عبير درويش - سورية
ق ق ج: حبذا لو ينطقون
.
قطرة ماء
الحنفية تُغلق بابها المسائي بعد رحلة شاقة مع التدفق. قطرة الماء الأخيرة تختنق وتختنق. تلتفُّ حولها الدائرة النحاسيّة. تُعاني قلة الهواء. تتعرّق بعد الجنون وتكبر في الداخل. إرهاق وانتظار. فجأة يأتي مغفلٌ في لحظة تطفّل. يتملّقها بجهل. يشد صنبور المياه بقوّة أكثر فأكثر. تسقط القطرة بوجع. تموت بصوتٍ محزن.
رحلة حصى
قذفتها امرأة معتوهة من الوطن. لم تكن الحصى تعلم شيئاً عن الحياة. هي خائفة ومسكينة. لم تعد تجد إخوتها هنا. غرباء. غرباء. الجو بارد وليس من أمكنة للنوم. أرهقتها الطرقات المتعرّجة. أصبحت خشنة وقد ملأتها الثقوب. أخيرا انتهت رحلتها الشاقة. انتهت في بركة قذارة. داستها الأقدام حتى الـتـّـفـتــت.
محادثة تحت السرير
يزداد العشق تحت الضوء الخافت. يهتزُّ السرير. الغرفة ممتلئة بالجنون. يسقط الحزام الجلدي على الأرض. ترتمي وراءه فردة الحلق من أذنها. يختبئ الاثنان تحت السرير. الحزام ينظر بوقاحة لها. يسترق النظر لجمالها تحت الظلمة. يقترب شيئاً فشيئاً. تبتعد بخجل. ثمَّ تعود بلهفة. تعلن بعينيها التمنّي، فيلمسها. الضوء الخافت يعكس جنوناً آخر تحت السرير. يتعرّى الأربعة على وقع الحلم، فتبدأ المحادثة الليليّة.
رصاصة وجدار
تتوحّشُ الرصاصة على أزيز الموت. تنطلق من فوهة الخبث تحمل بارودها الحارق. ترتطم بالجدار. تصرخ بغرورٍ مجنون. يرتجُّ الجدار. يتألم. تثقبه الرصاصة بحقد. يبقى واقفاً رغم الوجع، فتغرز في اسمنته بتحدٍ. يسقط الجزء الأضعف منه. يبقى صامداً حتى النهاية. تئن الرصاصة على وقع الخسارة، وتنهزم.
مشاجرة الأصابع
خمسة في النهار. خمسة عند المساء. خمسة عند الطعام. خمسة يقتسمون الأملاك فيبدأ الشجار. يتعاركون. يتقاتلون وهم في ذات المكان. يتألم الخمسة من الوريد. تنتهي المعركة. تتعانق الأصابع من جديد ليبدأ نهارٌ آخر.
خمسة في النهار. خمسة عند المساء. خمسة تحت الغطاء؛ ينامون على التآخي.
انتفاضة كرسي
لحظة تاريخيّة سوداء وكرسي. جلس الديكتاتور هنا يوماً. اغتاظَ الكرسي. أخذ يتأفّفْ. يتحرك قليلاً، يساراً ويميناً. ضرب الديكتاتور الكرسي ضربةً قويّة، فهمدَ الكرسي. طأطأ رأسه. انحنى لسنواتٍ عجاف. التصقَ الاثنان رغم الكراهية. أخذ الكرسي شكل الديكتاتور وحجمه. تخشّبَ واهترأ. هرمَ من الذل.
لحظة تاريخيّة بيضاء. رحلَ بعض الديكتاتوريين من هنا. الكراسي تسيرُ بثقة أمامه. استفاق. فكّرَ لأول مرّة. انتفضْ. إنّه الأبشع (قالها بألم). قرّرَ إعلانَ انزعاجه. صرخ وصرخ حتّى تقطّعت الأرجل، وتكسّر المسند. بقيت القاعدة تقاوم. أضرمَ الديكتاتور النار فيها. التهبتْ. تفتّتتْ.
الرماد يتشكّلُ من جديد على الأرض. يرسمُ قبراً على شكلِ كرسي ويتطايرُ مع الهواء بحريّة.
سارقٌ معتوه وظلّه
خرج من المكان خائفاً. كيسٌ مليءٌ بالأغراض المسروقة. إنّه النهار. لأولّ مرة يعمل تحت أشعة الشمس. كان معتوهاً ومضطراً. وقف ليتأكد من خلو الطريق. اطمأنّ للصمت وأخذ يهمُّ بالاختفاء. عيونه تنظر للخلف بقلق. أحسَّ بوجود شيء ما مريب. عاودَ التوقف للحظات. توقفَ من وراءَه بحركة واحدة. تعرّق من الرعب. ارتجفَ وتساءل: كنتُ حذراً. لم يكن أحد في المكان. ما هذا اليومُ المشؤوم؟
خيوط الشمس تمتد أمامه فيكبر الظل أكثر فأكثر. يركض ويركض. يلحقُ به بإصرار وعزيمة. يلهث. يتوقف مرهقاً. تتجمّد قدماه. يبرد جسده ليصبح قطعة ثلج تذوب تحتَ الأشعة. يأتي المساء ولا زال المعتوه في مكانه. ينظر خلفه. يضحك. يُقهقه بغباء. يرتاح من ظله ويسير بثقة: لن أسرق تحت الشمس مرة أخرى.
القلم ووسواسه القهري
نحيلاً وشاحباً مع الحزن. تنظرُ الأوراق له بدهشة. كان يوماً يكتب بسعادة، قبل أن تبدأ مواسم العذاب. يجرّ خيبته ويبكي على السطور بوجع. يعود للقلق. ينظر للحروف. يُمعن النظر. هناك حرفٌ ناقص هنا. لا بل هناك. كلا إنه في السطر الثاني.
هستيريا وهلوسات. جنونه لا يحتاج ممحاة. يملأ الكلمات بالحبر المتدفق. يمحوها بعنف. حتى تتمزّق الصفحات تلو الأخرى. دقات قاتلة من الساعة المجاورة تزيد من اضطرابه. يكتب ويمحو. يكتب ويمحو. الحركات ذاتها. التوقيت ذاته. يزداد نحولاً. يجفُّ الحبر فيسقط دون أن يكتب حرفاً.
القفل والمفتاح
تصادقا لسنوات في علاقة غريبة من التآخي. كلما رن الجرس استيقظا معاً. كلما دقّ الباب نهضا معاً. يفتحان معاً. ويُغلقان معاً. يوماً ما دخل بينهما دخيل. كُسر داخل القفل. قطعة حديديّة تقف بينهما. لم يعد المفتاح قادراً على معانقة القفل. منذ ذلك الوقت ولا زالَ البيت مهجوراً من السكان.
القهر اليومي لشارع ما
يبدأ الصباح كالعادة بازدحام شديد. المارّة لا يكترثون لوجعه. يدوسون بقسوة بأحذية قذرة ومتسخة. يرمون أكياس القمامة والفضلات هنا وهناك. السيارات تدوس أيضاً ولكن بعجلات كبيرة وثقيلة. القطط والكلاب تتسوّل دون اهتمام. وحدهم البؤساء والفقراء يتباطؤون ويتأملونه. لكنهم أيضاً يرحلون بعد التأمل. لو أنه ينطق، ولو لمرةٍ واحدة فقط؛ مرّة كي يكترث أحدهم لقهره اليومي.
مرآة
وجوه جميلة وأخرى قبيحة. حزينة مرات، ومرات سعيدة. قلقة أو مطمئنة. خبيثة تارةً وأخرى طيبة. تبقى وجوه. تطل بشكل يومي. تضحك المرآة لحركاتها الغريبة. لتأملاتها. لعيونها المتشدّقة. ثمّ تبكي لحزنها. لبؤسها. تتوجّع لجنونها وقلقها. تصدأ مع الوقت كالوجوه التي شاخت خلف الزمن. ترتطم كرة عابثة بها. تتكسّر قطعاً صغيرة حتى ينتهي الوجع.
صندوق وأسرار
منذ سنوات والصندوق يفتح بصمت دون أن يتساءل. اليوم اكتظّ بالأسرار فلم يعد يحتمل. رسائل وذكريات. أشياء صغيرة وروائح قديمة. ورود ذابلة تحت السكات. مفاتيح نحاسيّة بلون أصفر باهت. حتى الأوراق أصبحت صفراء منذ مدّة.
جثة لقلم فارغ. حتى الزوايا مليئة بالغبار القديم. ينتهي الظلام فجأة. يسمع صوتاً قادم. تدخل إحدى الأوراق عنوة. يبكي بمرارة. يقرأ كلمات العزاء الأخير. ينعيه ويغلق فضوله للأبد.
المفاتيح
- ◄ خاطرة
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
1 مشاركة منتدى
ق ق ج: حبذا لو ينطقون, هيام ضمرة | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 - 01:22 1
عبير درويش -ق ق ج
حبذا لو ينطقون
قرأت هنا جمالاً واضحاً للقصة القصيرة جداً، نسجت بفنية واضحة جمعت بين التكثيف والسرد المشوق واللغة المعبرة الجميلة بانزياحاتها التصويرية ودهشة الخاتمة، التي بتنا نفتقدها فيمن يكتبون هذا الفن اليوم ويجدون مطبلين يثنون على نصوصهم.. عبير درويش هنا تفوقت على ذاتها من خلال انطاقها الأشياء غير الناطقة، والتعبير بلغتها الجزلة، وصناعتها للقفله الغير متوقعة بدهشة المفاجأة، بل بغرابة المفاجأة.. وقد وظفت عنوان المجموعة بنجاح هائل (حبذا لو ينطقون) فهل الجماد ينطق..؟ بالطبع لا لكن عبير أنطقته موظفة خيالها الرائع خير توظيف.. وهمستي لعبير: ما أروعك بامتلاكك فنيات كتابة القصة القصيرة جداًمتمنية لك نجاحاً باهراً وتقدماً ملحوظاً رغم كونك متقدمة بفنيات هذا الفن الأدبي.. بالتوفيق والألق الدائم