لطيفة حليم - المغرب
مقتطف من رواية نهاران
أهدت د. لطيفة حليم، أستاذة الأدب العربي في جامعة محمد الخامس بالمغرب "عود الند" نسخة إلكترونية كاملة من روايتها الثانية "نهاران"، الصادرة في شباط/فبراير 2012 عن دار فكر المغربية. "عود الند" تشكر المؤلفة على هديتها.
.
مقتطف من فصل من رواية "نهاران" للطيفة حليم (*)
الفصل الأول
مونتريال
= هزيت عيني للسما
لقيت النجوم بعيدة وجميلة
شكيت لصاحبتي رغدة
قالت لي:
= هزي رجليك مرة مرة
النجوم ما توصليلها لا ليوم ولا غدا
او ما تبحثي في لحظة
را الحب والسياسة مشكلة وحدا.
تضيع منها لحظة، لا تستطيع الكتابة. تخرج من سكن ابنتها رهام بحي سان ماتيو، تلوي إلى شارع سان كاترين، تمشي في اتجاه ساحة الفنون، خط واحد مستقيم. يلسعها زمهرير البرد، تدخل إلى المجمع التجاري إيتين، تخرج تشاهد الثلج، تدخل إلى المجمع لابي، تخرج. الثلج. الثلج يطهرها، ويزحلق قدميها. فتقرأ قطعا من الشعر، بحكمة عبد الرحمن المجذوب، وروحانية جلال الدين الرومي، وحداثة علي أحمد.
...
لكيلا أكون سوى ذلك الإناء
...
كأني مجرد حقل وحرث
....
لماذا يولد الأنبياء في فراش امرأة
تخربش ذاكرتها قصيدة حب غاوية، تمشي على استحياء، تتفرج على واجهات نوافذ المعروضات التجارية، تردد قطع الزجل بلثغة أهل طنجة. لحظة، تسمع صديقتها رغدة، تقرأ في عجل لحظة.
لحظة
سلمت نفسي لغمضة
فتحت من بعدها أجفاني
على شوفه وومضة
عجز على وصفها لساني
واش هذي لحظة حب ولوعة
عتقوني بالجواب
العشق
اسباني يا سيادي
منى تشعر بارتجاج في قذالها، تحسر رأسها، تجمعه إلى الأمام، تريد أن تتخلص من الارتجاج، بكتابة رسالة إلكترونية إلى صديقتها، تعقد العزم على كتابة الرسالة فور عودتها إلى البيت، تقول فيها:
= أنا أمشي في مدينة مونتريال كثيرا، قلبي منفتح، وعقلي مستنير. أرغب في كتابة لحظة، أبين فيها أن النساء فاتنات، قادرات على الجذب، ولهن شعور عميق بأجسادهن، و يرغبن في الحب أكثر من لحظة،
تحضر جدتها تتبختر. تسمعها تغني بلثغة أهل فاس
= قفطان زبيبي لبسو حبيبي
لحظة، يطرق صوت جدتها، يحرض ذاكرتها. لا تسمع قول جداتها
= سلي المغرفة من الطنجرة قبل الغلية الأولى.
منى تمشي بشارع سان كاترين، تردد لحظة، تحرك لسانها لا تعجل به، راجية تدريبه على لثغة أهل طنجة، تجرب بصوت خافت لحظة. لم تتمكن لثغتها من تصويب نغمة على شاكلة أهل طنجة، تأكد لها أن لكل بقعة في كوكب الأرض لثغتها اللسانية.
تجهد فكرها في كتابة قطع سردية تصف لحظة. الحياء يمنعها، الكتابة تخيفها، قد يحدث يوما، أن تصبح ساردة ناجحة، و تكتب قطعا سردية مغرية، تستفز بها القارئ، تعذبه، تترجاه أن يعيد قراءتها ألف مرة. تستحي عندما تنكشف غوايتها وهي تكتب. تخرب. تجرب. كتابة لحظة، تحتاج إلى صبر وتأن كثير، وأناقة مفرطة. ظروفها لا تسمح بذلك، طبخها يحترق باستمرار، لا تسعفها الكتابة. منى في مونتريال تطهرت، بدأت تكتب أثناء الحريق. حصل مرة أنها غرقت في الكتابة، دخلت المطبخ وجدت طنجرة الهركمة احترقت، لعنت لحظة رأت فيها عنترة يقبل السيوف، و لحظة رأت فيها امرأ القيس تحت شق، ولحظة قضى ابن أحمد السائل من ماريا وطرا، شافت غيره وهاجرت إلى المكسيك، و لحظة فارق فيها مويط خليلته بين أسوار مدينة مكناس وعاد إلى فرنسا وتزوج غيرها. ولحظة تربعت فيها جدتها على العرش. وهي تسل المغرفة عند الغلي الأول.
منى تلعن نفسها لأن طنجرة الهركمه التي كانت على النار، احترقت صباح هذا اليوم وهي غارقة تفحص لحظة. تمشي وهي تقلب بعض القطع السردية، مثلما يقلب أسد طنجرة الهركمه بشهوة ولهفة، يغرف منها قطعة رطبة. تمشي بشارع سان كاترين، ترغب في تلميع وتحمير جسدها، تطمع في شيء يبعد عنها غم طنجرة الهركمه المحروقة، حتى يصبح جسدها شبيها بورود قلعة مكونة، تدخل مجمعا تجاريا تبحث عن صالون برانزاج. تدخل مصفرة، تخرج محمرة. تتعجب الجليد بشارع سان كاترين يزحلق قدميها وهي محمرة؟ تفرح، لأنها حققت شيئا له قيمة هذا اليوم، هو أنها تمشي فوق الثلج منتشية، كأنها ترقص على السيمفونية الخامسة لبتهوفن وهي متوردة. وفي لحظة حب جميل، تغرق تحت الثلج. الثلج جزء من هويتها، شاهدته صبية في قريتها اتزار، وشيخه في مدينتها مونتريال. الثلج هوية لمن يبحث عن هويته في مكاشفات أبي أسد، الذي يبحث في الشتاء عن صباه، وفي الربيع عن شيخوخته.
منى تمشي، تمر على باب مترو كي كنكورديا، لا تدخل. تمشي وهي تفكر في أن تعرض على صديقتها رغدة نشر ديوانها مرفقا بقرص مسجل بلثغة أهل طنجة، كي ينفد الديوان بسرعة البرق من المكتبات، تطلب منها أن تكتب قصائد على نمط الهايكو الياباني. تترجاها أن تقرأ على مهل، يزداد تفكيرها، تفكر أن تضع مخطوط قصيدة لحظة حرزا بعنقها، ليمنع حريق طنجرتها. تمشي بشارع سان كاترين، تردد بصوت خافت، خافت لحظة. لا شيء أحلى من الحب، تغني أغنية ننسي:
= ا لحب غير معنى الكون ...
تردد شعر محمود
... يتشابكان ...
تسعى إلى كتابة قصيدة شبيهة ب لحظة حب تقضى في العماء، وردت مثلها قطعة سردية خفية، لحظة في الصقلبية ينغنغ، في المكتب مهتاج، في الطائرة يسقط من بين يديه كتاب. تلتقطه مضيفة ... منى تمشي بشارع سان كاترين وهي تبحث عن لحظة قضى فيها ابن أحمد السائل وطره من ماريا ودعها خارج مدينة غرناطة متألما. منى تسمع وهي تمشي بشارع سان كاترين وسط زحمة المشاة، صوت حفيدة ماريا آتيا من بين أدغال -ريفيرا مايا- إنها الشابة منيكا تراها تسبح في البركا.
الارتجاج يطرق رأسها، تتوقف، تضيع منها لحظة، تفكر في كتابة رسالة إلكترونية إلى صديقتها رغدة فور عودتها إلى البيت، تقول فيها:
= أريد أن أخبرك بشيء جديد، صاحبي بدأ يتغير، غير مواقفه عن المرأة، جدد قراءته، تعولم وتكوكل، تعلمين أنه في مقال كتبه أخيرا، أرخ فيه بداية الشعر بالشعر النسائي، موضحا بلاغة وفصاحة وبيان لغة المرأة، وثق مقاله بمراجع مهمة، منها: ذيل الأمالي، جاء فيه: كان للخليل بن أحمد صديق يكنى أبا المملى مولى بني يشكر، وكان أصلع شديد الصلع، فبينما هو والخليل جالسان عند قصر أوس، إذ مرت بينهما امرأة يقال لها أم عثمان، ومعها بناتها آية في الجمال، كانت توجههن وهن يسألنها عن غلبة الرجال، فتجيبهن بلسان بين بليغ.
انصرفت المرأة، وبقي الخليل وأبو المملى متعجبين منها ومن ذرابة لسانها وسرعة جوابها. صاحبها لم يقتصر في الاستشهاد بأم عثمان، أضاف أم هيثم، مدعما قوله بما ورد عن أبي عبيدة من فصاحة المرأة. صاحبها احمد لا يفتأ يقول لي:
= النساء يحسن الرواية لا الشعر والفلسفة.
أريد أن أخبرك صديقتي رغدة، أن شاعرا مرموقا معاصرا هو الآخر أكد تفوق المرأة في جنس الشعر، وصرح بدلك في قصيدة جاء فيها:
أنا الذي ربّيت بين
حجور النساء
بين أيديهنّ نشأت
وهنّ اللواتي علمنّني الشعر والخطّ والقرآن
ومن أسرارهنّ علمتُ ما لا يكاد يعلمه غيري
صديقتي رغدة، يجب أن تكتبي قطعة زجل جديدة، تهتمين فيها بقضايا عالمية، كانت نسيا منسيا، مثل
= لحظة، لتكوني أميرة شواعر العالم. وتقرئين في محفل كبير، قصيدتك مثل الشاعرة رتادوف.
= = = = =
(*) د. لطيفة حليم. أستاذة الأدب العربي في جامعة محمد الخامس (المغرب). الفصل أعلاه من روايتها "نهاران". الناشر: دار فكر، الرباط (2012). لها رواية أخرى بعنوان "دنيا جات" (2007).
◄ لطيفة حليم
▼ موضوعاتي
3 مشاركة منتدى
مقتطف من رواية نهاران, خديجة المطار | 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 08:48 1
قرأت هذه الرواية، أعجبت بها لأنها شملت قضايانا منها قضية فلسطين والعراق، بطريقة تجعلك تسبح في قراءتها بدون ملل.
أهنئك يا سيدتي على هذا الإنجاز الذي قدمتيه للقراء.
مقتطف من رواية نهاران, muhannad al nabulsi | 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 - 11:03 2
رائعة وخلابة هذه الكتابة السردية ،لأنها تجعلك تحس بالأحداث وبنبض الكاتبة او بطلة القصة بلا مواراة وتجميل وفبركة ،كما أنها تخلط الحاضر المدني في مدينة غربية بالماضي التراثي وتجذبك للالمام بالتفاصيل ولمتابعة السرد بلا ملل وكانك تشاهد فيلما سينمائيا لمخرج فنان ومصور محترف يعرف كيف يلتقط زوايا المشاهد ...كم بودي ان اتمكن من الاطلاع على النص الكامل واستمتع بقراءته ، كما اني اعتقد أن قراءة هذا السرد الاستثنائي مفيد جدا للكتاب المستعجلين النرجسيين اللذين يعرضون خواطرهم الانشائية الذاتية ، فقراءة هذاالنمط السردي الفاتن مرارا فد يفيدهم كثيرا !
مقتطف من رواية نهاران, ليزا قسوس | 5 كانون الأول (ديسمبر) 2012 - 06:14 3
امتاع حقيقي لكاتبة تعرف كيق تصيغ احداثا روائية وتربطها بنبض الحاضر ! فليس كل من يدعي الكتابة كاتبا او روائيا ...