محمد محمود التميمي - الأردن
على جانب النهر
على جانب النهر حياة لها رونق خاص وطقوس فريدة، على جانب النهر للدنيا شكل آخر وصفة أخرى وللزمن دقائق وساعات لا تخضع لتعاليم الوقت.
على جانب النهر يلتقي المحبان لأول مرة، تفصل بينهما مسافة حب مرتعش، يتحركان بعفوية مصطنعة لعل يداً تلامس أخرى، أو عيناً تلتقي مع عين وتصمت لغة الكلام بينهما.
يسترق الشاب النظر للفتاة، فتشعر هي بحسها الأنثوي بوقع عينيه، فلا تلتفت لكيلا تقطع عليه إبحاره في دقائق وجنتيها وتكتفي بابتسامة خفيفة وخجل مشمشي على الخدود تزيد من حسنها ومن وقع نظراته عليها. على جانب النهر يولد الحب.
كرسي آخر، حبيبان يلتصقان ببعضهما، حتى يخيل للناظر لهما أنهما توأم سيامي، يتعاهدان على عدم الفراق ويقسمان على ذلك اغلظ الأيمان على ذلك. يضمها بذراعيه ويشد عليها، فترمي برأسها على صدره، يتردد النفس في صدريهما معا في آن، وكأنهما يغنيان معاً، يسود صمت بينهما، صمت المحبين الذي تتهادى في القلوب وتستكين، وترقص العقول جذلى بشريك الحياة الأبدي. على جانب النهر يكبر الحب.
أستمر بالسير الهادئ متأملاً صف الكراسي الطويل على جانب النهر، أمر عليهما يتجادلان ويتناقشان بحدة مرة وبهدوء مرة أخرى، يعلو صوته وينفعل، فتخفض رأسها تفادياً لكلامه القاسي المنطلق بكل اتجاه، تلجأ إلى محبس ذهبي رقيق وتبدأ بتدويره مرة بعد مرة، وكأنما تريد إعادة الأيام الخوالي، يستمر في التخبط بكلامه فتصيبها احدى كلماته فتجرحها وتنزف منها بعض الدموع. يصمت ويدرك فداحة ما صنع، فيرفع رأسها ويقبلها على جبينها ويضمها وهو يعتذر. على جانب النهر يتجدد الحب.
يجلسان متباعدين على طرفي الكرسي الخشبي، يفصل بينهما مسافة أطفال ثلاثة، ورابع يملأ حضنها. يلعب الأطفال ويلهون بما في أيديهم من أكل وشرب. يسألون بطفولة لا تخلو من الخبث عن كراسي العشاق، وعن سر هذا النهر الذي لا يفارقانه حتى يعودا إليه. فلا يجيبان ويكتفيان بنظراتٍ متبادلة لبعضهما والابتسام. على جانب النهر يصمت الحب ولكنه لا يغادر.
رعشةٌ في اليدين وألمٌ في المفاصل وثقلٌ في السمع وضعفٌ في البصر، يجلسان متجاورين لا يتكلمان إلا بصيغة الماضي التام، يعيدان الجملة مراراً وتكراراً كي يتأكدا من أنها وصلت للطرف الآخر بشكلٍ صحيح، يضحكان بملء قلبيهما رغم ما فيه من تعب ومرض وشرايين مسدودة، يضحكان فيكشفان عن منزل غادر سكانه منذ زمن فعاد كما كان خالياً إلا من سجادته الحمراء. تلتقي اليدان معاً فيستخدما كل ما أبقى الزمن لهما من قوة لتقبضا على بعضهما البعض. على جانب النهر يستمر الحب.
هناك على آخر كرسي، يجلس وحده صامتاً مكتفياً بالنظر للنهر وإطعام البط ببعض من فتات الخبز معه، يسرح بخياله هناك، إلى المستقبل مرة والى الماضي مرات. ما أن ينتهي من إطعام البط حتى ينفض يديه ويجلس في منتصف الكرسي لبرهة، ثم ينزوي لطرفه برهة أخرى، وقبل أن يقوم بحركة أخرى أستأذنه بالجلوس فيأذن لي، وما أن اجلس حتى يغادر وهو يقول معتذراً: لدي موعد عند مصب النهر. على جانب النهر... أتمها يا من تقرأ نصي.
◄ محمد التميمي
▼ موضوعاتي
- ● نحن والحزن
- ● الآن فهمتكم
- ● موظفة الترويج
- ● مرايا
- ● أهلاً بالمستقبل
- ● الركض تحت المطر
- ● أبحث عنك
- [...]
8 مشاركة منتدى
على جانب النهر, أشواق مليباري | 25 أيلول (سبتمبر) 2012 - 17:17 1
لا أدري ..!
ربما على جانب النهر... ينتهي الحب أيضاً
1. على جانب النهر, 30 أيلول (سبتمبر) 2012, 08:34, ::::: نهى التميمي
نعم أستاذتي أشواق...
هذا ما يحدث عند الغروب... عندما تلامس أشعة الشمس الجانب الآخر من البحر وتبدأ بالغوص في أعماقه ليسدل الليل عباءته معلِنةُ انتهاء المشوار... ليبتدي بعدها مشوار آخر
2. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 08:54, ::::: محمد التميمي
أستاذة أشواق ... على جانب النهر كل المشاعر تختلط كما يختلط الماء في النهر المضطرب.
نهى ... تعبيراتك جميلة وتضيف طعما آخر للقصة
على جانب النهر, مادونا عسكر/ لبنان | 27 أيلول (سبتمبر) 2012 - 09:44 2
على جانب النهر، شجرة الحياة منتصبة تنتظر ذاتاً بأنوار الحبّ ملتهبة، لتقترب وتجني ثمارها النديّة. اقترب منها وتلمّس عبير ذاته الأخرى، وكان الموعد فكان اللّقاء..
تحيّاتي أستاذ محمد محمود التميمي
1. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 08:55, ::::: محمد التميمي
الاستاذة مادونا
كلماتك رقيقة وتغزل نهاية متفائلة للقصة، أشكرك على هذه الكلمات.
على جانب النهر, نهى التميمي | 30 أيلول (سبتمبر) 2012 - 08:48 3
على جانب نهر... هناكَ حديقة أينعت أزهارها بشعاع رقيق أطلقته أعينِ العشاق...واستيفظت ورودها على شذى تهامس الأحبة... وتلونت سماها بألوان قوس مطر مع كل ابتسامة خفيفة خرجت من قلب اهتز شدةَ فرح...
هنآك... على حافة نهر
1. على جانب النهر, 30 أيلول (سبتمبر) 2012, 12:58
أهلا عزيزتي نهى، حضورك كشعاع الشمس.
تحيتي
2. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 09:42, ::::: محمد التميمي
عزيزتي نهى
عباراتكِ الجزيلة اختصرت القصة ورسمتها بمنظر طبيعي جميل، فزادها رونقا وجمال. دمت وسلمتِ
على جانب النهر, نادرة | 30 أيلول (سبتمبر) 2012 - 10:08 4
على جانب النهر يولد حب جديد
1. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 10:12, ::::: محمد التميمي
على جانب النهر يولد الحب ويكبر ويشيخ كذلك ... شكرا على التعليق
على جانب النهر, زهرة-ي/الجزائر | 30 أيلول (سبتمبر) 2012 - 17:52 5
على جانب النهر، قرب المصب، لفظ تيار الماء جثته كما
لفظ جثتها ذات يوم. هناك في السماء ترفرف روحيهما معا
فوق نهر شهد حبهما كما شهد خلافهما و نهايتهما.
1. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 10:14, ::::: محمد التميمي
الاستاذة زهرة،
أبدعت في رسم النهاية رغم ما تحمل في طياتها من حزن وألم. دمت مبدعة
على جانب النهر, دعاء | 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 02:10 6
على جانب النهر وردة وظرف زهري مغلق ...
1. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 10:15, ::::: محمد التميمي
... وحكاية جديدة تكتب.
سلمتِ
على جانب النهر, مهند النابلسي | 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 04:07 7
مشاهد معبرة لسيناريو فيلم سينمائي صامت و جميل مرشح للحصول على جائزة دولية : بلاغة التعبير وسلاسة السرد وجماليات المشاهد...
1. على جانب النهر, 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 10:17, ::::: محمد التميمي
الاستاذ مهند،
أشكرك جزيل الشكر على كم المديح هذا ولطالما وددت في يوم ما أن تمثل احدى قصصي حتى ولو لم تفز بجائزة!
على جانب النهر, موسى أبو رياش / الأردن | 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 09:01 8
بنص مختصر معبر يختصر الأخ محمد الحياة الزوجية أو حياة الازواج منذ أول نظرة إلى الموت.
ولعل العنوان (على جانب النهر) نفسه معبر أكثر وأكثر ... فالحياة الزوجية تبقى حياة على جانب النهر... على هامش الحياة. ولا أدري متى تكون حياة في النهر نفسه؟؟
كل الشكر للأخ محمد على هذا النص الجميل.
1. على جانب النهر, 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012, 09:52, ::::: محمد التميمي
الاستاذ موسى
يشرفني مدحك لنصي ويعجبني تعليقك ونظرتك له.
اشكرك من اعماقي