عبد الهادي شلا - كندا
قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟
حدث هذا في يوم من أيام ربيع العام 1983، وما خطر لي أنني سأعود من زيارتي لمعرض التراث الفلسطيني بكل هذا الإحساس بالانكسار، فقد تجولت وصديق شاعر في أقسام المعرض الذي غطى مساحة كبيرة من أرض المعارض، وتعددت النماذج الفلسطينية التراثية، واكتظت قاعات العرض بالزائرين من مختلف الجنسيات، إذ أنه معرض سنوي يستمر أسبوعا على الأقل، ويحرص الجميع على زيارته وشراء ما يعشقون من منتجات فلسطين التراثية وزيتونها وزيتها ومصنوعاتها الخشبية والمصدفة لنماذج من المدن الفلسطينية وخاصة قبة الصخرة، وغير ذلك.
أخذنا وصديقي نتتبع صوت الأهازيج والأغنيات الآتية من أقصى أرض المعارض واتجهنا إليها ونحن نتابع كل ما تقع عليه عيوننا ونعلق عليها بفخر واعتزاز. إنه تراثنا الذي يحفظ هويتنا، ولن يضيع ما دام هناك من يرعاه ويحافظ عليه في الشتات وفي الوطن.
في البقعة التي توجهنا إليها، كانت هناك امرأة تخبز "الرقاق" على "الصاج" الذي سال له لعابنا، فأسرعنا نحوها وطلبنا منها بعض "الرقاق" الساخن، ولم نتردد بتناوله وسط تعليقات لطيفة من بعض الحضور، ونحن نرد عليهم بأنه خبزنا الذي تربينا عليه وعشقنا رائحته. إنها رائحة الوطن فكيف لا نعشقها!
ما توقف صوت الأناشيد، والأهازيج التي جئنا لسماعها، فالتفتنا واتجهنا إليه. بنات ما بين سن الخامسة عشر والثامنة عشر، شكلن حلقة "دبكة فلسطينية" بملابسهن الفلسطينية المطرزة الجميلة، الباهرة بألوانها ووحداتها الزخرفية التي أعشقها.
لنسمع بشكل أفضل. اقتربنا قليلا، وكانت الصاعقة التي انتابتني حين أنصتُ بإمعان لكلمات الأهازيج التي تغنيها هؤلاء الفتيات وهن في عمر الزهور. كان صديقي الشاعر يتحدث إلي وما سمعته، فقد كنت أتابع وأنصت، أشفق عليهن وقلبي يتقطع ألما مما أسمع.
كانت أهازيجهن للحبيب. نعم، الحبيب. ولكن أي حبيب؟ إنه الشهيد؛ الأسير؛ الغائب؛ المهاجر؛ وكل من ليس في إمكان أي منهن أن تراه أو تهمس في أذنه كلمة تحلم بها كل فتاة: "أحبك".
في سري كنت أتساءل: إن كل فتيات الأرض في مثل هذا العمر يغنين للحبيب: الزميل؛ الجار؛ حبيب موجود ويمكن رؤيته في أي مكان وأي وقت، إلا بنات فلسطين فقد كتب عليهن أن يعشن مثل هذا الإحساس القاسي وأن يتحملن عذاب الفراق والبعد عن الحبيب.
أخرجني من عالمي هذا صوت صديقي الشاعر الذي كان يتأملني وهو يسألني ما الأمر؟ تحت وطأة الإحساس بالشفقة عليهن، والعجز أمام هذا الموقف، بُحتُ له ما دار في خلدي. تأملني ولزم الصمت. مر الوقت ثقيلا، ومُرهِقا؛ وافترقنا.
في طريق العودة إلى البيت كانت الصور تتكرر، وتكبر، وتتشكل في مخيلتي، وبدأ إحساس، أعرفه، ينتابني كلما هممت برسم لوحة جديدة، إلا أنه في هذه المرة يلح بشدة، وكأنه مارد عملاق يصحو من غفوة طويلة، بدأ يتمدد ليحطم كل شيء. وما أن وصلت إلى "المرسم" إلا وقد تشكلت اللوحة بكل تفاصيلها ومعانيها التي ما زلت أعاني من وقعها في نفسي.
أسبوعا كاملا وأنا أسقط إحساسي بذلك المشهد على قماش اللوحة. فتاة غمر الحزن ملامحها الصغيرة وقلبها الرقيق، تقف في وقار، تمسك بين أصابع يديها وردة صفراء تعطي الإحساس بأنها ستفلت من بين أصابعها، بينما الفتاة صامدة وسط حطام وخطوط تقاطعت بشدة تتوافق مع المعنى الكبير الذي اعتصر قلبي، وعصفور في الخلف يقف على حطام نافذة ينظر نحو البعيد: ينتظر؛ يراقب؛ يغني؛ ينشد؛ ولربما ينتحب.
إنها ابنة الوطن الحزينة، تنتظر الأسير أن يتحرر ويأتي ليحملها على حصان أبيض كفرسان العصور القديمة؛ أو الغائب الذي أرغم على ترك الوطن ومازالت تحفظ في قلبها الصغير ملامحه، وبين صفحات كتابها صورته؛ أو الشهيد الذي تعرف أنه خالد في دار الحق.
كل هذا الألم، والأمل في لوحة مكسوة باللون الأبيض. فهل كان هذا وشاح الفجر؟
◄ عبد الهادي شلا
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, زهرة-ي/الجزائر | 26 آب (أغسطس) 2012 - 07:41 1
الفنان و الكاتب عبد الهادي شلا:
هي فلسفة فنان يرفرف برؤاه العميقة
و ترجمة صريحة لعواطف انسان مبدع
امتزجت برؤى الجمال في الالوان
فتجسد هذا الرسم الفني الرائع بريشة مرهفة الحس
فشكرا لماسكبته من مشاعر انسانية راقية بالريشة و الحرف
1. قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, 30 آب (أغسطس) 2012, 13:08, ::::: عبد الهادي شلا- كندا
الأخت الكريمة زهرة
لك التقدير على تواجدك في مساحتنا وقرأتك الراقية
شلا
قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, إبراهيم يوسف- لبنان | 26 آب (أغسطس) 2012 - 08:09 2
عبد الهادي شلا – كندا
فاجأتني با سيدي أن تكون رساماً مرهفاً تحسن استخدام الريشة واللون.. كما تحسن الخطاب. والتقصير من قبلي فحسب. ألانكسار سمة اللوحة المييزة، بادية بوضوح يدركها مثلي من كانت مداركه متواضعة في الرسم.
"خذيني تحت عينيكِ
خذيني لوحةً لوزية في كوخِ حَسْراتي
خذيني آية من سفر مأساتي
فلسطينية العينين والوشمِ
فلسطينية الأحلام والهمِّ
فلسطينية القدمين والجسمِ
فلسطينية الكلمات والصمتِ
فلسطينية الميلاد والموت" (درويش)
1. قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, 30 آب (أغسطس) 2012, 13:07, ::::: عبد الهادي شلا- كندا
أخي إبراهيم
لقد رسمت معي ما كانت تحتاجه اللوحة بأشعار درويش وحسك العاي
شكرا
شلا
قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, موسى أبو رياش / الأردن | 27 آب (أغسطس) 2012 - 07:54 3
يا للروعة والإحساس المرهف ... لقد أبدع الأخ عبدالهادي في رسم لوحتين رائعتين رائعتين... اللوحة السردية التي لا تقل روعة عن اللوحة البصرية.
ويبدو يا صديقي أن الانتظار قدر محتوم على كل فلسطيني.. فلسطين تنتظر من يحررها... وفتيات فلسطين ينتظرن عودة الأخ والأب والحبيب من السجون... ومنهن من ينتظرن من لن يعود... وفلسطيني الشتات ينتظرون العودة... وأطفال فلسطين ينتظرون أن يعيشوا في وطن يشعرون فيه بالحرية والأمن والأمان...
1. قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, 30 آب (أغسطس) 2012, 13:09, ::::: عبد الهادي شلا- كندا
أخي موسى
سكرا لك ولكلماتك النبيلة..أضفت مذاقا جديدا للنص
شلا
قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, رحاب مليباري _ السعودية | 3 أيلول (سبتمبر) 2012 - 07:45 4
امتزج أبداع الريشة و قوة القلم .. ليظهرا في حلة بهية .. تشد الابصار والاذهان.. شكرا لك
1. قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, 13 أيلول (سبتمبر) 2012, 21:30, ::::: عبد الهادي شلا
الأخت الكريمة رحاب
لك كل الأمنيات الطيبة
شلا
2. قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, 23 أيلول (سبتمبر) 2012, 12:02, ::::: عبد الهادي شلا
العزيزة رحاب
أهلا بك وبكلماتك الراقية وشكرا لتواجدك
شلا
قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, أشواق مليباري | 17 أيلول (سبتمبر) 2012 - 11:00 5
لوحة مليئة بالأحاسيس، عجزت كلماتي عن الوصف فأسعفتني ذاكرتي
ارجع إلي فإن الأرض واقفـة كأنمــا فرت من ثوانيهــــا
ارجـع فبعدك لا عقد أعلقــه ولا لمست عطوري في أوانيهــا
لمن جمالي لمن شال الحرير لمن ضفـائري منذ أعـوام أربيهــا
ارجع كما أنت صحوا كنت أم مطرا فمــا حياتي أنا إن لم تكن فيهـا*
شكرا للنص الجميل واللوحة الأجمل.
* نزار قباني
1. قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟, 23 أيلول (سبتمبر) 2012, 12:05, ::::: عبد الهادي شلا
العزيزة أشواق
شعر جميل واحساس منك أجمل توافقا أمام النص والصورة
شكرا لحضورك البهي
شلا