محمد محمود التميمي - الأردن
فجر النهاية ونص آخر
فجر النهاية
استيقظ من نومه مسبحاً الله مستغفراً له. يشعر ببعض الانقباض في صدره. "الله يستر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". يهمس بهذه الكلمات في ضوء الفجر الأول المتسلل للسماء المعتمة، والمؤذن لا زال يردد "الصلاة خير من النوم".
الانقباض في القلب يشتد. "أصبحنا وأصبح الملك لله". يطلقها مع تنهيدةٍ علها تنفس بعض هذا الضيق. "ما بك أيها الانقباض لا تترك قلبي وشأنه؟ الحمد لله، الزوجة والأولاد بخير، والأهل والأصدقاء بأتم الصحة والعافية، وأمور العمل على ما يرام"، يفكر في نفسه بينما يزداد الانقباض شيئاً فشيئاً.
"سأتوضأ وأصلي وسينفرج هذا الضيق ويرتاح هذا القلب. ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
يقوم من فراشه ويخطو نحو باب الغرفة خارجاً منها، يتناول المنشفة في طريقه نحو الباب ويضعها على كتفه ويشرع يشمر أكمامه وهو يتمتم بأذكار الصباح. يفتح باب الغرفة فتهب نسمة باردة منعشة ينسى معها انقباض القلب لبضع لحظات، يستنشقها بملء رئتيه ويطلقها على مهلٍ مردداً: "لا اله إلا الله".
"محمد. عبد الله. الصلاة؛ الصلاة"، ينادي على من يسكن معه في الشقة، يكرر العبارة بضع مرات حتى يسمع الحركة خلف الأبواب المغلقة فيعرف أن الساكنين قد استفاقوا.
يكمل طريقه، ويستعد للوضوء ومن ثم يفتح الصنبور، ويشرع في الوضوء مردداً أذكاره. تنزل المياه. تلامس كفه وأصابعه. وما أن يغسل وجهه حتى تسقط. ينسى انقباضة قلبه.
يرن الهاتف على بعد آلاف الكيلومترات.
"منزل محمود التميمي؟"
"نعم".
"رحم الله أباكم".
ضيف من غير موعد
دخل لبيتنا دون أن نسمح له بذلك ودونما استئذان، سار بخطوات بطيئة ثقيلة متزنة، كنا نياما في غرفة واحدة، فالفقر والبرد أجبرانا على أن نجتمع معا في ذات المكان لننام وننشد الراحة والدفء معا كعصافير اجتمعت في العش في الليلة الماطرة.
سار بهذه الخطوات الواثقة داخل غرفتنا، بدأ يمشي بين أجسادنا الصغيرة المتعبة من اللعب طوال النهار، يحاذر في مشيته أن يتعثر بإحدى الأرجل أو الأيدي الصغيرة التي تبعثرت على أرض الغرفة بعشوائية.
يستمر في المسير بثقة وتصميم نحو زاوية الغرفة، تحرك أخي الصغير فجأة. كاد يلامس قدمه، لكنه أزاحها بسرعة البرق واستمر بالمسير، توقف. يبدو أنه وصل إلى هدفه، توقف عند أبي، أزاح يد أمي عن صدره وتوقف عند رأسه وقرأ بصوت وقور: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية".
شاهدت أبي يقف بجانبه، رمقني بابتسامة، لم تعد ابتسامته المعهودة، كان يشوبها قليل من قلق أو حزن. قلت له كما أقول كلما شاهدته يهم بالمغادرة: "بابا خذني معك".
بقي والدي صامتا لا يحرك ساكنا ولا تزال على وجهه تلك الابتسامة المجهولة الملامح، وردت الإجابة من الضيف الغريب: "لم يحن دورك بعد أيها الصغير".
عدت للنوم، ولم أستيقظ إلا على أمي وهي تصرخ: "مات أبوك!.
رحم الله أبي. ما زال جرح فقدك يدميني. أهديه هذه الكلمات في الذكرى العاشرة لوفاته.
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
- ● نحن والحزن
- ● الآن فهمتكم
- ● موظفة الترويج
- ● مرايا
- ● أهلاً بالمستقبل
- ● الركض تحت المطر
- ● أبحث عنك
- [...]
6 مشاركة منتدى
فجر النهاية ونص آخر, مهند النابلسي - الأردن | 25 حزيران (يونيو) 2012 - 03:55 1
كلام عادي مصاغ جيدا يتدفق بالذكريات والحنين والعاطفة ولكنه لا يرقى لنص ادبي !
1. فجر النهاية ونص آخر, 25 حزيران (يونيو) 2012, 05:31, ::::: محمد التميمي
أحترم رأيك وشكرا لك على التعليق.
فجر النهاية ونص آخر, غانية الوناس.الجزائر | 25 حزيران (يونيو) 2012 - 07:44 2
وحدهُ الموتُ يكبّلنا، فلا نجدُ أمامه سوى أن نرضى ونقبلَ بهْ،
حتّى حين يأتينا في صورةِ زائرٍ غير مرغوبٍ به.
الذّكرى تمنحنا نقطة البداية لكتابةِ شيءٍ ما،وتُعيدنا كلّ مرّة إلى الوجعِ الأوّلْ ،وكأنّ من فقدناهم رحلُوا لتوّهمْ.
أحببتُ نصّك الثاني أكثرْ،فيهِ شيءٌ من الحنينِ يشدّنِي رغم الألمِ الّذي يسْكنه.
تمنيّاتِي لك بالتوفيق دائماً.تحياتِي.
1. فجر النهاية ونص آخر, 26 حزيران (يونيو) 2012, 06:14, ::::: محمد التميمي
فعلا يا أستاذة غانية، لا نملك سوى القبول بالموت وفقدان الحبيب، وكما قال الشاعر: من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الاسباب والموت واحد. فالموت موت مهما كانت الطريقة ومهما كان الوقت. رحم الله موتانا وموتاكم وموتى المسلمين.
فجر النهاية ونص آخر, أشواق مليباري\ السعودية | 25 حزيران (يونيو) 2012 - 12:13 3
"الموت لا يؤلم الموتى..بل يؤلم الأحياء"
نفقد أحبتنا واحداً تلو الآخر حتى تستحيل قلوبنا إلى مقابر..
رحم الله موتانا وموتاكم وموتى المسلمين.
نص جميل يتدفق عاطفة، ووصف دقيق للحظات عصيبة.
شكرا لك
الكاتب المبدع محمد التميمي
1. فجر النهاية ونص آخر, 26 حزيران (يونيو) 2012, 06:16, ::::: محمد التميمي
أستاذة أشواق
وصفت المشاعر بجملة واحدة، فالألم لنا نحن الاحياء الذين نعيش مع ذكراهم في كل وقت وكل حين.
شكرا على التعليق والتشجيع المستمر.
فجر النهاية ونص آخر, فتحي العكرمي- تونس | 26 حزيران (يونيو) 2012 - 10:13 4
الأخ محمود . شكرا على هذه النصوص التي تَرُجّ الرّوح التي فقدت أحبّتها وخاصّة تلك التي تُركت الى صحراء اليُتم حيث الوحدة الجارحة والشّجن الموحش ، غير أنّ الابداع هو القدرة على وصف ذلك أو هو المُشاركة في الفرح والمأساة على مائدة نصّ يستنطق الألم وينطق سردا يجعل الحياة بكل ثناياها انسانيّة أي تحتمل أن تعاش بما نوفّره لها من معنى . فكما تبكي العين أحبّتها كذلك للرّوح دموعها السّاحرة وهي الكتابة . دمت مبدعا
1. فجر النهاية ونص آخر, 29 حزيران (يونيو) 2012, 12:04, ::::: محمد التميمي
الاستاذ فتحي
كلامك بلسم لجراح الروح ودافعا قويا لمزيد من الابداع الذي ينقل الاحساس ويجسد الالم والفرح. تعليقك رائع ودمت بكل خير.
فجر النهاية ونص آخر, نهى التميمي - الأردن | 29 حزيران (يونيو) 2012 - 10:09 5
إنَّ البلاغة التي كتبت بها هزّت أدمع عيني... فقد زوَّقتَ الكلام في مقدمة "ضيف من غير موعد" حتى اعتقدنا أنه ضيفاً حشرياً... وإذ بنا ننصدم بأحداث القصة وهذا الأسلوب المخادع في مقدمتها... هكذا يكون الموت ... فراق دون عناق... شموع الفراق تشتعل رغم ريح اللقاء ... وموعد اللقاء يغدو فراقاً ... ونار الشوق تغذو رماداً ينثره ريح البعد... رغم حديثك في هاتين القصتين عن الموت إلا أن أسلوبك حيٌ من لحم ودم ... أنبضَ الذكريات فيناأبدعتْ... ننتظرُ منك المزيد
1. فجر النهاية ونص آخر, 29 حزيران (يونيو) 2012, 12:08, ::::: محمد التميمي
الاستاذة نهى
لا أريد ان ابكي احدا ولا ادمع العيون، ولكن زفرات القلب التي خرجت على شكل هذا النص كانت صادقة، والاحساس الصادق ينتقل للقلوب المرهفة الطيبة. تعليقكِ جميل وبليغ ورائع، لااراكِ الله مكروها بعزيز ودمت أنتِ وكل محبيكِ بألف خير.
فجر النهاية ونص آخر, زهرة-ي/الجزائر | 25 تموز (يوليو) 2012 - 20:57 6
رحم الله الاب الفقيد، وكفاه فخرا وهو تحت تربته ان آل بيته يصلون الصبح حاضرا.
رمضان كريم وكل عام وانتم بخير.