عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

عبد الهادي شلا - كندا

قصة لوحة: لمن تهدى الأزهار؟


عبد الهادي شلاحدث هذا في يوم من أيام ربيع العام 1983، وما خطر لي أنني سأعود من زيارتي لمعرض التراث الفلسطيني بكل هذا الإحساس بالانكسار، فقد تجولت وصديق شاعر في أقسام المعرض الذي غطى مساحة كبيرة من أرض المعارض، وتعددت النماذج الفلسطينية التراثية، واكتظت قاعات العرض بالزائرين من مختلف الجنسيات، إذ أنه معرض سنوي يستمر أسبوعا على الأقل، ويحرص الجميع على زيارته وشراء ما يعشقون من منتجات فلسطين التراثية وزيتونها وزيتها ومصنوعاتها الخشبية والمصدفة لنماذج من المدن الفلسطينية وخاصة قبة الصخرة، وغير ذلك.

أخذنا وصديقي نتتبع صوت الأهازيج والأغنيات الآتية من أقصى أرض المعارض واتجهنا إليها ونحن نتابع كل ما تقع عليه عيوننا ونعلق عليها بفخر واعتزاز. إنه تراثنا الذي يحفظ هويتنا، ولن يضيع ما دام هناك من يرعاه ويحافظ عليه في الشتات وفي الوطن.

في البقعة التي توجهنا إليها، كانت هناك امرأة تخبز "الرقاق" على "الصاج" الذي سال له لعابنا، فأسرعنا نحوها وطلبنا منها بعض "الرقاق" الساخن، ولم نتردد بتناوله وسط تعليقات لطيفة من بعض الحضور، ونحن نرد عليهم بأنه خبزنا الذي تربينا عليه وعشقنا رائحته. إنها رائحة الوطن فكيف لا نعشقها!

ما توقف صوت الأناشيد، والأهازيج التي جئنا لسماعها، فالتفتنا واتجهنا إليه. بنات ما بين سن الخامسة عشر والثامنة عشر، شكلن حلقة "دبكة فلسطينية" بملابسهن الفلسطينية المطرزة الجميلة، الباهرة بألوانها ووحداتها الزخرفية التي أعشقها.

لنسمع بشكل أفضل. اقتربنا قليلا، وكانت الصاعقة التي انتابتني حين أنصتُ بإمعان لكلمات الأهازيج التي تغنيها هؤلاء الفتيات وهن في عمر الزهور. كان صديقي الشاعر يتحدث إلي وما سمعته، فقد كنت أتابع وأنصت، أشفق عليهن وقلبي يتقطع ألما مما أسمع.

كانت أهازيجهن للحبيب. نعم، الحبيب. ولكن أي حبيب؟ إنه الشهيد؛ الأسير؛ الغائب؛ المهاجر؛ وكل من ليس في إمكان أي منهن أن تراه أو تهمس في أذنه كلمة تحلم بها كل فتاة: "أحبك".

في سري كنت أتساءل: إن كل فتيات الأرض في مثل هذا العمر يغنين للحبيب: الزميل؛ الجار؛ حبيب موجود ويمكن رؤيته في أي مكان وأي وقت، إلا بنات فلسطين فقد كتب عليهن أن يعشن مثل هذا الإحساس القاسي وأن يتحملن عذاب الفراق والبعد عن الحبيب.

أخرجني من عالمي هذا صوت صديقي الشاعر الذي كان يتأملني وهو يسألني ما الأمر؟ تحت وطأة الإحساس بالشفقة عليهن، والعجز أمام هذا الموقف، بُحتُ له ما دار في خلدي. تأملني ولزم الصمت. مر الوقت ثقيلا، ومُرهِقا؛ وافترقنا.

في طريق العودة إلى البيت كانت الصور تتكرر، وتكبر، وتتشكل في مخيلتي، وبدأ إحساس، أعرفه، ينتابني كلما هممت برسم لوحة جديدة، إلا أنه في هذه المرة يلح بشدة، وكأنه مارد عملاق يصحو من غفوة طويلة، بدأ يتمدد ليحطم كل شيء. وما أن وصلت إلى "المرسم" إلا وقد تشكلت اللوحة بكل تفاصيلها ومعانيها التي ما زلت أعاني من وقعها في نفسي.
أسبوعا كاملا وأنا أسقط إحساسي بذلك المشهد على قماش اللوحة. فتاة غمر الحزن ملامحها الصغيرة وقلبها الرقيق، تقف في وقار، تمسك بين أصابع يديها وردة صفراء تعطي الإحساس بأنها ستفلت من بين أصابعها، بينما الفتاة صامدة وسط حطام وخطوط تقاطعت بشدة تتوافق مع المعنى الكبير الذي اعتصر قلبي، وعصفور في الخلف يقف على حطام نافذة ينظر نحو البعيد: ينتظر؛ يراقب؛ يغني؛ ينشد؛ ولربما ينتحب.

إنها ابنة الوطن الحزينة، تنتظر الأسير أن يتحرر ويأتي ليحملها على حصان أبيض كفرسان العصور القديمة؛ أو الغائب الذي أرغم على ترك الوطن ومازالت تحفظ في قلبها الصغير ملامحه، وبين صفحات كتابها صورته؛ أو الشهيد الذي تعرف أنه خالد في دار الحق.

كل هذا الألم، والأمل في لوحة مكسوة باللون الأبيض. فهل كان هذا وشاح الفجر؟


لوحة للفنان عبد الهادي شلا

D 25 آب (أغسطس) 2012     A عبد الهادي شلا     C 11 تعليقات

5 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

عن مبدعة الغلاف

كلمة العدد 75: عن معايير حقوق الإنسان

العمارة وهوية المكان الجندرية في فلسطين

الوافـي: كتابُ تأريخ أدبيّ وتراجِـم ونقـد

آثار اللغة البونية في اللهجة الجزائرية