عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إبراهيم قاسم يوسف - لبنان

الثعلب ونصوص أخرى


الثعلب

كان يطوفُ بحذر في أرجاءِ الغابة إلى جوارِ قصرِ الأمير، يتحينُ الفرصةَ لينقضَّ على طيورِ الحديقة، والأميرُ مولعٌ بالصيد وعاشقٌ للفرو، والجنسِ اللطيف، يتحيَّنُ الفرصَ للإيقاع بالثعلب، وأبو الحُصَيْن يدركُ قيمةَ جلدِه ويعرفُ نوايا الأمير، ولم يَنْسَ بعد أنه خَسِرَ تسعةً من أعزِّ أصحابِه. تصيَّدَها الرجلُ عندما انتقلَ إلى جوارِ الغابةِ للسكنِ في القصرِ الجديد. أفرغَ أحشاءَها وحنَّطها، ووضعَها في زوايا القاعةِ الكبرى، ليزدانَ بها قصرُه المُنيف.

فشلَ الأميرُ مئآتِ المرات أن ينالَ من الثعلب. كان كلما طاردَه، يتوهُ في الغابة، أو ينسلُّ ويدخلُ القصر. ثم يختفي فلا يتركُ وراءَه ما يدُلُّ على أثر. أعدَّ له مطبَّاتٍ كثيرة وخابتْ مساعيه للإيقاعِ بهذا الماكرِ العجيب.

مضتْ سنتانِ وأكثر والبندقية "أمُّ الناظور" لا تُخْطىءُ الهدف، ولا تفارق كَتِفَ الأمير. كان يترصّدُ الثعلبَ وحين يطاردُه، لا يحصدُ معه إلاَّ الخيبة والفشل. رسمَ الخطط؛ وأعيتْه الحيل لكي يظفرَ به ويشفي منه الغليل؛ فالضغينةً ما زالتْ تَحْفُرُ في قلبِه مُذ فَتَكَ بالطاووس أغلى ما يملكُهُ الأمير. هكذا أرهقَ الجميع، يتعقبونَه فيختفي بلمح البصر، لكأنَّه فصُّ ملحٍ يدخلُ القصرَ ويذوب.

جنديٌ قديم صديقٌ للأمير، خَدَمَ معه أيَّامَ "العسكر"، واشتركا في الكثير من المعاركِ والحروب. أتعبتْه الوحدة فأتى يزورُ القصرَ؛ ويجدِّدُ صداقتَه للأمير. كان الخدمُ مستنفَرين يتعقبون الثعلب، وهم في حالٍ من الغليان والّصَّخبِ الشديد، فالثعلبُ كان داخلَ القصر، وفشلوا للمرةِ الألف أن يحاصروه أو يجدوه.

بعد أن تمشى الصديقان طويلاً في الحديقة دلفا إلى القصر، يجولانِ في باحاتِه وممراتِه وغرفِه، والأميرُ يشرحُ بالتفصيل لصديقِه الضيف، عن سجادِهِ وتحفِهِ وتاريخِ لوحاتِهِ، وما تتسمُ به من قيمةٍ تاريخيةٍ عظيمة لا يدانيها مثيل.

وصلا إلى القاعةِ الكبرى، وتزدانُ أرضها بسجادٍ "عجميٍّ" من بلادِ فارس. تتوسطها بركةٌ من المرمر تسبحُ فيها أصنافُ السمكِ الملون، هدِيَّةً قَدَّمَتْها له "بارونة" إيطالية. أما مقاعدُها فمن خشبِ الأرز، وجدرانُها زاخرةٌ بلوحاتٍ نادرة، أشتراها الأميرُ من فلورنسا وڨيينا وباريس، وتتوزعُ في زواياها تسعة ثعالب أحسنَ تحنيطها؛ تفتحُ عيونَها فيتبادرُ إلى الأذهانِ أنها حيَّةٌ تُرزق.

كان الأميرُ وصديقُه في طريقهما إلى المكتبةِ المقابلةِ للقاعةِ الكبرى، حينما تنبَّهَ الصديقَ وهو يحصي الثعالبَ المحنطة؛ أنّها عشرة، ليستْ تسعة كما كان يعتقدُ الأمير.


وثعلبٌ آخر

ثعلبٌ آخر، توأمُ الثعلبِ الأوَّل، تخرَّجَ مع أخيه من ذات الجامعة بامتياز، أتقنَ فنَّ السياسة والاقناع. حملَ خطاباً بليغاً أعدَّه عن "الحربِ والسلام"، ليلقيه على مسامعِ البابِ العالي في استنبول، والتقى عسكرَ السلطان على الحدود؛ فأخبروه أنّهم في البلاد، يستخدمون الحمير يرسلونهم مع الحملة إلى "السفر برلك"، للسخرة وقضاءِ مصالحِ الرعيَّة.

مهروا له جواز سفره وأكدوا السماحَ له بالدخول، فلا ضيرَ عليه من الزيارة ما دامَ لا ينتسبُ إلى هذه الفصيلة، وما دامتْ السخرةُ تقتصرُ على الحمير.

لكنَّ الثعلبَ خافَ على نفسه وعادَ أدراجَه إلى دياره. وعندما سألوه عن السبب، قالَ لهم: "سأتورطُ وقتاً طويلاً في الخدمة وأعمالِ السخرة، قبلَ أن يميزوا بين الثعالبِ والحمير".


هاجسُ الحلزونة

"أم أربعة وأربعين" أتتْ تزورُ "الحلزونة" في بيتِها. قرعتِ البابَ وانتظرتْ. انتظرتْ لحظاتٍ خالتْها دهراً طويلاً. وهمَّتْ بالرحيل، حين أجابَها صوتٌ من الداخل يسألُ "من الطارق؟"

وأجابتْ تقول: "أنا جارتكِ أم أربعة وأربعين".

"وما الأمرُ؟" سألتِ الحلزونة.

قالتْ أم أربعة وأربعين: "لا شيءَ على الإطلاق، زيارةٌ وديةٌ يا عزيزتي، حملتُ معي قهوةَ الصباح لكلتينا فلا تخافي أو ترتبكي".

قالتِ الحلزونة: على الرَّحبِ والسعة، أهلاً وسهلاً بك مع أختكِ وفي دارك. لكنني أنهيتُ تنظيفَ المنزلِ للتوّ، وينبغي أن تنظفي أقدامَك جيداً قبلَ الدخول.


هرَّةُ "نيوتن" وكلبُه

إسحاق نيوتن فيزيائي، وفيلسوف إنكليزي. عالم رياضيات، كيميائي وفلكي وعالم لاهوت. وضعَ الأسُسَ الأولى لأهم نظرياتِ "الميكانيك". واحدٌ ممن تركوا بصماتٍ بارزةً في تاريخِ حضارةِ البشرية، وساهموا في بناءِ حضارةِ اليوم، ومنها محرك الطائرة "النفَّاث".

نيوتن هذا الذي "دوَّخَ" العالم، فماذا فعل؟ فتحَ كوُّةً في الجدار، ليعبرَ إلى الحديقةِ كلبٌ له كان يؤنسُ وحدتَهُ، فلا يبقى سجيناً في غيابِه. وعندما اشترى هرةً تؤنسُ وحدةَ الكلب، فتح لها كوةً أخرى، ليُسَهِّل عبورها إلى الحديقة أيضاً.

D 25 حزيران (يونيو) 2012     A إبراهيم يوسف     C 18 تعليقات

13 مشاركة منتدى

  • ألأخ الأستاذ مهند النابلسي - ألأردن

    أشكركَ بفيضٍ من المحبة على العناية والاهتمام، وسعيدٌ بثقتك التي تشرفني على الدوام.


  • هل يكفي تزاحم الرؤوس الصغيرة أمام شاشة الحاسوب و أنا أقرأ بصوتٍ عال؛ شهادة على الجمال والإبداع في هذه النصوص؟
    بل و تحولت قصة الثعلب، وهرة نيوتن إلى أحجية تُحكى لأولاد الجيران،وقصة الحلزون إلى مسرحية!


  • هنا انسكب الابداع بكامل أناقته وفنياته أستاذ ابراهيم.. هنا كنت أنت بقرطاسك ومحبرتك ويراعك شامخاً بقامة عالية.. فقد انجزت نصوصاً قصصية غاية بالجمال لاستخدامك الرمز والحبكة الفنية المتقنة لتمنح القارئ فرصة جميلة في اشغال العقل واختراق الرمزية الذكية.. شددتني إلى النصوص مصحوبة بالدهشة.. هو ألقك المعهود فيك أستاذي الكبير.. فلا فض لك فوه، ولا عدمنا هذا الألق الماتع.. لك أجمل التحايا


  • هيام ضمرة، وحفيدها وسائر الأطفال

    من دواعي سعادتي أن تكون الحكايات قد أعجبتكِ..؟ لأنني بهذا أكون وفيتُ بما التزمتُ به لحفيدك، فهل فعلاً فعلت.


    • شكراً لك أيها المبدع المتألق دوماً ابراهيم يوسف هذه الهدية التي سأسردها لحفيدي بكل تأكيد.. لكني أيضاً سأسردها للكبار لأن الرمز فيها جلي حيث الطبع غلب التطبع.. هو مثل حكيم لكنه ينطبق على القصة حيث الثعلب في طبعه وطبيعته مناور ومخادع، واختبائه بين تماثيل فصيلته دون حراك دون أن يأتي على أي حركة للهرب حتى في وجود الانسان الذي يهدده بالقتل لهو دليل قاطع على أن الطبع غلبه.. شكراً جزيلاً فضل مبادراتك المتتابعة وكرم عطاءك المكين.. لا عدمناك وأنت علم ظاهر في المشهد الثقافي

    • هيام نور الدين ضمرة – ألأردن

      هي المحبَّة المُتَرَفِّعَة عن كلِّ عيبٍ أو مصلحة، تلكَ التي تُملي عليكِ الرأيَ بالتحيُّز والوقوفِ إلى جانبي في الانتسابِ إلى المشهدِ الثقافيّ العام.. شكراً صادقاً لكِ، وأنا فخورٌ حقاً بالمودةِ القائمةِ بيننا. تلكَ المودَّة؛ رعتْها عودُ الند منذُ البدايات وعززتْ أواصرَها بين الجميع.

  • أشواق وجمانة مليباري - السعودية
    وسائر الأطفال من كل عمر وعرق ولون

    إذا كانت هذه النصوص قد أسعدتْ بعضَ هؤلاء الأطفال..؟ فأنا راضٍ عما كتبت، ويجب أن أشكرَ ربي أنني نلتُ نصيبي من جدوى الحكايات، كما لا ينبغي أن أكتمَ إحباطي وحيرتي في طالبٍ من محيطي، وفي سنواتٍ متقدمةٍ من دراستِه، تساءلَ عن معنى ما أردتُهُ من "هاجسِ الحلزونة"..؟ لعله تقصيرٌ من قبلي، لو لم تكنِ ابنتك ألأصغر عمراً وأدنى كثيراً في مرحلةِ الدراسة، قد فهمتِ الفكرة دون التباس..!؟


  • الأخ براهيم تحيّة التّقدير . شكرا على هذه النصوص التي تتميّز بأنّها تُخفي أكثر بكثير ممّا تُظهر لذلك فهي تتطلّب قراءة تأويليّة تحاور المنطوق الذي يستدعي المسكوت عنه المتمثّل في الشجع والأنانيّة والرّغبة في السّيطرة والزّيف والاستبداد ، وليس غريبا أن تكون " كليلة ودمنة" قراءة عميقة للواقع بواسطة تقنية التّشبيه والتّرميز والمُطابقة والجناس.... فكيفما أمطر النّصّ سردا أو رمزا أو تشبيها أو تأويلا يكون مُنتجا . دامت سحابتك الممطرة ودمت بخير


  • ألأخ الكريم فتحي العكرمي – تونس

    شكراً لكَ على القراءة وعلى التعقيب والحضور المضيء، راجياً أن أكون عند حسن الظن على الدوام، وأشكر بالتحديد إشارتك إلى السحابة والمطر، فقد نشأتُ في إقليم فيه من الجفاف ما يجعل نقطة الماء عزيزة، وتعني الحياة بأدق التفاصيل.


  • ألأستاذ الفاضل إبراهيم
    لقد انتهجت لونآ جديدآ أضاف بريقآ على نصوصك ,لونآ فلسقيآ إجتماعيآ ..قامت عناصره على العلاقه الأبديه بين الإنسان والحيوان,في قالب من القصص الفكريه الجيده البناء المعتمده على السرد ,وقد جعلت من الحيوان عقلاء فصحاء مجادلين ,وليس من شك أن سعه اطلاعك بطبائع الحيوان وأنواعها وأجناسها قد أسهمت كثيرآ في نجاح قصصك الممتعه ,ذكرتنا بقصص وحواديت آبائنا وأجدادنا والعبر المقتبسه منها ..
    _أتمنى لك مزيدآ من التألق والإبداع


  • ليلى من فلسطين

    لستُ متأكداً يا صديقتي من أنه لونٌ فلسفي أو جديد..؟ أما العلاقة بين البشر وسائر المخلوقات، فإنها مستمرة منذ الأزل، وتتمخض عن هذه العلاقة قصصٌ جميلة بلا ريب، وعبرٌ مفيدة في الكثير من الأحيان، ولا يغيبُ عن البال أن الثعلب حيوان محتال، والحلزونة مقزِّزة أو هكذا يراها الناس، وأن الجمل صبور، والدجاجة غبية، والنملة حريصة.. ألخ.

    كل ما توخيتُه من هذه الحكايات القصيرة أن تسعدَ الأطفال، فإذا نجحتْ في التأثير على عقولِهم وقلوبِهم، تكونُ قد حققتْ غايتَها، والصديقة الكريمة أشواق مليباري تشهدُ مشكورةً في الأمر لمصلحتي.

    أشكركِ على ما تفضلتِ بقولِه عن تضامنك مع ما كتبت، وعن العِبَر المقتبسة عن الآباء والأجداد، والأجيالِ الماضية.


  • مرحبا.اتعجب انك رددت على الاخت ليلى من فلسطين بان هذه القصص مفيدة للاطفال.صحيح انني عندما قراتها تذكرت كليلة ودمنة ...الا ان قصة ثعلب آخر تعيشنا واقعا حقيقيا.فكم من عالم يداس الان ويسخره من هم دونه .وربما لا لانهم لايعرفون مقدار علمه وكونه ثعلب وليس حمار بل بالعكس انهم يسخرونه ويسخرون منه لانه الثعلب ذو الفراء وهم سيبقون حمير القراد.
    اما عن الحلزونة ...فكثير بيننا منها ..لايرون الا اين نضع اقدامنا ويضعون اقدامهم ..لايرون طول انتظارنا للقياهم و لا ماتكلفنا بحمله لاجلهم .


    • ألكاتبة هدى الدهان

      ألملفت يا سيدتي.. أنكِ تصوغين أفكاراً جديدة وأبعاداً لم تكنْ أبداً في الحسبان..! فقد توخيتُ من النصِّ الأول حكايةً للأطفالِ عن مكرِ الثعالب فحسب.. ولو أنني في معرضِ الرد على السيدة ليلى من فلسطين قلت لها: إن العلاقة مع الحيوان تتمخضُ عنها قصصٌ جميلة بلا ريب، وعِبَرٌ مفيدة في الكثير من الأحيان.

      والثعلبُ الآخر ودون اللجوء إلى التذاكي على أسرةِ التحرير..؟ لو تركتُهُ على هواه؛ لم يكن ليجد طريقه إلى النشر بالمزيد من التفاصيل التي أشرتِ إليها..؟ لهذا فقد بدلتُ في صياغته مراتٍ عديدة.

      وأم أربعة وأربعين لو التزمتْ أوامرَ الحلزونة..؟ لانقضى النهارُ وضاعتْ الزيارة، ولم تنتهِ من تنظيفِ أقدامِها، فوجدتِ لها تفسيراً مختلفاً لم يكنْ في الحسبان مرةً أخرى.. أشكركِ سيدتي على التعقيب، والمخيلة المجتهدة الخصبة بحق.

  • ضرب الصديق العزيز إبراهيم يوسف عصفورين بحجر واحد في نصوصه الرائعة (الثعلب ونصوص أخرى): الكتابة للأطفال وكلنا أطفال بشكل أو آخر، والكتابة عن الحيوان. فالكتابة للأطفال فن لا يتقنه إلا من قطع شوطاً طويلاً في الإبداع، يؤهله لهذه المرتبة صعبة المنال، التي تتطلب فناً وذوقاً وقدرة على الإثارة والادهاش. وقد نجح كاتبنا في كل ذلك، ونالت نصوصه على إعجابنا -نحن الكبار سناً- واستمتعنا بها في لحظة طفولة عشناها ونتوق أن نحياها دائماً. أما الكتابة عن الحيوان فهي تتطلب حكمة وبصيرة وخبرة واسعة في الحياة، وقد لمسناها في هذه النصوص اللطيفة الجميلة. كل الشكر لمبدعنا المتألق على جماله وجمال نصوصه!


  • ما هذه النصوص الماتعة استاذ ابراهيم؟ من اين تستقي مفرداتك، صورك واخيلتك؟
    نصوص داعبت بقايا الطفولة الكامنة فينا، فوجدتني كطفلة ابحث في النت عن انواع الثعالب والوانها و احجامها و اتمتع بملمس فرائها. أدخل مسكن الحلزون وارصد كيفية تنقله وطريقة عيشه. لتتعرف ابنتي لاول مرة على ام اربعة واربعين.


    • زهرة من الجزائر

      ألحمد لله أنكم بخير يا سيدتي. حاولتُ الحصول على عنوانكِ البريدي ولم أنجحْ.. فحمداً على سلامتِك. "أم أربعة وأربعين" تملكُ هذا العدد من الأرجل بموجب مدلول المفردة العربية، وهي لو حاولتْ باجتهاد تنظيفَ أقدامِها..؟ لانقضى النهار ولم تنتهِ..! فكيف إذا عرفتْ ابنتُك أن هذه الدَّابة تملكُ ألفَ قدمٍ، حسب التسمية الفرنسية (Mille-pattes)..!؟

      رمضان كريم،وكل عام وأنتم بخير.

في العدد نفسه

ياسمينة صالح: تعزية

تهنئة رمضانية

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 73: الليبرالية: ما لها وما عليها

الجمال بين الذاتي والموضوعي