أوس حسن - العراق
المرآة المعكوسة
أرخى الليل سدوله بصمت، بينما كنت غارقا ً في تأمل عميق في وجه تلك المرآة التي روت لي هذه القصة العجيبة، وأخذتني معها في رحلة طويلة إلى موقع الحدث.
تلك البلاد كانت بعيدة جداً، ومجهولة، لكنها في نفس الوقت كانت لا تبعد عن الإنسان أكثر من بضع خطوات. أراضيها كانت تمتد على مساحات شاسعة، فنصفها في التاريخ القديم والقرون الوسطى، والنصف الآخر في عصرنا الحديث.
في تلك البلاد هجرت الطيور أعشاشها، وغادرها الربيع منذ فترة طويلة، وسماؤها كانت خالية من النجوم، إلا من بضع نجمات كانت تضيءُ بأمر الملك المبجل، والشمس لا تشرق فيها، إلا خمس ساعات في اليوم بقرار من الملك العظيم المبجل.
لقد انقطعت سبل الوصول إليها قديما ً وحديثاً، فهي لا تنتمي إلى أي زمان ومكان، لكنها موجودة في كل زمان ومكان. موجودة في تراتيل الفناء وفي وجود عبثي يضج بأغاني الحياة، ولأن الأساطير عندما تموت تدفن في مقبرة من السحب الرمادية، فقد انقطعت صلتها بالماضي، وفقدت كيان الحاضر، فلا تاريخ يدون أحداثها ولا رحيل يهدم أسوارها خلف معبد النسيان. لكنك إن مررت في صفحة أرجوانية من كتاب الخطيئة، أو في ترتيلة ماء قانية، ستجد اسمها يتراقص بين سر الإنسان، ولغز الكلمات المكتوبة بالنار والإعصار.
كان السلطان الخالد، وزبانيته يعيشون في قلعة كبيرة تفصلها عن المدينة: سبعة أنهار حمراء، وسبعة جبال ملونة، وبحر عميق من الظلام. كل شيء كان ملك لهم: ضياء الشمس، هواء الأرض، السحب المهاجرة. حتى عمر الإنسان كان محدداً بقوانينهم المنقوشة على جدران الليل، فعمر الإنسان هناك لا يتجاوز ثلاثين عاماً، والناس هناك لا تموت ولا تحيا، بل تتحول إلى أصنام وحجارة.
أما أميرة البلاد الحقيقية، فكانت مسجونة في سجن القلعة الكبير، وربما كانت تغط في سبات عميق أزلي، كآلهة عمياء في مدن البحار، وممالك الأساطير المنسية.
وقبل رحيلي نثرت رذاذاً ً معطرا ًمن أحلام الأرض وألوانها، فكنت واثقاً أن البلاد ستكون حرة رغم ظلامها الذي يغطي أقاصي الأرض، وستحكمها الأميرة النائمة في سجن القلعة الكبير.
كنت واثقا ً أننا سنقرأ تاريخها يوما ً بفخر واعتزاز، ونجدها تتوهج ألقاً في غناء السواقي، وتراتيل الطبيعة الخضراء، مزهوة بالربيع وبإشراقة الشمس عليها.
* * *
وعند عودتي من تلك الرحلة كانت المرآة تبكي بصمت حزين في هذا الليل الشتائي الطويل وقالت لي: كلما وقف شخص أمامي، لكي يرى صورته، كانت تنعكس أمامي صورة قلبه، وروحه أرى نواياه، وأسمع أفكاره، وكأنه يتكلم بصوت هادر وجهور، فكم تألمت لحال الدنيا وحال الإنسان!. هذه هي علل التاريخ يا ابني، وهذا هو النفق المظلم الذي تسير به البشرية إلى يومنا هذا.
يا ابني، تذكر دائما أن للتاريخ وجه آخر، كبسمة القمر في ليالي السكون، وأن للعدالة حقائق أخرى مخفية خلف ستار القلب ودورة الزمن؛ أما أنا فقد هرمت وشاخ زماني، وأنت ستشهد ميلاد الضياء من رحم السماء، فقد جئت إلى هذه الدنيا وحيداً، وعشت فيها وحيدا، وسترحل عنها وحيدا؛ فطوبى لمن تعطر بزهر الحقيقة، وتطهر بماء اليقين. لذلك فأنني أقول لك: حطمني، واكسر قيدي، وارو قصتي وحكايتي لمن يرثون العدل من بعدي.
وسُمع دوي انفجار اهتزت له أرجاء الكون، وتراقصت له أحلام الأرض طرباً، ومازال الصدى يُسمع كل يوم في وجع الابتهالات، وفجر التأملات البعيدة.
◄ أوس حسن
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
المرآة المعكوسة, أمل النعيمي | 27 أيار (مايو) 2012 - 09:15 1
الأخ أوس المحترم: قرأت برسالتك للاستاذ عدلي انّ هذا النص كان حبيس الأدراج حتى خرج للنور بعد مخاض عسير ونصيحتي لك كقارئة يصلها مايصل من القلب والروح بيسر أنصحك أن لاتحبس موهبتك فنصّك رائع وهذا النوع من النصوص يشدني شخصيا وأكتب على غراره بين حين وآخر. هنالك فقط تعقيب بسيط من هاوية للغة الضاد نثرا وشعرا : ياحبّذا لو لم تضع تفسيرا للمرآة في آخر سطرين للنص وتركت للقارئ أن يسرح بخياله فهذا النوع من الكتابة أقرب للرسم السريالي كلّ يراه ويقرأه من وجهة مغايرة, مع أمنياتي لك بالتقدّم والنجاح وأن تكون روحك حرّة دوما لتسطع بالحرّية أينما حللت وارتحلت..
1. المرآة المعكوسة, 27 أيار (مايو) 2012, 11:37, ::::: |أوس حسن / العراق
الى الأخت الكاتبة أمل النعيمي ... بالفعل اصبت كبد الحقيقة انا لم أشأ ان اضع هذه الملاحظة ...لكن فترة الاشتغال على النص كانت قصيرة جدا بحيث لم الاحظ الا بعد ارسال النص ان التعقيب في نهاية القصة ووضع تعريف للمراة قد وضع النص في خيال محدود نوعا ما ... وانني اتمنى لو استطيع حذف الملاحظة أو التعقيب في نهاية القصة ان سمحت لي الادارة بذلك فهو يقلقني كثيرا وخصوصا هناك قراء زوار للمجلة ايضا ... انا لدي نص على هذه الشاكلة مشاهد سوريالية حوارية اقراي نص الصفصافة الباكية /أوس حسن.. ولو لم يكن منشور في المجلات والصحف ومواقع النت لارسلته ونشرته في مجلة عود الند ... شكرااااااا لتواصلك معي ولقراءتك المتميزة والعميقة للنص وتقبلي صداقتي بروح الاخوة والانسانية والفكر الراقي .... محبتي
= = =
ملاحظة من الإدارة: حجبت الملاحظة.
المرآة المعكوسة, إبراهيم يوسف- لبنان | 28 أيار (مايو) 2012 - 01:40 2
أوس حسن _ العراق
ولو أنني لا أتوسل الرمزية والإيحاء فيما أكتب ..؟ لكنني أحترم كثيراً هذا الأسلوب واللغة الجميلة المصاغة ببساطة وعفوية. لا ينبغي أن تندم على هفوات تفوت الكثيرين ممن يتعاطون شأن الكتابة، لا سيما في البدايات، فلا تندم ولا تلتفت كثيراً إلى الوراء.. مع خالص مودتي ومحبتي وتقديري.
1. المرآة المعكوسة, 28 أيار (مايو) 2012, 07:10, ::::: أوس حسن
الأخ العزيز والكاتب المبدع اللبناني ابراهيم يوسف محبتي العميقة لك من القلب وشكرا لتواصلك الجميل معي ... أحب في كل نصوصي دائما أن أوجه رسالة الى القارئ جوهرها الانسانية وان أجذب الانتباه واشد القارئ ليصل الى نقطة غير محدودة او اترك نهايات مفتوحة تحلق في المخيلة وهذا يعتمد على قوة الايحاء والغموض مستخدما في بعض المرات ادوات تستخدم في النص الشعري ... نعم هناك هفوات يقع فيها الكثير من الكتاب والادباء حتى المحترفين منهم ... لكن انا دائما حرصي يفوق الندم وخصوصا عندما وجدت في مجلة عود الند امتياز رهيب يفوق كل المجلات الورقية والالكترونية انا برأيي كشاب عمره 27 عاما ان تجربة عود الند تجربة فريدة من نوعها وربما في المستقبل اذا تم تعميمها سننهض بالواقع الثقافي المزري في الوطن العربي. الثقافة والادب وكل اشكال الابداع في الوطن العربي اصبحت ذات ربح ما دي سريع وثقافة استهلاكية تعتمد على الواسطات والمحسوبيات وحتى الرشاوي في كثير من الاحيان . ان استقبال المواهب الشابة والكتابات التي لم تر النور في نشرها وخصوصا للشباب الواعدين هو بحد ذاته رسالة عظيمة الشأن للمجلة ولرئيس تحريرها السيد الفاضل عدلي الهواري . وانا ساحاول على الاقل في كل صدور للمجلة ان احرر خبرا ثقافيا موجزا حول المجلة ومواضيعها الرئيسية لنسير مستقبلا نحو الأفضل دائما ... كم يسعدني ان ارى ا النقد البناء الجميل والملاحظات الرائعة في نصي المتواضع البسيط وهذا الشيء يشجعني ويعطيني الحافز للنهوض اكثر في مجالات اوسع للكتابة تتعدى الادب والشعر لتشمل السياسة والتاريخ والفلسفة ... مودتي وتقديري اخي العزيز ابراهيم يوسف ومحبتي للجميع ولكل من مر على هذا النص البسيط ليزرع فيه بذرة من روح الابداع والانسانية
المرآة المعكوسة, مهند النابلسي-كاتب فلسطيني مقيم في الاردن | 28 أيار (مايو) 2012 - 07:48 3
سارت القصة بنمط سردي سيريالي -اسطوري فيه خيال سينمائي مدهش ، ولكن للأسف انطفأ هذا الوهج بفقرة خطابية مباشرة أضاعت البعد الرمزي الايحائي ، وأضعفت النفس القصصي ! هذا ما لاحظته كثيرا في أدب الشباب ربما بسبب التسرع وضعف الخبرة االسردية : فالقصة يفضل ان تبقى محافظة على الايقاع الفني ( ما يسمى الريتم )! وان تبقى متجانسة لا تخذل القارىء الفطن !
1. المرآة المعكوسة, 29 أيار (مايو) 2012, 05:47, ::::: أوس حسن
الكاتب الفلسطيني مهند النابلسي ... شكراً جزيلا لرأيك الجميل ولثنائك الرائع على القصة والذي أسعدني حقا ويا حبذا لو ذكرت لي مكامن الضعف في النص والفقرات الخطابية المباشرة التي وردت وأضعفت البعد الرمزي في القصة كي استفيد منها في المرات القادمة وانا اوافقك ان القصة جاءت متقطعة في بعض عناصرها وكان نفسها القصصي يحتاج للصبر نوعا ما ... أفرحني هذا المرور العبق وباقة الزهور الجميلة التي نثرتها على نصي المتواضع لتزيده جمالا وكمالا ......
محبتي وتقديري لك
المرآة المعكوسة, هدى الدهان | 3 حزيران (يونيو) 2012 - 06:18 4
من الاسطورة الى المرآة الى ارض الواقع وهو دوي الانفجارات . اسلوب الخاطابة للاخر ينحصر في اما كونه ندا لنا فتكون مخاطبته بث للواعج النفس او يكون كما هنا في المقطع الاول الابن الاصغر فتكون مخاطبته بالنصيحة وهنا ضعنا ما بين الابن وما بين الانا و الاخر الوهمي .أين يبدأ السرد واين ينتهي ؟ قصصي ؟تخيلي ؟ واقعي ؟ ام ما يسمى باللهجة العراقية كلشي وكلاشي ؟
1. المرآة المعكوسة, 3 حزيران (يونيو) 2012, 09:51
الكاتبة والأعلامية العراقية هدى الدهان ... اسعدني حقا هذا الثناء الرائع على مشهد المرآة المعكوسة وهي لوحة سوريالية كل ٌ يفسرها على طريقته لكن عمق المشهد الذي كتبته بألم البشرية منذ تكوينها لم يتغلغل اليه احد ولم يفك الرمز فيه ... نعم جاءت هناك في القصة فقرات خطابية ربما تكون قد اضاعت شيئا من البعد الرمزي كما اشار الكاتب الفلسطيني مهند النابلسي ... هناك في القصة ثلاثة عناصر رئيسة تتحرك في المشهد.. المرآة والبلاد الاسطورية والشخص المتكلم (بضمير الأنا ) .... جاءت على ثلاث مراحل:
1- السرد الاسطوري السوريالي ( الوصف التصويري للبلاد) ....2- الخطاب الفلسفي المباشر بين المرآة والمتكلم بضمير الآنا..... ..... 3- التأمل العميق في صمت الحياة بعد تحطيم المرآة وهذا ما أردت ايصاله للقارئ ........... القصة فيها الكثير من التساؤلات والتوترات المشحونة لكنها تنفك تدريجيا ويمكنك سماع موسيقى تشايكوفيسكي بعد تحطيم المرآة/ هدى الدهان اشكرك من اعماق قلبي على هذا المرور الجميل والقراءة النقدية للقصة (وعلى النكتة اللطيفة كلشي وكلاشي )../ من أرض الرافدين اسطر لك محبتي وتقديري
المرآة المعكوسة, زهرة-ي- الجزائر | 9 حزيران (يونيو) 2012 - 05:57 5
الاستاذ اوس حسن:
تمنيت لو لم يحذف السطران الاخيران من النص لاعرف ما ترمز اليه المرآة، فأنالا أحبذ النهايات المفتوحة، بل افضل النتائج المباشرة وان لم تكن منطقية، وهذا حال الادب على عكس الرياضيات، ومرآتك المعكوسة معادلة أقرب الى الرياضيات منها الى الادب، وأنا أفكر بعقل رياضي وما الادب الا هواية امارسها و احبها.
اما عن مرآتك المعكوسة: طبقت الانعكاس لأجد صورة مقلوبة، وعكست المرآة في مرآة أخرى لأحصل على الشكل الاصلى. فالمرآة المعكوسة تعطيك الحقيقة بكل ابعادها ولا تكذب.
وأمام عدم فكي للشفرة طبقت حتى "الانتقال" و "الدوران" و "الانقلاب" لكن دون جدوى، أرجو التفسير...
1. المرآة المعكوسة, 12 حزيران (يونيو) 2012, 14:08, ::::: أوس حسن
الأخت زهرة / الجزائر
تحية عطرة ممزوجة بالود... شكرا لقراءتك قصة المراة المعكوسة وما تحويه من اسرار والغاز او صور تجريدية سوريالية ... القصة اخذت طابع فلسفي عميق فيه ابحار في الخيال اللامتناهي ... وجود اي فقرة خطابية او توضيحات سينجدر بالقصة نحو الضياع او العدمية ... عزيزتي زهرة انا استخدمت في القصة عناصر ورموز ايحائية تستخدم في النص الشعري فقط ... ةحاولت قدر الامكان جذب الانتباه ... ربما تكون المراة المعكوسة هي الجانب المشرق والمضيء في روح الانسان والمراة لا تعكس صورة الظلام بل تعكس اشراقة النور الذاهب اليها نور السكينة والمحبة والسلام .... محبتي ومودتي وتقديري لك اخت زهرة