زينب عودة - غزة/فلسطين
ملف غزة: ذكريات تنكأ الجراح
نشر هذا الموضوع في العدد 44 (شباط/فبراير 2010)
ذكريات تنكأ الجراح
عام على العدوان على غزة
زينب عودة - فلسطين
الآن، وبعد أن مضى عام على الحرب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، اتكأت على سريري لأعود بذاكرتي التي تقطر ألما لأنقل شهادة حية عايشتها بنفسي ولم اسمعها من الآخرين.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف ظهرا من يوم السبت 27/كانون أول/ديسمبر 2008 حينما وطأت قدماي ارض الجامعة الإسلامية جنوب غزة للقاء أخير مع مشرفي قبل مناقشة رسالتي، الماجستير. وأثناء جلوسي برفقة زميلتي للحديث لحظة عما قد يحدث معي خلال المناقشة، فإذا بصوت مدو، ودون سابق إنذار، يزلزل المكان، ويعلن عن أن مدينة غزة على موعد جديد مع الألم، موعد يبدو للوهلة الأولى أننا لم نعش مثله. أصوات تتعالى، ونوافذ تتطاير، وصراخ آلاف الطالبات يصم الآذان. الكل يجرى. ولكن السؤال إلى أين؟ أينما نظرت تجد أمامك سحابة من الدخان الأسود، وقبل آن تلتفت للجهة الأخرى تشاهد السماء وهى تمطر صواريخ دون أن تسمع أو ترى طائرات في الجو.
المشهد كان كابوسا، ولكنه كابوس كان يلاحقنا ويزيدنا خوفاً، ألما، اضطرابا. والعقل يبحث في ذاكرته عن زاوية ليطمئن نفسه بان الأمر عابر وأنه لحظات وينتهي. ولكن هيهات.
العيون حائرة ودامعة، والخوف كان سيد الموقف. مشاعر اختلط فيها كل خوف وغاب عنها الآمن والأمان، وأصبح الموت رفيقنا. لا مكان للهرب. لحظة صمت دوت في المكان أخذت أنا وصديقتي كما الآلاف نبحث عن جدران يؤوينا أو مكان نختبئ به لنعرف ما الذي حصل وما الذي يحصل. استفقنا لحظة على بكاء وصراخ يزداد، نعم صراخ من الجموع المتواجدة التي باتت تخاف وتضطرب لكل صوت ولأقل حركة حتى خاف الجميع من ظهور كلب في المكان.
كانت لحظات ارتباك عنيفة، الصواريخ المنهمرة تزداد ضراوة، الصواريخ التي ضربت مبنى للجوازات ومبنى الشرطة الفلسطينية القريب من مقر الجامعة الإسلامية بغزة كنت اشعر أنه بقربي من شدته، وأن التالي قد يكون فوق رؤوسنا. وكان علينا فقط التحرك لا الانتظار أو التفكير في المصير.
لم نكن ندري أنا وصديقتي سمر كيف تتحرك أقدامنا وكلامنا أضحى غير مفهوم، فمعالم وجهنا كانت كفيلة بالتعبير عما يدور ويجول في خاطرنا. اندفعنا إلى سيارتي على غير هدى وجلسنا ننظر لبعضنا: هل سنموت الآن؟ هل سنسمع شيئا ما عن الأهل والأقارب؟ هل ساعة الحق، القيامة، اقتربت؟ وفتحت المذياع بسرعة وإذ بصوت المذيع بنبرة حملت في طياتها معاني السخط والألم من إذاعة صوت القدس المحلية يقول:
عشرات بل مئات الضحايا يسقطون الآن بسبب القصف الإسرائيلي، طائرات عدة تقصف قطاع غزة من جنوبه إلى شماله، تقصف الحجر والبشر. لا تترك أحدا.
تاهت نظرات عينني أنا وصديقتي سمر ونحن نرى زحف الطالبات، فهنا ترى طالبة تبكى وأخرى سقطت أرضا وهى تركض، وعدد منهن يرتجفن وهن يمسكن بهاتفهن الجوالة يحاولن الاتصال بأهاليهن كي يأتوا لهن.
وتوالى القصف وتعالت الصرخات وتسارع الركض بين الاتجاهين. ثم علا الصراخ أكثر وأكثر من ذي قبل. نظرنا حولنا. وجدنا الطالبات يصرخن يصوت أعلى وأعلى من ذي قبل. يصرخن خوفا من كلب كان يركض بالقرب منهن، وكأن منظر الكلب على الأرض بركضه المجنون فاق وقع الصواريخ التي تسقط من الجو. كنت لا أدرى وقتها أكان الكلب يركض خوفا من صوت الصاروخ أم لسبب آخر. خوف الطالبات أصبح خوفين: من الكلب الراكض حولهن ومن الصواريخ المتلاحقة التي تسقطها قوات الاحتلال الإسرائيلي. مشاعرنا في ذلك الوقت صارت خليطا من المضحك المبكي الغريب.
كانت العيون زائغة، والأقدام تركض، والأنفس تلهج، والمكان ينظر إليه وكأن حريقا نشب من شدة قوة قصف الصواريخ، والدخان الذي تصاعد لأعالي السماء يلونها بالسواد في نهار شتوي كانت الشمس فيه مشرقة. حاولت وصديقتي سمر في تلك الأثناء أن نخفف عن بعض الطالبات، وأن نربت على ظهورهن ونحاول أن نذكرهن بالرجاء من الله وطلب الثبات والسلامة.
ركبت وصديقتي السيارة متجهتين إلى بيتينا. بدا الاضطراب في كل شارع وزقة. وحين وصلنا شارع عمر المختار، الشارع الرئيسي، كانت السيارات في عجلة من أمرها. الكل يتسابق في الهروب من المجهول، أو من ذاك الصاروخ. أوصلت صديقتي لبيتها وودعتها. ووصلت بيتي. وجدت أبي وأمي وأخواتي وإخواني قلقين علي، فقد استشعروا أن القصف الإسرائيلي هذه المرة يفوق الخيال، وأن ما يحدث حرب على كل قطاع غزة.
وكانت فعلا الحرب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، استمرت حوالي ثلاثة أسابيع، وأوقعت خلالها ما يزيد عن مليون كيلو من المتفجرات والصواريخ. في كل يوم أيامها ينعدم لديك كل التركيز، فأنت تتوقع أن صاروخا سوف يسقط، وإن حاولت أن تستفيق يسقط صاروخ آخر. تنظر من حولك تجد أخاك أو جارك يسألك: أين يختبئ؟ وفي أي زاوية نحشر أنفسنا ليهرب من إيقاع وصخب الصواريخ المدوي؟ فيما يحاول طفله البريء الصغير أن يطفئ نار الخوف والقلق التي تدب في قلبه وتحكي عنها عيناه من هول الصدمة.
لا يعرف بشاعة الحرب وقسوتها إلا من أحس بها وعايشها بخوفها وقهرها وتألم من شدتها، بل وشعر أن بداخله إنسانا مقتولا ينتظر إعلان وفاته. عاش الجميع كل لحظة وهو يحدث نفسه بأن الموت أسهل من الحياة، وهو أقرب هنا في غزة.
لم نكن ندرى متى يأتي الصباح ولكن كنا على دراية بالمساء حتى بمجرد حلول الليل كان يزداد وتيرة القصف وخاصة حينما دخلت الحرب عمليات برية وبحرية وجوية استكملت حلقات الضرب، وبمجرد حلوله تستشعر بالخوف الرهيب فلا احد ينام ولا تغمض له جفون.
وحدها غزة، تشعل بنار القصف، توقظ كبارها وصغارها. أتذكر أسماء وأحمد توأم أخي حمدي: طفلان في السادسة من العمر. لكم بكيا مع كل صوت قصف ومع كل صاروخ ينطلق! تبددت أحلامهما وألعابهما. وعندما تسهى أعينهم لحظات، فجأة يوقظهم صوت الطائرات، خاصة ما تعرف بالاف 16 وكذلك الطائرة المعروفة بالزنانة. كلاهما يؤرق مضجعك. يجعلك تتساءل: كم روح ستحصد هذه الليلة؟ أو كم بيت ومبنى ومسجد ستقصفه؟
وبعد مرور عام على العدوان على غزة، راودتني تساؤلات: هل العالم، وما يعرف بالمجتمع الحر، لا يزال يذكر غزة؟ هل يذكر ما جرى بها قبل عام من قتل أبنائها أطفالها ونسائها وعائلاتها؟ وهل يذكر كم من بيت ومستشفى ومسجد دمر؟ هل بقيت غزة في الذاكرة؟
العدد 44 (شباط/2/فبراير 2010)
http://www.oudnad.net/44/zenab44.php
◄ عود الند: ملفات
▼ موضوعاتي