عيسى الرومي - فلسطين
مصاحبةٌ للمعتمد بن عباد
برقٌ في القلب: مصاحبةٌ للمعتمد بن عباد من القصر إلى القبر
.
واقع الأندلس
أربعة أبياتٍ شعرية، في وصف واقع الأندلس، في تلك الفترة، تُغْني عن الشرح والتفصيل. يقول ابن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلسٍ
أسماءُ معتمدٍ فيـها ومعتضدِ
ألقابُ مملكةٍ في غير موضِعِها
كالهرّ يحكي، انتفاخاً، صولةَ الأسدِ
أجل، إنه واقعٌ مريرٌ، يزهد فيه الإنسان عن بلده. واقعٌ كله الخصامُ والتناحر على السلطة ، وتُسْتخدم فيه كل الوسائل والمؤامراتِ والأساليبِ من أجل الوصول إلى غايةٍ واحدة ؛ هي امتلاك السلطة، وتحقيق المصالح الشخصية الضيقة، دون مبالاةٍ بالآثار الناجمة عن هذه السياساتِ، وانعكاساتها على واقع المسلمين في الأندلس ووجودهم في الأجل القريب والبعيد.
وليت الأمرَ وقف عند هذا الحد، وكفى. لكنه تعداه، وتجاوز كل الأعراف والقوانين وأباح ما لا يباحُ. وبلغ الأمر بهؤلاء الحكام الملقبين بألقابِ الملوك والخلفاءِ، زوراً وتضليلاً، إلى الاستعانة بالأعداء ودفعِ الأموال لهم ….وكان سقوط طليطلة، كمثال معبر، إحدى نتائج الاتفاقيات مع الأعداء والتي كان طرفاها المعتمدَ والفونسو السادس.
كان سقوطُ طليطلة مدوياً، في كل الأرجاء والنفوس، وها هو الشاعر اليحصبي يصيح منذراً من الخطر القادم الذي لن يرحم ولن يترك أحدا ً:
شُدّوا رواحلَكُمْ يا آلَ أندلسٍ
فمـا المقـام بها إلا من الغلطِ
الثوبُ ينسل من أطرافه، وأرى
ثوبَ الجزيرة منسولاً من الوسَطِ
أسباب المحنة
استنجد الأندلسيون بيوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب، ليساندهم ويعينهم على الصمود في وجه الخطر الإسباني الداهم ودحره. ولبى الأمير النداءَ … وكانت معركةُ الزلاقة التي ألحقتِ الهزيمةَ بالأعداء بقيادة الفونسو. ورجع يوسف إلى المغرب، وبرجوعه عاد ملوكُ وأمراءُ الطوائف إلى ما كانوا عليه من قبل.
ذاك الواقع المؤسف المخزي الذي لا علاج له ولا رجاء فيه، دفع يوسف بن تاشفين، أخيراً، إلى العودة إلى الأندلس من جديد، للقضاء، هذه المرةَ، على كل الأمراء والنفعيين والمبذرين، ولتوحيد البلاد وتحصينها ضد الأعداء المتربصين بها من كل مكان.
هذا هو السبب الجوهري، ويمكن أن نستشف أسباباً أخرى. إن كثرةَ خيرات الأندلس ومياهها وزراعاتها وتجاراتها وتقدمها في مختلف الميادين، يُغْري القريبَ والغريبَ في الاستيلاء عليها. ومثلُ هذه الطبيعة تستنيم نفوسَ أهلها فتخلد إلى الراحة والدعة، ومن بعد ذلك، ومع طول المدة تعجز النفوسُ والجسومُ عن الدفاع والمحاربة، وقد لاحظ يوسف هذا. وينضاف إلى ما سبق، موقفُ الأمراء الأندلسيين من الحامية المرابطية ومحاولاتهم المتكررة ضدها، ومنع المؤن عنها وعزلها وتحديد مهامها.
في عام 483 هـ، بدأ دخولُ قوات المرابطين الحاسم إلى الأندلس، وفي عام 484 هـ دخلت القواتُ غرناطة ، ثم دخلت قرطبة ورندة، وقتل الواليان ابنا المعتمد المأمون والراضي فيهما. بعد ذلك فرغ المرابطون لإشبيلية، وحوصرت خمسةَ أيام. ودافع المعتمد ما استطاع، إلى أن قتل ابنه مالك بين يديه فأغمد السيف ونزل من القصر إلى الأسر لتبدأ صفحة جديدةٌ في حياته.
يلاحظ في شعر المعتمد خلال فترة أسره التي استمرتْ أربعَ سنوات أنه لم يذكرْ هذه الأسباب لا من قريبٍ ولا من بعيد. ويلاحظ أنه كان يكتفي حينما يتحدث عن أسباب محنته بالإشارة إلى أسبابٍ عامةٍ تحصل مع أي فرد من الأفراد، وفي أي زمن من الأزمان. يقول:
مضى زمنٌ والملك مستأنسٌ به
وأصبح عنه اليومَ وهو نفورُ
برأيٍ من الدهر المضلل فاسدٍ
متى صلحتْ للصالحين دهورُ؟
ويقول:
قلتُ: الخطوبُ أذلتني طوارقها
وكان عزميَ للأعداء طرّاقا
فالسبب عنده رأيٌ فاسدٌ من الدهر المضلل ، أدى إلى نفور الملك أو إذلال طوارق الخطوب له. وبذلك يعفي نفسَهُ من التطرق إلى الأسباب الحقيقية الكامنة في واقع الأندلس المعيش والمترسبة في نفوس أمرائها وولاتها.
وفي قصيدة أخرى يقدم سبباً آخر لما حل به ألا وهو الغدرُ:
وأبقى أُسام الذلّ في أرضِ غربةٍ
وما كنتُ لولا الغدرُ ذاك أُسامُ
دون أن يبين كيف غُدر به ومن هم الغادرون. كأن الكل يغدر بالكل فلا حاجةَ لذكر أسماء ولا لتسجيل أحداث. الغدر ظاهرةٌ وسمةٌ جليةٌ لأبناء ذلك العصر.
ناقوس الخطر
حوصرتْ إشبيلية، ووقفتْ على أسوارها وأبوابها جيوشُ المرابطين، ودقَّ ناقوسُ الخطر دقته الأخيرةَ، وبدأتِ النهايةُ، التي ستتبعها بدايةٌ أخرى، واضحةً لأي عينٍ، وكيف بعين ٍكعين المعتمد التي لا يخفى عليها خاف. لا مراء في استعداده للدفاع عن العرش والإمارةِ. ومع أن الاستعداد لا يحتاج دليلاً يثبته، ورغم أهميته فليس هو ما ننوي الوقوفَ عليه وتقييمه. إن ما يهمنا هنا هو الذهنية والمخيلة.
في مثل الظروف المحدقة به من كل صوبٍ، وعلى كافة المستويات تنفتح الذهنية والمخيلةُ على احتمالاتٍ لا نهاية لها. وأولُ أو آخر ما يلجأ إليه المرء ما وقر في القلب، وإلى ما يزيح الغمةَ ويفرج الكربةَ وينير طريق النجاة. ترى لأي شيءٍ لجأ المعتمد ؟
لجأ، كما يعلمنا هو، إلى المنجمين ليستطلعوا له أنباءَ الغيب وليبينوا ما خفي من أمور.
ألا يدل اللجوء إلى مثل هذه الفئة من الناس على سخافةٍ إيمان وعقل القائد؟
يدل بكل جلاء. ويثير الاستغراب والاستهجانَ. إن دلالة اللجوء وإثارته يجب أن توضع في إطارها المحدد، كما يجب عرض الأمر من زواياه الأخرى لتتضح الصورة. فإن بدا لنا، في عصرنا، غريبا تافهاً فهو ليس كذلك عند الآخرين مهما كانت رتبهم ومراكزهم التي يتبؤون. ففي عصرنا الحاضر، الموصوف، حقا، بالتقدم العلمي والتقاني، نجد بعض رؤساء الدول الكبرى لا يقدمون على اتخاذ أي قرارٍ إلا بعد الرجوع إلى المنجمين. أما نصيبُ الشعوب والأفراد فليس بأقل مما ذكرنا مع الرؤساء. وفي عصرهم السابق لم تكن الاستعانةُ بالمنجمين مما يُعدُّ غريباً. فقد كان شائعا جداً ولم يكنْ مقصوراً على أحد، والغالبية كانت تؤمن بالتنجيم والاستدلال، وما تنبئنا به الكتبُ كثير. والمعتمد لجأ إليه قبيل معركة الزلاقة. وهذه المرةَ، والجيوشُ على الأبواب، استدعى منجمَهُ الكبير أبا بكر الخولاني لا ليسمع قولَهُ وتفسيره ولكن ليسمِعَهُ ويسمعنا ويطلعنا على ما في قلبه من ألمٍ ومرارةٍ، وما هو فيه من ضيقِ حالٍ، وغياب رؤيةٍ إلا رؤية النهاية المفجعة وضياع الملك، حيث لا ينفع تنجيمٌ ولا كواكب في رد الخطر الداهم الذي يُغَيّب الأشخاصَ والأمكنة، فينشغل كل امرئٍ بنفسه ويذهل عمن سواه.
يقول:
أرمدْتَ أم بنجومِكَ الرمدُ؟
قد عاد ضداً كل مـا تعدُ
هـل في حسابك ما تؤملُهُ ؟
أم قد تَصَرّمَ عندك الأمدُ؟
والآن، لا عينٌ ولا أثـرٌ
أتراك غَيّبَ شخصَك البلدُ؟
آخر الصيحات الملوكية
آخرُ صيحات المعتمد كملكٍ وردتْ في قصيدته العينية الشهيرةِ، وبعدها سيصبح، كما سنرى، الملْكُ والإمارةُ من الماضي البعيد. ومع هذا التحول والتنازلِ، سنلاحظ أن المعتمد الشاعر سيبقى، وسيبقى إلى ما شاء الله خالداً في محنته وصبره، وخالداً في تسليمه لقضائه وقدره.
نلاحظ من خلال تسلسل الأحداث التي عصفت بإشبيلية، قلعة المعتمد، أن هذه القصيدةَ قيلت في غمرة تلك الأحداث أو هي روايةٌ لها فيما بعد، ويدعم رأينا هذا كثرةُ وجود الأفعال الماضية فيها التي تصف ما جرى في الزمن القريب، وما صرح به المعتمد نفسُهُ وعبر به عن محنته، وما لحقه من أذى وذلٍّ. يقول:
أجلي تأخر. لم يكن بهواي ذلي والخضوعُ
بالعودة إلى القصيدة/الصرخة نجد أنها اشتملت على عدة أحداثٍ ومواقف. الموقفُ الأول يصف توقفَ الدموعِ عن الانسكاب لهول ما رأتْ، وما ينتظرها من مصير. ويصف تنبه القلب وصحوته مما غشاه ودهمه، أي أن المعتمد الملك استعاد رباطة جأشه ودعا وزراءه للتشاور والتدارس فأشاروا عليه بالخضوع والاستسلام طلباً لنجاته ونجاتهم، متذرعين بأن الخضوع سياسةٌ. ولكنه يرفض ويعلن لهم أن طعم السم النقيع ألذ عنده من الخضوع ، ويرى زوال الملك أهونَ من مس الشرف. ونزل مدافعاً وحيداً عن شرفه غير محصن إلا من سيفه ومروءته وحشاه، غير آملٍ بالعودة، كعادته في كل الحروب، وكآبائه وأجداده السابقين. لكن الأجل لم يحنْ بعد وما ينتظره ما زال ينتظره.
موقف متوقعٌ منه، ويسجل له، وبالمقابل نراه، بعد قليلٍ، يغمد سيفَهُ، وينزل من القصر إلى الأسر، لتبدأ رحلةُ الخضوع والعذاب إلى أن يُوارى الثرى. بين هذين الموقفين نتساءل ونقول: لماذا الرفض ؟ ثم لماذا الاستسلام؟ وما سر هذا التحولِ؟ وهل له عذرٌ فيما فعل أم لا؟ كما سجلنا، ويسجل العالم كله له، موقفه الرافضَ للخضوع، سنسجل موقفه في الاستسلام ثم سنرى إن كان له أو عليه!
رفَضَ الخضوعَ، في البداية، لعدة أسباب. أولا، لأنه ملكٌ أبي والاستسلامُ مستبعد من قاموسه. ثانيا: انتظارُ المدد من حليفه الفونسو. ثالثا: ركونُهُ إلى جنده ومريديه في الصمود والمقاومة. هذه الأسباب، مجتمعةً، دفعته إلى الرفض وهي نفسها التي دفعته إلى الاستسلام. مددُ الحليف تم القضاء عليه في الطريق، وولداه قتلا في قرطبة ورندة، والجند والقادة تخلوا عنه في اللحظات الحرجة، وتركوه وحيداً، وهم عاجزون عن تقديم العون، وقتل ابنه مالكٌ بين يديه.
بعد هذه الكارثة أنكون منصفين إذا طالبناه بمواصلة الرفض ؟ ثم أنكون منصفين مرة أخرى إذا استسغنا استسلامه والتمسنا له العذر؟ ليس من الصواب أن نضع المعتمد في قفص الاتهام متهمين له أو مدافعين عنه، وليس من الصواب أن نصدر عليه حكماً سواءٌ أصاب أم أخطأ! الأقربُ إلى الصواب أن نضع أنفسنا مكانه، آخذين بعين الاعتبار سرعةَ سير الأحداث وحجم كوارثها. والصواب الحق هو أن نترك المعتمد نفسه يقرر، وعلينا أن نقدر قراره الذي اتخذه حين قاوم وحين استسلم وتنازل عن الملك إلى الأبد، مبقياً لنا - دون أن يستعطف آسيره بكلمةٍ واحدة - الشاعرَ الملك الأسير وما تثيره فينا سيرةُ حياته، وشعرُه في أسره من مشاعر إلى الأبد،
لما تماسكت الدموعُ وتنبه القلبُ الصديعُ
قالوا الخضوع سياسةٌ فليبدُ منك لهم خضوعُ
وألذ من طعم الخضوع على فمي السم النقيعُ
إن يسلبِ القومُ العدا ملكي، وتسلمني الجموعُ
فالقلب بين ضلوعِهِ لم تسلمِ القلبَ الضلوعُ
لم أُستلبْ شرف الطباعِ! أيسلب الشرف الرفيعُ
قد رمتُ يوم نزالهمْ ألا تحصنني الدروعُ
وبرزتُ ليس سوى القميصِ على الحشا شيءٌ دفوعُ
وبذلت نفسي كي تسيلَ إذا يسيلُ بها النجيعُ
أجلي تأخر لم يكنْ بهواي ذلي والخضوعُ
ما سرت قطّ إلى القتالِ وكان من أملي الرجوعُ
شيم الأولى، أنا منهمُ والأصلُ تتبعه الفروعُ
مشهد الوداع الأخير
استتب الأمرُ للفاتحين الجدد أم لم يستتب، فقد عُجّل بحمل المعتمد وأفراد أسرته إلى المنفى، وأُعِدت السفنُ للنقل. هذا الاستعجال يدل على أن الفاتحين أرادوا طيّ صفحته، وقطعَ الطريق على من يحاول التفكير في الثورة مجددا.
وقابل المعتمد استعجالهم، بصمتٍ، وحقق ما أرادوه، بعلمٍ منه أو بغير علم، وقابل بصمت، مشهدَ الوداع الذي اجتمع فيه له الناس أجمعون، على ضفتي النهر يبكون ويندبون مليكهم وولي نعمتهم. بصمت قابل دموعَهُم. وبصمتٍ قابل الجلال وحرقة الفراق، وبصمتٍ قابل الآتي الرهيب، بلا إشارة وبلا كلمات.
قلنا سابقا، إن المعتمد لم يُشِرْ إلى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى محنته، وهو الأعلم والأخبر من سواه بها، ونضيف هنا، صمته في مواجهة مشهد الوداع المؤلم الذي لا يستطيع القلب إلا أن يتفطر له، وإلا أن تذرف العيونُ بغزارة، مهما حاولت التأسي والاصطبار. ذاك ما يسوغ سؤالنا: لماذا ؟ الحق معنا في طرح السؤال، وليس معنا في فرض الإجابة على الشاعر، فهو حر يقول ما يشاء، ومتى يشاء، وليس لنا إلا أن نسمع ونصغي له حين يقول.
أسبابُ صمته، أمام الحشود التي اجتمعتْ لوداعه -حسب ما نراه- بطريقة عفوية، وعلى غير رغبة الفاتحين، وضمت مريديه ومبغضيه على حد سواء، أسبابٌ كثيرة، ونرى أنه رغم احتراقه وتفطر قلبه، أبى أن يَظْهر، في أوائل أيام أسره وأمام رعاياه بمظهر المنكسر، وقد يكون السببُ هولَ المصيبة ووقعها على نفسه بما عقد لسانه وأصابه بالذهول، ويمكن أن يكون قد أراد لهذا المشهد أن يمضي عاديا، ليفوت على الفاتحين ساعةَ الفرح بتحقيق النصر، وربما يكون انشغاله بما ينتظره، وربما رحمةً ورفقاً بأهله حتى لا يزيد في بلواهم. تلك أسباب رأينا أنها تصلح للتفسير، سواء أصابت أم أخطأت، وحسبها بين هذا وذاك أنها لمست لبَّ الصمت، وما يدور في القلوب.
ولئن كان المعتمد قابل مشهد وداعه بصمت، فإن الآخرين لن يطيقوه، وسيقابلونه نيابةً عنه بأحر الكلمات وأعز الدموع وبالغ الأسى، وسيسجلونه لحظةً لحظة، وفاءً لسيدهم الأسير.
يقول الشاعر أبو بكرٍ الداني صديق الشاعر:
نسيت إلا غداة النهر كونهمُ
في المنشآت كأمواتٍ بألحادِ
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا
من لؤلؤ طافياتٍ فوق أزبادِ
حُطّ القناعُ فلم تسترْ مقنعةٌ
ومُزقتْ أوجهٌ تمزيقَ أبرادِ
حان الوداعُ فضجتْ كل صارخةٍ
وصارخٍ من مفداةٍ ومن فادي
سارتْ سفائنهم والنوحُ يتبعهمْ
كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي
الجمر والدخان
لا شك أن مشهدَ الوداعِ السابقِ كان مشهدا مسرحيا، مباشراً، وبشكل طبيعي، مأساوياً تماما، ولو أن مخرجا سينمائيا أخرج فيلما عن المعتمد فليس له مناصٌ من أن يقف عند هذا المشهد طويلا.
إلى الجانب المسرحي والسينمائي، لنا أن نطلق المخيلة ونتخيل ما كان عليه المعتمد، ونرسم له صوراً ظاهرةً وخافيةً، أثناء سيره . لنا ما شئنا أن نتخيله ولنا أن نتخيله صامتا.
تستمر صورة الصمت الناطق إلى لحظةٍ معينة توقِفُ تخيلاتنا، وتقلب تصوراتنا عن المعتمد، وتعلن انتهاءَ الصمت، وتفاجئنا بنطقه وكلامه الذي يبدد ويخفف عنا عبءَ الظن والشك. نعمْ صَمَتَ، وسار، وأغمض عينيه، وهو محمولٌ على السفينة وفتحنا عيوننا وتحدثنا وهو صامتٌ، حتى هذه اللحظة، اللحظة المفاجئة.
ينتفض، لا كما ينتفض العصفور بلله القطر، وإنما كأن تياراً كهربائيا صعقه فلمع البرقُ في أعماق القلب وآفاق الفضاء، فيتساءل ويأمر عينه أن تنفتحا، فيرى ويا لهول ما يرى: غاب الوطنُ والأهلُ، وأصبح كل ما كان ماضياً، ولا شيء سوى المجهول في الانتظار. هنا يتوقف، ويستدير ليلقي النظرةَ الأخيرة على تلك الجهة التي لن تغيب عن باله وناظريه، ما تبقى له من عمر.
والسفينة لا تتوقف، ولا تعرف من تحمل، ولا تشعر به، ولا تسمع نداءه الخافتَ المدوي. نراه يحاول أن يحمل كُبوله ليلتفت، فلا يستطيع. ونرى الحراس يمنعونه، ولكنهم والسفينةَ، وإن حرموه نظرة العين، فلن يستطيعوا أن يحولوا ويمنعوا تلفت القلب بعد اشتطاط النوى – حسب تعبير الشريف الرضي.
الطريق إلى أغمات
نأتِ السفن بمن حملتْ، فإذا بنا نرى المعتمد ينتفض فجأةً ويتلفت قلبه. وبتلفتِ القلبِ، يتخذ قراراً يعفينا بموجبه من التخيل والتفسير، ويطلب منا بعطفٍ وكبرياءٍ أن نصغي إليه كما أصغى هو لنا في المشهد السابق، ويبدأ تسجيلَ وقائع رحلته التي ستستغرق أربع سنوات، في مقره الجديد الذي سيشهد ميلاد الموت، وموتَ الحياة وتداخلهما وافتراقهما. ويسجل نفسه وما يحيط به.
أثناء سيره مر على أهل بلدٍ خارجين للاستسقاء. وخروجهم يدل على تأخر المطر في ذلك العام، وأنه عام جدب وقحط إلا أن تنزل رحمة الله. إن هذا العامَ حافلٌ بكربه وأزماته. رآهم يخرجون لطلب الرحمة وكرم الله، وهو -المعتمد- جواد كريم، يجود بما لديه، لكنه هذه المرة على غير ما كان عليه. الآن لا يملك إلا الدموعَ الغزار يقدمها إلى المستسقين الذين يقدرون عطاءه وكرمه ويشكرونه ويعتذرون منه، متضامنين معه في محنته، كما تضامن معهم في محنتهم.
خرجوا ليستسقوا فقلتُ لهم
دمعي ينوب لكم عن الأنواءِ
قالوا: حقيقٌ! في دموعك مقنعٌ
لكنهـا ممـزوجة بـدماءِ
وأثناء إقامته بطنجة خرج إليه الشعراءُ والفقراء طمعاً منهم في نوال منه، بعد أن بلغهم ما صنع مع الشاعر الضرير الحصري، فوفدوا عليه من كل فج، يسألونه النوالَ وهو أسيرٌ معدم لا يملك ذهباً ولا وعوداً، ولكنه يملك أدباً أنفسَ من الذهب والوعود. سألوه في حال هو الأحق فيها أن يَسأل لا أن يُسأل، ولكن العزة والحياء يمنعانه أن يفعل ما فعلوا، ويلجئانه إلى الصبر والاحتمال، ويعصمانه من ذل السؤال. يقول:
شعراءُ طنجة كلهم والمغربِ
ذهبوا من الإغراب أبعدَ مذهب ِ
سألوا العسيرَ من الأسير وإنهُ
بسؤالهم لأحق منهم فاعجبِ
لولا الحيـاءُ وعـزةٌ لخميةٌ
طيّ الحشـا لحكاهمُ في المطلبِ
وقبل أن تُغْلق عليه أبواب السجن في أغمات، لا يفوت المعتمد أن ينقل لنا آخر صورةٍ له، وهو حر القلب، حر العينين، مكبل اليدين والرجلين.
في الصورة الأولى أعطى، وفي الثانية منعه الحياءُ من السؤال، وفي الصورة الثالثة أوشك أن يسأل. من حادث الاستسقاء نعرف أن زمن ترحيله كان شتاءً شديد البرودة والقر. ويبدو أنه قاسى البرودة الشديدة إضافة إلى ما عاناه. ألا يحق له أن يتقى البرد، ويحافظ على حياته، ويمنع المرض من التسلل إلى جسمه وبدنه ؟ له الحق أن يسأل ويقضي الواجبُ أن يُقدم له ما يريد دون سؤال. أوشك أن يسأل خباءً يقيه ويستره، وربما حرك شفتيه، وهمّ أن ينطق ولكنه لم يفعلْ ولم يسألْ، حينما أسْمَعَ، وجاء قوله عكسَ ما توهم المسئولون. ألقى على وجوههم العارَ وألصقه بهم، وأسقط عنهم الشرف والخجل. ليس هذا فقط، بل يتعداه، ويُعرض عنهم، كأنْ لا وجود لهم، فلا يخاطبهم مباشرة، بل يخاطب المجد نفسَهُ بسؤالٍ هو نفسه الجواب. يقول:
هـمُ أوقدوا بين جنبيك نارا
أطالوا بها في حشاك استعارا
أما يخجل المجد أن يرحلوك
ولم يُصْحبوك خباءً معـارا؟
صورتان
تقلبتْ وترددتْ نفسية المعتمد في سجنه، وتعددت الصور التي يمكن رسمها له، لكثرة ما اعتراها. ويمكن، تبسيطا للأمر، وتوضيحا، تقسيم الصور إلى قسمين رئيسين، بعد الإشارة إلى الصعوبة في الفصل بين الصورتين، وإلى إثبات الحذر، لآن الصور تتداخل وتتعاقب عليه، وقد تداهمه في نفس اللحظة.
=1= الصورة الداخلية
نجده صابراً مستسلما، ونجده راضياً حكيما، أحيانا، وأحيانا أخرى يائساً عابساً نادماً يستعجل الموت. إذن، كان يعيش ويحيا في داخله موزعا بين الصبر والرضا والحكمة واليأس، ولحسن حظنا أنه عكس وصوّر كل هذه الحالات في شعره بأروع الصور المعبرة والمؤثرة. وكان للحكمة النصيب الأوفى منها، ولعل سبب ذلك يعود إلى تقدم العمر وخبرته الطويلة والعميقة بالناس والأحداث، وحاجته لتغذية النفس وتقويتها لتتحمل وتصبر، ولتحتفظ بكبريائها وعزتها كما كانت من قبل. يقول:
أليس الموتُ أروح من حياةٍ
يطول على الشقي بها الشقاءُ
ومن يك من هواه لقـاء حِبٍّ
فإن هوايَ مـن حتفي اللقاءُ
ويقول في الدنيا:
ولا يغررك منهـا حسن بردٍ
له علمان من ذهب الذهابِ
فأولهـا رجـاءٌ من سرابٍ
وآخرها رداءٌ مـن ترابِ
ويقول:
أما لانسكاب الدمع في الخد راحةٌ
لقدْ آنَ أنْ يفنى ويفنى به الخدُّ
***
في الله من كل مفقودٍ مضى عوضٌ
وأشعر القلب سلوانا وإيمانا
وطنْ على الكره وارقبْ إثره فرجا
واستغنم الله تغنمْ منه غفرانا
***
تؤمل للنفسِ الشجيةِ فرجةً
وتأبى الخطوبُ السود إلا تماديا
نعيمٌ وبؤسٌ ذا لذلك ناسخٌ
وبعدهمـا نسخُ المنايا الأمانيا
=2= الصورة الخارجية
نستكشف، الآن، صورته الخارجيةَ، معه، وسنستمع إليه يجليها بدقة وباعتراف كامل، كما جلى واعترف في صورته الداخلية.
يلفت النظر في صورته الخارجية، في شعره، أنها السبب الرئيس في تكون وتشكل صورته الداخلية، ثم يحدث الانعكاس والتداخل بين الداخل والخارج.
ملكٌ أسيرٌ في أغمات، غريبٌ مُغَرب عن وطنه بعيدٌ عن أحبته، فقيرٌ، لا يصول ولا يجول. كل أحواله تبدلتْ حتى أدنى وأصغر الأشياء، وهو بعد ذلك عابسٌ مشغول بالشجن عن الفرح، غارق في بحرٍ من الدموع.
يشرح المعتمد صورته الخارجية باستفاضة ودون حرجٍ أو مواربة، ويفصل دون مللٍ وكأن الحديث عن صورته ورسمِها، هو شغله الشاغل، ولا شغلَ له سواه، ليبرز الصورةَ ويجمع شتاتها، وليعيد نظمها من جديد. يفعل كل ذلك ليحفظها في الأذهان لا ينازعها منازعٌ: العيون إليها ناظرةٌ، والقلوب عليها حانية. يقول:
كنت حلْفَ الندى وربَّ السماحِ
وحبيب النفوس والأرواحِ
وأنا اليومَ رهْنُ أسرٍ وفـقـرٍ
مستباحُ الحمى مهيضَ الجناحِ
لا أجيب الصريخ إن حـضر
الناسُ، ولا المعتفين يوم السماحِ
عاد بشري الذي عهدتُ عبوساً
شغلتني الأشجانُ عن أفراحي
ولا ينسى رفيقه الوفي الذي لا يبرحه، القيد، ويطيل القول:
يعيد على سمعي الحديدُ نشيدَهُ
ثقيلاً فتبكي العينُ بالجس والنقرِ
***
لك الحمد. من بعد السيوف كبولُ
بساقيّ منها في السجون حجولُ
***
تَعَطّف في ساقي تَعَطّفَ أرقمٍ
يساررها عضاً بأنيابِ ضيغمِ
***
قيدي أما تعلمـني مسلما
أَبَيْتَ أن تشفق أو ترحما
دمي شرابٌ لك واللحمُ قد
أكلتَهُ. لا تهشم الأعظما!
***
قد كان كالثعبان رمحُكَ في الوغى
فغدا عليك القيـدُ كالثعبـان ِ
متمدداً بحـذاك كل تمــددٍ
متعطفاً لا رحمــةً للعــاني
ويجمل وصف حاله لأبنائه القتلى:
فلو عُدْتُما لاخترتما العود في الثرى
إذا أنتما أبصرتمانيَ في الأسرِ
المكـان
سجن المعتمد في أغمات، عاصمة المرابطين آنذاك. وقد سجل اسمها عدة مرات في شعره مستغلاً كل سانحة وخاطرة. ولإثبات اسم المكان، وتجاهل أسماء الأشخاص الساجنين دلالات منها: إن أغمات تذكره بعاصمته أشبيلية، وهو من خلال التذكر يعقد مقارنةً لتبيان الاختلاف بينهما، ومنها تنفيسه وترويحه عن نفسه، وبيانُ معاناته فيها، ومنها انقطاع الأحباب عنه والأهل، مما أعطى البلدَ حضورا كبيراً يسد فراغَ وغيابَ الأهل من ناحية، ويملأه من ناحية أخرى بالألم.
غنتكَ أغماتيــةُ الألحانِ
ثقلتْ على الأرواحِ والأبدان ِ
***
أضاء لنا أغماتَ قربُكَ برهةً
وعاد بها حين ارتحلتَ ظلامُ
***
إذا قيل في أغمات مات جودُهُ
فما يُرْتجى للجودِ بعد نشـورُ
***
تخلصتمُ من سجنِ أغمات والْتوتْ
عليّ قيودٌ لم يحنْ فكُّهـا بعدُ
التذكر والحلم بين الجدران
بين الجدران والأبواب المغلقة، وتحت ثقل الأصفاد ونزيفِ القلب، يطول الليلُ ويشمل الليلَ والنهارَ، رغم امتلاء الشمس به، ويصبح الليل نهاراً، رغم احتجابها عنه، لما يعانيه من هو بينها وفيها من قلة النوم، وكثرة الأفكار، والخواطر، وقلة الحيلة.
المكان محددٌ بكل دقة، أما الزمان فزئبقٌ لا شكل له، صعبٌ، مراوغٌ، يعلو ويهبط، يتجمد ويتبخر في نفس اللحظة. كان للمعتمد ماضي عزٍّ وأصبح له حاضرُ ذلٍّ، ومستقبلُهُ كله بيد ساجنيه إلا قليلا مما يجول في قلبه وخاطره وأمنياته وتعلاته، حتى هذا القليل، عند ساعة الصحو واليقظة يصطدم بإرادتهم وتصريفهم.
الماضي بعيدٌ مؤلمٌ، والمستقبلُ بعيد مؤلم والحاضرُ —منتصف العصا— مرتهنٌ بيد الآخرين، وليس له منه إلا ما يجودون به عليه من قليلِ ماءٍ وطعام. إمساكُ العصا من الوسط دليلٌ على السياسة والمناورة، ومنتصفُ عصاه حاضرُهُ، وطرفاها ماضيه ومستقبلُهُ. المكان تبدّل لذا يجب على الزمن أن يتبدل. بمعنى آخر، عليه أن يمسك طرفيّ الزمان جاعلاً إياهما وسط العصا وعليه أن يدحرج الحاضر إلى الأطراف، ليتمكن من هز الحياة وتحريكها قليلا عن رأس الدبوس الذي وقفتْ عليه، حيث لا نفع لسياسة، ولا مجال لمناورة.
في مثل هذا الجو، سيقضي ما تبقى له من عمر، دون أن يعلمَ عددَ الأيام أو السنين التي سيقيسها بمقياسٍ غير مقياسنا، وسيعدُّها بغير تعدادنا.
إلقاء نظرةٍ سريعة على أشعاره في هذه الفترة الوجيزة الطويلة، يكشف لنا كيف كان يفكر ويتذكر ويحلم ويؤمن ويصبر ويصرخ، ويهمس، ويكتب ويشطب ويستقبل زائريه وذويه، وكيف يودعهم.
ليس أمامه إلا إمساك طرفي الزمان البعيدين ليهز الحياةَ وتهزه، وأقوى طريقةٍ وأنجحُ وسيلةٍ لتحقيق مراده التذكرُ والحلمُ. تذكر كل شيءٍ في حياته مهما كبر ومهما صغر، ونحسب أنه حَلَمَ كثيرا، استجابة، على الأقل، للفطرة الإنسانية. والتذكرُ والحلم وإن بدوا متناقضين في الشكل ومتعاكسين في الاتجاه، فهما متحدان ومنسجمان في الجوهر والأثر.
إلى صورِ تذكره، وحلمه:
= القصور:
بكى المبارك في إثر ابن عبـادِ
بكى على إثر غزلان ٍ وآساد ِ
بكى الوحيدُ. بكى الزاهي وقبتُهُ
والنهر والتاجُ. كلٌ ذلُّهُ بادي
= الأبناء الصرعى القديم منهم، والحديث.
هوى الكوكبان: الفتحُ ثم شقيقُهُ
يزيدٌ، فهلْ عند الكواكب من خبرِ ؟
توليتما والســنُّ بعد صغيرةٌ
ولم تكدِ الأيامُ أنْ صغّرتْ قدري
وقبلكما قد أُودع القلب حسرةً
تجدد طول الدهر، ثكلُ أبي عمرو
= ويحلم ويتمنى ويحن:
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلةً
أمامي وخلفي روضة ٌ وغديرُ
بمنبِتَةِ الزيتون موروثةِ العلا
تغني قيانٌ أو ترنُّ طيــورُ
= ويتذكر أيام الحرب والجود:
قد كان يستلب الجبارَ مهجتَهُ
بطشي، ويحيا قتيلُ الفقر في طلبي
أقسى من الموت
تفرق الشملُ، وأبناءٌ قتلوا، وبناتٌ سُبين، وروحٌ تحس الذل والهوانَ، وقيود تصلصل وبابُ سجنٍ لا ينفتح. تقبل المعتمدُ كل ذلك، كما ينبغي لرجل مثله، بالصبر والرضى، وتوطين النفس على التحمل، وأحياناً بالبكاء والدموع.
صبر وبكى، وتحمل حين قتل أبناؤه الأربعة، وظل متماسكاً. وكذلك فعل حين سُبيتْ ابنتُهُ بثينة وكتبت إليه في شأن زواجها. وحين صرختْ زوجُهُ بالذل والهوان، وحين ضاع الملك والعز، احتمل كل ذلك، وغيرَهُ كثير.
هل ظل في الروح والجسد قدرةٌ على احتمالِ شيءٍ آخر. خبّأ له القدر مصيبةً ستفقده القدرةَ، وستخرجه عن طوره. تلك هي مصيبةُ بناته الباقيات على قيد الحياة. يأتي العيدُ، ويزرْنَهُ، فيذهله حالهن، وما آل إليه أمرهن، ويتصدع قلبه، ويتفتت كبده مما رآه. وتضيق عليه الأرضُ بما رحبتْ، ويشتد به الحزن والعجز، وينطلق لسانه بشعر ٍ مرهفٍ حزينٍ، في يوم عيد لا كالأعياد ولا كالأيام. والفرحُ حتى الفرح قُدِّرَ له أن يأتيه بأفجع المآسي، وأن يبتليه في بناته. وتبتعد السعادةُ، بل ليس لها وجودٌ أصلا، ومن يعتقد بوجودها فهو واهمٌ مغرورٌ، ويرغب فيما لا رغبةَ فيه – الموت- ويصبح كل هواه لقاءَ حتفه ليريحه، كي لا يرى بناته عواري خادماتٍ عند من كان يخدمهن ويخدم أباهن.
في أبياته التالية غنىً عن كل شرح وتوضيح:
أليس الموت أروحَ من حياةٍ
يطول على الشقيّ بها الشقاءُ؟
ومنْ يكُ من هواه لقاء حِبِّ
فإن هواي مـن حتفي اللقاءُ
أأرغب أن أعيش أرى بناتي
عواري قـد أضر بها الحفاءُ
خوادمَ بِنْتِ من قد كان أعلى
مراتبَـُه إذا أبدو، النـــداءُ
وطَرْدُ الناس بين يديّْ ممري
وكفهمُ إذا غصّ الفنـــاءُ
***
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا
فساءكَ العيدُ في أغمات مأسورا
ترى بناتكَ فـي الأطمار جائعةً
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزْنَ نحـوكَ للتسليم خاشعةً
أبصارهنّ حسـيراتٍ مكاسيرا
يطأْنَ في الطين والأقدامُ حافيةٌ
كأنهـا لم تطأْ مسكاً وكافورا
لا خدّ إلا ويشكو الجدبَ ظاهرُهُ
وليس إلا مع الأنفاس ممـطورا
من بات بعدكَ في ملك يُسرّ بِهِ
فإنمـا بات بالأحلام مغرورا
شكلُ حالِ بناته، كما وصف، لا تسوءه وحده فحسب، وإنما تسوءنا، وتسوء كل امرئٍ ذي شرفٍ ومروءة، حيث لا يكفي اللوم والعتب والألم. وبما أن الأمر انقضى ولا سبيل إلى تغييره، فقصارى ما نقوله، في هذا الأمر: كما أيّدنا يوسف بن تاشفين في توحيد الأندلس وصيانتها والدفاع عنها، فإننا نرى في تصرفه هذا، وما آل إليه حالُ البنات تجاوزاً مهيناً، وشكلاً من أشكال الانتقام الفظ، وجريمة لا تغتفر.
الداني المباعد
الداني هو أحدُ الشعراء الذين برزوا أيام المعتمد وصحبوه وظلوا على اتصال به في أسره ومحنته، محافظين على المودة ومخلصين في الشدة والرخاء. هؤلاء الشعراءُ بثوا في شعرهم حزنهم على سيدهم وتمنوا عودته إلى سابق عهده، وزاروه في سجنه وراسلوه.
من مراسلات الداني للمعتمد، نتوقف عند قصيدةٍ أشْعره فيها بالوداع والعودةِ إلى الوطن. وأثّرتْ هذه القصيدةُ في نفس المعتمد، وهيّجتْ في نفسه الكثير، وأحس بالفقد كطفل، مما زاده غماً وألماً على غمه وألمه ووحشةً على وحشته، وظلاماً على ظلامه، وإحساسا بالخيانة وفقداً للأمل والعزاء. لكنه مع وقع القصيدة عليه يدعو لصاحبه أن يعمل ويعيش في أمنٍ وغبطة، ولا ينسى أن يحمله السلامَ إلى الديار، في فرصةٍ قد لا تتكرر.
يقول:
لقد كـان فألٌ من سمائكَ مؤنسٌ
فقد عـاد ضـدّاً والعزاءُ رمامُ
تحليـّتَ بالداني وأنت مبـاعدٌ
فيـا طيبَ بدءٍ لـو تلاه تمامُ
ويا عجباً حتى السماتُ تخونني
وحتى انتباهـي للصديـق منامُ!
تسير إلى أرضٍ بها كنتَ مضغةً
وفيها اكْتستْ باللحم منكَ عظامُ
وأبقى أُسام الذل في أرضِ غربةٍ
وما كنت لولا الغدرُ ذاك أسامُ
فبُلّغْتَهـا في ظل أمنٍ وغبطـةٍ
وسُـنّيَ لـي مـا يعوق سلامُ
قناع الثورة
يبدوا أن معظم أشعاره في السجن، بعيدةً عن منطق الثورة. فهل يعني هذا أنه لم يفكرْ فيها، ولم تحدثه نفسُهُ عنها، ولم ينتظرْ أخبارَها؟ بخفةٍ، نقتحم جدرانَ السجن، ونتسلل إلى أعماقه، لنطرح عليه الأسئلة، ولنستمع إليه. ترُى ماذا يقول؟
حتماً سيفاجأ بسؤالنا، وسيحدق فينا ملياً، متفحصاً متفرساً، نافذاً إلى أعماقنا ليعرف مدى جديتنا وصدقنا وحرصنا على حفظ السر. ثم سيشيح ويرفع بصره إلى أعلى ويكتم أنفاسَهُ، ثم يزفر، ثم يعيد التحديقَ إلينا، وقد حسم أمره، وقرر البوحَ بما في نفسه غير مبالٍ بنتيجةٍ، طارحاً الخوفَ منا والشكوك فينا، ونحن بدورنا استدراجاً له، وزيادةً في التطمين، نقول له: إنك معصومٌ ولن تصلك يدٌ، ولن يمسَّكَ سوءٌ، لك كل الأمان، وكل ما نريده منك الحقيقةَ لذاتها.
يخفض بصره قليلاً دلالة ً على الاقتناع بما قلناه، ونُصغي إليه، ويطول الصمتُ حتى يخيل لنا أنه تراجع، فإذا بصوته يطرق آذاننا، فننتبه من ظنوننا:
كل ما قلته ثورةٌ؛ بكائي ثورةٌ ودموعي ثورةٌ، وتصبري وحنيني وتذكري وتمنياتي وكرمي وسري وعلانيتي، وانكساري وانتظاري وحضوري وغيابي ثورةٌ ثورةٌ.
"لم تصرحْ بذلك!"
"ما نفع التصريح وما قيمته ؟ أتحتاج الشمس تصريحاً لتثبت وجودها؟ ألم تقرؤوا قصيدتي في ولدي عبد الجبار، وقصيدةَ الداني؟ اقرؤوا. إن فيهما النور الذي يثبت وجود الشمس:
كذا يعطش الرمحُ. لم أعتقلْهُ
ولم تَرْوِه مـن نجيعٍ يميني
ألا كرم ينعـش السمهريَّ
ويشفـيه من كل داءٍ دفينِ
ألا حنةٌ لابْنِ محنـيــــةٍ
شديد الحنين ضعيف الأنينِ
يؤمل من صدرها ضمــةً
تبوئـه صـدرَ كف معينِ
وقصيدة الداني:
وأعجبُ منك أنك في ظلامٍ
وترفع للعفـاة منارَ نورِ
رويدكَ سوف توسعني سروراً
إذا عاد ارتقـاؤك للسـريرِ
تأهبْ أن تعود إلى طلوعٍ
فليس الخسفُ ملتزمَ البدورِ
الشعر يحفر القبر
كنا في الصحراء تائهين. أنهكنا التعبُ والظمأ فنمنا إلا ثامننا، ملتصقين ببعضنا البعض، لنحمي أنفسنا من الغيلان والمفترسات، ولنقي أجسادنا من القر.
أيقظنا صاحبُنا على عجلٍ، وقبل أن نستفسر قال: انهضوا! انهضوا! لقد سمعت الصوتَ ينادينا من هناك. فزاد رعبُنا رعباً وظنوناً، وتلفتنا حولنا. فلم نجدْ أحداً ولم نسمعْ صوتاً ولا نأمةً وخِلْنا صاحبنا قد مُسّ.
من هنا انْبعث الصوتُ: "هيا اتبعوني!"
"لعل وعسى!"
وتسلقنا الكثيبَ الرملي، وتسمرنا في أماكننا حين نادانا الصوت: "هيا يا أبنائي. لا تتأخروا. إني أنتظركم منذ عشرة قرون!"
استشعرنا في الصوتِ روحَ الاستغاثة، وحرقةَ وطولَ الانتظار، فتماسكنا وتشجعنا، ثم تقدمنا بخطىً واثـقةٍ نحو الجدار، وأخذنا ننظر إلى الداخل من كوةٍ فيه.
"أدخلوا!"
"كيف ندخل من هذه الكوة التي لا تتسع لأصغر الطيور؟"
"إذا أخلصتم النيةَ ستدخلون، ولن تعوقكم الحواجز."
"عَلّمْنا!"
"لا وقت للتعليم."
وتحامل على نفسه، ورفع أصفادَ رجليه ويديه، وما إن استوى واقفاً، حتى رأيناه بيننا يُقَبّلنا ويصافحنا.
"اجلسوا."
كانت كلماته مقتضبةً. ولا أدري إن كان أصحابي وعوها أم لا! أما أنا فلا أذكر إلا قوله لنا: "بعد أن تقبروني، اكتبوا القصيدةَ فوق القبر." وأذكر أنه أخرج ورقة ً ومدّها نحونا، وأذكر أني تجرأتُ ومددْتُ يدي لاستلامها. وأذكر أني حين كنت أمدُّ يدي أيقظني صياحُ الديك.
صحوت، وتلفتُّ حولي بحثاً عن أصحابي والورقةِ وصاحبها. بحثت وفتشت، فلم أعثرْ على شيءٍ، وأخيراً عثرت على ورقةٍ كنتُ قبل أن أنام، قد سجلت عليها وصيةَ المعتمد وأرجو أن تكون عوضاً وخيراً مما ضاع:
قبرَ الغريب، سقاكَ الرائحُ الغادي
حقـاً، ظفـرْتَ بأشلاء ابْن عبادِ
بالحلمِ، بالعلمِ، بالنعمى إذا اتصلتْ
بالخصب إن أجدبوا، بالريّ للصادي
بالطاعن الضاربِ الرامي إذا اقتتلوا
بالموت أحمــر، بالضرغامة العادي
نعمْ. هو الحقُّ وافاني به قدرٌ
مـن السماء، فــوافاني لميعادِ
كفاكَ أخاه الذي غَيّبْتَ وابِلَهُ
تحت الصفيـحِ بدمعٍ رائحٍ غادي
ولا تزلْ صلواتُ الـله دائمةً
على دفينكَ لا تُحْصى بتـعدادِ
السجنُ خلوةٌ. واختلى المعتمد في سجنه وروحَه. واختلى في روحه وشعرَه، اختلى والشعرَ في خلوة الخلوات، وخلوة الجنازات: بشعره حفر قبرَهُ، وبه دفن نفسَهُ، وبه وقف راثياً، وداعيا بالرحمة، ومهنئاً القبر الذي حواه.
هنيئاً لك أيها القبر، يا قبرَ الغريب. هنيئاً لك بأشلاء ابن عباد. أشلاء جمع صاحبُها الحلمَ والعلم والكرم والشجاعة والصدارةَ. أيها القبر، ألا يكفيك ويشرفك ما حويت؟ بلى يكفيك وزيادة. فارْفقْ، إذاً، أيها القبر الظافر بالكرم والجود الذي غيبت أخاه. أيها القبر صلوات الله وسلامه ورحمته على دفينك.
للمزيد من المعلومات عن المعتمد بن عباد وشعره، يمكن الرجوع إلى الكتاب الصادر عن دار المعارف العمومية-مصر (1951) وهو: ديوان المعتمد بن عباد ملك أشبيلية. جمعه وحققه: أحمد أحمد بدوي وحامد عبد المجيد.
2 مشاركة منتدى
لعلَّ "ليون الأفريقي" لأمين معلوف خير شاهد على نهاية العرب في الأندلس وما رافقها من الصراعات الداخلية والتناحر، ومسرحية "ملوك الطوائف" "لمنصور الرحباني" تتوافق في أبعادها مع ما تفضل بقوله "عيسى الرومي" عن المعتمد بن عباد..؟ فإن كان للأدب والشعر دوره في قيام الأمم ونهضتها..؟، فهذا الدور تحول إلى النقيض حينما لم يقترن باليقظة لما حققه العرب من حضارة عظيمة في الأندلس.. والأندلس لم تكن يوماً أرضا عربية، ومن مسلمات التاريخ أن يرحل المحتل مهما طال الزمان.
ما يعنينا.. أن اليوم ليس بعيداً عن الأمس فيما يحدث في غير مكان على أرض العرب أنفسهم، فالشعر وحده لم يعد يجدي،"والحلم صحوة نائمٍ" ليس إلاّ.. أرجو أن يلتئم شمل هذه الأمة وتتقدم فيها الأفضلية لرأب الصدوع على ماعداها.. فإن كان بعض العبرة في الشعر والشيء بالشيء يذكر..؟ فهذا "مظفر النواب" يجهر بما في قلبه، "وكتاب الله مازال يعلق بالرمح العربية":
وما زلنا نتوضأ بالذل
ونمسح بالخرقة حد السيف
قتلتنا الردة يا مولاي
إن الواحد منا يقتل في الداخل ضده
نص بديع يصطحبنا إلى خلجات نفس تلك الشخصية التي طالما تحدث عنها المؤرخون بين الموالي المتعاطف و المعارض.
تحليل النصوص الشعرية جعلنا نعيش الأيام و الأحداث بكل تفاصيلها وكأننا نشاهد فلما وثائقيا مصورا ببراعة، مكتوبا بلغة جميلة وبأسلوب مشوق.
شكرا لك استاذ عيسى
كل عام وأنت وأهلنا في أرضنا الطيبة بخير