع الصدام بين الأنا والحياة، وبين الأنا والوطن.
يرحل المقربون من الشخصية المحورية (والدته، والده، عمته، جده) ليشهد انكسار الذات، ويبقى وحيدا يتيما يجر خيباته، من القرية إلى المدينة في وطن أعلن إفلاس خزينته من الحب "صدقت أن الوطن كفيل بكل شيء، ها هو يأخذ منك ما تبقى من فرح"(6).
وفي القرية كانت قد نبتت عشبة القلب وترعرعت، لكنها سرعان ما أصيبت بالنكسة بسبب سفر الحبيبة، التي لم تُمنح اسما فتماهت كحب يشمل كل جراح الوطن، وجراح القلب التي أصيب بها، بعد رحيل رفاق مهنة الصحافة، ابتداء من أخ حبيبته ورفيق دربه، وانتهاء بالعدد الكبير من الصحافيين الآخرين، الذين ذهبوا في صمت. وهنا يمكن أن نسجل وقفة قصيرة أمام هذا الدمار الذي يشهده الوطن، والتقتيل العشوائي ضد المثقفين والصحافيين، لنُذكر بالسمة المشتركة بين شخصيات المدونة الروائية محل الدراسة، فجميع أبطالها هم من المثقفين، خاصة العاملين في مجال الصحافة، وهو المجال الذي كان مند بداية الأزمة مستهدفا، فنجد أن مجال الصحافة يشكل الدائرة التي تشترك فيها كائنات هده المدونة الروائية.
في "فوضى الحواس" وجدنا البطلة كاتبة، وبطلها الحبري صحافي مهدد بالقتل، وصديقه عبد الحق هو الصحافي المغتال، الذي كانت البطلة تبحث عنه. وفي رواية "في الجبة لا أحد"، عشنا مع السعيد، الرجل البسيط المثقف، والموظف في مسرح المدينة وقد هدد بالقتل هو أيضا، بسبب عمله في المسرح، ثم تـم الهجوم على بيته لقتله.
أما في رواية "تاء الخجل"، فعشنا مع خالدة، الصحافية المتمردة على أعراف قريتها، والناقمة على سياسة بلدها، تتابع أخبار المرأة وسط ألغام الإرهاب والمسلحين. وأمام تواصل صور الدمار والقتل والاغتصاب، تعلن في الأخير وفاتها هي الأخرى، ولكن بطريقة مختلفة عن الآخرين، حيث تعلن الرحيل عن وطنها الذي تعتبره مقبرة للأموات والأحياء على السواء.
لذلك يمكننا القول إن عنوان "وطن من زجاج" قد لخص المحنة بصورة مختصرة، وأعلن عنها في العتبة الأولى التي تمثل مفتاح النص. المحنة التي كابدها أبطال المدونة الروائية، لتعلن عن انكسار الروح وانهزامها، بضياع الوطن الذي سرق اللصوص قلبه، "لا شيء يعوض خسارتكم أيها اليتامى في وطن سرق اللصوص والقتلة قلبه"(7).
ونفس المحنة نجدها في رواية "في الجبة لا أحد"، مجسدة في قول الكاتبة:" هل الدم مطر هذا الوطن؟"(8). أما في "تاء الخجل"، فقد عبرت الكاتبة عن المحنة في آخر صفحة بقولها: "الوطن كله مقبرة". لتبقى ثيمة الوطن وما يتعرض له من إبادة هي القاسم المشترك، فتتساءل كاتبة "فوضى الحواس": "لا أفهم، كيف يمكن لوطن أن يغتال واحدا من أبنائه على هذا القدر من الشجاعة؟"(9).
هكذا تعبر الكاتبة الجزائرية عن محنة التسعينات؛ المحنة التي تلخصت في الإبادة الجماعية والاغتيالات الفردية، فجاءت عبر اللغة لتعلن عن المأساة بطريقة شعرية تغري بالغوص في كنه مجاهلها، وتتمنع عن الإفصاح.
ويأتي توارد منطوق عنوان رواية "وطن من زجاج"، على امتداد صفحات الرواية، لا لتأكيد سلطة العنوان على النص فقط، وإنما يؤكد مظاهر التنامي وإعادة الإنتاج، التي يحققها حضور العنوان في المتن الروائي، فقد تواتر لفظ "الوطن" بصورة واضحة، في حين اقتصر ذكر لفظ "الزجاج" مرتين في سياقين مختلفين.
وكما سبق وأن ذكرنا، تتماهى حبيبة البطل مع الوطن، ويظهر ذلك جليا في قوله يحاور ذاته، "يا امرأة من زجاج. يا وطنا عشته بتفاصيله الخاصة بي"(10).
وقوله: "كل الدروب التي قادتني إليك هي نفسها التي مشيتها بحثا عن وطن أردت أن أستعيده في اسمك السهل، حتى وأنا أجر انكساري بعيدا وأمشي على الزجاج المكسور".
تتماهى المرأة، بالوطن لتصبح صورة واحدة، لوطن من زجاج سريع العطب، من خلال توجيه الخطاب للحبيبة التي أخدها منه الضابط العسكري، وهذا ما يؤكد المماهاة بين الاثنين، وأن الكلام عن الحبيبة، ما هو في الحقيقة إلا كلام عن الوطن المغتصب من طرف العسكريين الذين يفرضون نظامهم على الشعب فيحدون من حريته، وذلك في قوله: " يا جنية اختارت شارعها العسكري وتركت لي شارعي المدني المليء بالهموم اليومية والأحزان"(11).
وهكذا تكتمل الدائرة التي بدأت الكاتبة نسجها، من عتبة النص الأولى/العنوان، الذي يفرض سلطته على النص، ويجسد الوطن المهدد بالانكسار والفناء، كما يجسد القفص الزجاجي الذي يخنق الشعب المتعطش للحرية والكرامة، " وجهك الذي كان وطني الوحيد. كان مطالبي الشرعية بالخبز والعدالة والمساواة" (12).
= = = = =
الهوامش
=2= لسان العرب، مادة "زجاج"
=3= كل محاولة للوصول إلى الأهداف بواسطة تصرف لغوي تعد من حيث المبدأ إستراتيجية. والإستراتيجية تعني أن أي تصرف في حالة من حالات التصرف الممكنة يكزن موجها إلى شخص آخر يخطط له بشكل مسبق. لدا نعرف الإستراتيجية بوصفها محصلة لسلسلة من عمليات الاختيار واتخاذ القرارات ـالجارية في العادة عن وعي ـ التي تعلم بواسطتها خطوات الحل ووسائل لتنفيذ أهداف اتصالية. انظر، فولفانج هاينة من، وديتر فيهفيجر: مدخل إلى علم النص، تر:فالح بن شبيب العجمي، النشر العلمي والمطابع، جامعة الملك سعود، 1999 ،ص314
=4= كولن هنري ولسون، كاتب إنجليزي من مواليد 1931 ، اشتهر بالفلسفة الوجودية.من أعماله: اللامنتمي، طقوس الظلام، القفص الزجاجي. انظر ويكيبيديا الموسوعة الحرة
=5= وردت الإشارة إلى رواية "كولن ولسن" في مقال للكاتب العراقي، عبد الكريم الزيباري بعنوان:متقابلات السرد الاستفهامي في "وطن من زجاج". يقول:" ذكرني عنوان الرواية برواية كولن ولسن "القفص الزجاجي" فأوطاننا أقفاص زجاجية، ورغم ذلك لا نقدر على مغادرتها". المقال منشور بالموقع الإلكتروني "ديوان العرب".
=6= "وطن من زجاج"، ص170
=7= الرواية ، ص24
=8= "في الجبة لا أحد" ص94.
=9= "فوضى الحواس"، ص 300
=10= "وطن من زجاج"، ص163
=11= المصدر السابق، ص158
=12= المصدر السابق، ص174
مواضيع ذات صلة:
= مقطع من رواية "وطن من زجاج" (نشر في العدد الأول من "عود الند").
http://www.oudnad.net/01/yasmina1.php
= مقالة للباحثة فريدة بن موسى عن الروائي الجزائري الراحل الطاهر (نشرت في العدد 51 من "عود الند".
http://www.oudnad.net/51/faridabenmusa51.php
= نص بعنوان "مدن الخواء" للباحثة فريدة بن موسى (نشر في العدد 39 من "عود الند").
http://www.oudnad.net/39/faridaben39.php
= مساهمة من الروائية فضيلة الفاروق في تحقيق عن تهميش المثقف الجزائري (نشرت في العدد 38 من "عود الند").
http://www.oudnad.net/38/algr_13.php
غلاف الكتاب
◄ فريدة إبراهيم بن موسى
▼ موضوعاتي